في مرحلة ما من حياتي كنت أستقل القطار يومياً نظراً لطبيعة عملي، كنت أتعرف يومياً على الكثير من الناس، منهم من تكونت معهم صداقات دامت لسنوات، ومنهم من كانوا مجرد عابري طريق. كانت تعطيني المحطة كل يوم دروساً وعبراً، فالمحطة كالحياة، لكل من بداخلها وجهة هو موليها. وكان يعجبني منظر الناس يجرون مسرعين مهرولين خائفين أن يفوتهم القطار. كما كان يدهشني تعاملهم داخل العربات، رقة وأدب وعطف متبادل واستعداد للمجاملة والحرص على مشاعر الآخرين تماماً كعابري سبيل رفقاء سفر لن يطول جمعهم القدر. ينطلق صوت القطار منادياً نداءه الأخير معلناً بدء مسيرته الطويلة، كثيرون يجلسون في تأهبٍ على متنه، البعض يسرع في الصعود، وآخرون يركضون محاولين اللحاق به قبل فوات الأوان. كانت تجربة فريدة من نوعها، نوعاً من أنواع السفر الذي أصبحت شغوفة به.
في كل تجربة سفر كنت أخوضها، أجد أن هناك شيئاً مختلفاً عن كل الأشياء التي عشتها في ذلك السفر، ولا أنساه بمرور السنوات هو منهل من مناهل الحياة والتي لا بد للباحث في الحياة أن ينهال من دروسها اللامتناهية، في تجسيد لقول الإمام الشافعي:
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذَ العيشِ في النصبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسده إن ساحَ طاب وإن لم يجــــرِ لم يطبِ
كثيرة هي تجارب السفر التي خضتها ومتنوعة، بداية علاقتي بها كانت خجولة ككل البدايات، منها ما كانت ذات طابع عائلي ومنها ما كانت للدراسة ومنها من كانت للترفيه. وكل نوع كان له تأثير خاص.
كان السفر إلى البوادي بالتحديد المفضل لدي ذلك أنه يجردني من كل انتمائي، يلبسني لباس البسطاء السعداء، الأحرار والتلقائيين، الذين يرون الحياة بألوان الطيف، يجعلني أتمنى أن أكون مجرد امرأة قروية تعيش في قرية منفية تستيقظ على صوت الطبيعة الخلابة العذراء، والحيوانات الأليفة. أنام بعد صلاة العشاء وأستيقظ قبل الفجر لأستمتع بشروق الشمس خالية البال مستمتعة بالنسيم اللطيف الذي يداعب وجهي.
ففي البادية كل شيء حقيقي: الناس، تعاملهم، طبيعتهم، ضحكهم، كرمهم، مواعيدهم، أحاسيسهم… في البادية تتثاقل عقارب الساعة عن الدوران بسرعة لتقول لك توقف وفكر، وكأنك توفض فانوس الأسئلة الوجودية، من أنا، من أكون، ما دوري في الحياة وما هي رسالتي. وكأن البادية قوس وأنا سهم استمد قوتي منها لأرجع أقوى لحلبة الحياة الصاخبة أرتمي في أحضانها لإعادة ترتيب أوراقي في صمت، لكي أعود على بصيرة، لكي أكسر الروتين اليومي. لكن ما تفتأ أن تمر هذه الاستراحة الذهنية البدوية حتى أرجع إلى حياتي المدنية المتعبة لأبحث عن أحلامي المعقدة لأن حياتي ليست في صفاء البوادي، لكنها صاخبة مقلقة، أجري وأجري كأنني أصارع وحشاً متمكناً لا يرتاح حتى ينهكني.
النوع الثاني من السفر الذي يعجبني هو السفر الجمعوي، ذلك النوع قريب من سفر البوادي بل أسمى منه لأنه يتسم بالجدية والمسؤولية وإنكار الذات والتضحية؛ تتحمل به مشقة الطريق وصعوبة الظروف فقط لإسعاد الآخر، تحس بفقر وجوع المغرب المنسي. تتناثر المنازل المتباعدة والمبنية بالطين والحجر على الجبال، تغمرها الثلوج فيكسوها بياض يراه أهل المدن جمالاً ومتعة وسحراً، لكنه بالنسبة لسكان الجبال من القرويين قساوة ومعاناة وعزلة؛ أكثر ما يفطر القلوب ساعات مشي الأطفال للمدارس وانقطاعهم عنها أيام قسوة الظروف المناخية، ناهيك عن الجوع والبرد القارس، إضافة لذلك عدم وجود مصحات للتطبيب مما يجعلهم يعانون الأمرين. ورغم كل ذلك يتمسك أهل القرى بالجبال ويرون الحياة خارجها سجناً، راضون بحياتهم رغم قساوتها.
النوع الثالث من السفر هو السفر إلى الخارج، هذا النوع له نكهة خاصة لما فيه من اكتشاف لحضارات مغايرة، وأفكار وقناعات مختلفة تماماً عني وعن شخصيتي. هذا النوع من السفر لا أحبه كثيراً، أولاً لأنه يخرجني من منطقة الراحة ويدخلني إلى عالم غامض غريب عني ومخيف أحياناً، قد تكون له فوائد كثيرة لا محالة كتطور الشخصية واكتساب مرونة في الاندماج مع مجتمع آخر وتوسع الرؤيا واكتشاف حضارة جديدة. إلا أنني أحس بالغربة بسهولة. قد أكون على خطأ في وجهة نظري نظراً لظرفية السفر أو الحقبة، إلا أنني أعبر عما يخالجني بصراحة.
على سبيل الختم، أقول سافر فالسَّفر يتيح فرصاً طيبةً لتحقيق الانفتاح الفكريّ والتَّأثير المتبادل نحو حياةٍ أفضل ومجتمعٍ أكثر تقبُّلاً للآخر، سافر لتقترب من نفسك لتعرف مواطن قوتك وضعفك، سافر إن كنت مستضعفاً، فأرض الله واسعة، وهو ما قالت فيه العرب قديماً: اغترب تتجدد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.