عندما قدِمت للدراسة في القاهرة أول مرة، قبل أربع سنوات، كان لديَّ شعور قوي بأن تلك العاصمة الضخمة ستبتلعني، وأنني سأشعر فيها -قطعاً- بالغربة والقِلّة والوحدة، ولكن ماذا فعلت لأجابه ذلك الشعور في بداياته؟
في الليلة التي سبقت سَفْرتي الأولى أعددت قائمة بأغانٍ تتحدث عن الغربة وآلامها المبرحة، كل هذا وأنا على سريري في بيت أمي، ظننت أن تلك الأغاني ستكون تسلية وسلواناً عن بعد الدار وطول السفر، وفي الصباح تحرك الميكروباص المتجه إلى القاهرة.
كانت وردة تغني في أذني: "خليك هنا خليك.. بلاش تفارق، بتقول يومين وتغيب سنة بلاش تفارق"، والبيوت والأراضي الزراعية تُخلَّف وراءنا بفعل سرعة الميكروباص على الطريق الزراعي السريع، أسندت رأسي للشباك كما يفعلون في الأفلام، وأنا أتلوّع بصوت وردة تخاطبني مباشرةً: "خلتني أخاف، لما بحسّ بخطوتك وخداك بعيد".
أرجوكِ يا وردة، قلبي المسكين الذي لم يفارق أمه قبل اليوم لا يتحمل، ذرفتُ دمعتين أو ثلاثاً، لم أجعلهم أكثر من ذلك، إلا أنني تذكرت أنني ذاهب إلى مكان لا أنيس فيه ولا جليس، لا أحد، لا أمي ولا أبي ولا إخوتي ولا أصحابي، لكنها غاية الحياة التي لا بد أن نمضي لها جميعاً.
كنت أراقب البيوت والأراضي، والمسافرين أيضاً، من بين دموعي، ولكي تهوّن عليّ هذا الشعور غنت أنغام: "سيبك أنت من دموع العين وقولي: خدت إيه في شنطة سفر!" وأظن أن أنغام لم تساعدني ولم تهوّن علي على نحو ما كنت أنتظر، صحيح أنني كفكفت دموعي، لكنها منحتني بدلاً من الدموع قلقاً ظل يصاحبني طوال الطريق.
خدت إيه في شنطة سفر؟ هل أخذت بطاقتي الشخصية والبنكية؟ هل أحضرت شاحن الموبايل؟ والقميص ذا الياقة الخضراء، هل وضعته أمي وسط أغراضي أم نسيت؟ سأقتل نفسي لو نسيت الجينز الأزرق، هذه ورقتي الرابحة في معركة الكاريزما! ظللت أتذكر وأفكر في كل محتويات الشنطة التي ترقد فوق ظهر السيارة، ولن أعرف على وجه التأكيد ماذا أحضرت وماذا تركت إلا عندما لن يكون بمقدوري العودة مرة أخرى.
وصلت، وكانت أيامي الأولى صعبة جداً كما قدّرت، بل ربما أصعب، وكانت تلك الأغاني تزيد الأمر سوءاً، أذكر أنني بكيت بكاءً حارقاً في طريق العودة من الجامعة عندما سمعت أغنية "أحن إلى خبز أمي" لمارسيل خليفة، وتذكرت أنني لست عائداً إلى خبز أمي ولا قهوة أمي ولا لمسة أمي، وإنما إلى غرفة ضيقة قذرة في المدينة الجامعية.
وواظبت على سماع تلك الأغاني حتى بعدما عرفت أُناساً رائعين هنا، ولستُ أدري لماذا كنت أفعل بنفسي المسكينة هذا، ربما كنت أحتاج لمسحة الحزن البادية في عيون الغرباء والوحيدين، ربما ستكون تلك طريقتي في التعرف على الفتيات الجميلات الساذجات لدرجة تجعلهن يعجبن بالحزانى والمحطمين وسكان المدن الجامعية القذرة مثل حالتي وقتها، أو ربما لئلا أنسى خوف "شادية" لمّا سافر حبيبها "عالبلد الغريب" مِن أن "ينسى إنه فايت في بلده حبيب"؟
لم أعرف وقتها، لكنني عرفت اليوم عندما اشتغلت تلك الأغاني وأنا أغسل المواعين، ولم تبكِني شادية ولا وردة ولا أنغام، وإنما أطربنني، وأعدنْ لي ذكرى الأيام الأولى بسذاجتها وعنفوانها وخيباتها، وربما كان السبب وراء ذلك أن شعوري القوي بأن تلك المدينة ستبتلعني لم يصدق، وإنما أنا مَن ابتلعتها وهضمتها، حتى صارت جزءاً كبيراً مني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.