كنت قلقة جداً، كيف سأخرج مع أتراك لا أعرف أحداً منهم، كيف ستكون هذه الرحلة؟ تساءلت عن مدى تقبلهم لي وطبيعة تعاملهم معي، هل ستجمعنا الطبيعة والإنسانية أم تفرقنا الجنسية واللغة والدين؟
كانت الرحلة في منطقة Cubuk Gölü BOLU تفوق توقعاتي، ليس بسبب جمال المكان فقط، بل إثر قرب ولطف الأشخاص وطريقة تعاملهم معي، بداية من "أورهان"، وحتى "سيمون"، و"سليمان"، و"أيوب" وغيرهم.
منذ نحو 4 سنوات وأنا في مدينة إسطنبول بتركيا، إلا أنني لأول مرة أشعر بكسر الحواجز مع الأتراك والتخلي عن العنصرية والتفريق بين ابن البلد والأجنبي، والقرب من الإنسان والعقل والقلب.
التجوّل في الطبيعة يجعل الإنسان خفيفاً كالريشة، يضحك كالأطفال، ويُعبّر عما في قلبه دون اكتراث، وهذا ما بدا على وجوه الجميع، على الرغم من اختلاف الخلفيات الثقافية والأعمار والأعمال وطبيعة الحياة التي يعيشها كل شخص.
هنا تجد الإنسان مجرداً من كل شيء، من الرسمية والبروتوكولات، من المدينة وصخبها وجمودها، من الطاولات المستديرة والسيارات الفارهة والحياة التي تقاس بالسنتيمتر ويحسب بها كل شيء بدقة وتراقب فيها ردود الأفعال.
هنا تجد "أورهان" يغني ويركض نحو الماء ليغمر جسده كله تحت الشلال، دون أي اكتراث لمن وصفه بـ"المجنون"، وهناك تجد "سيمون" (مسيحي) وهو يمشي ويفكر عميقاً في الكثير من الأشياء ويعبّر عن أفكاره وأعماله بفخر عن "حرية المرأة".
أما "سليمان" (رجل أربعيني)، فكان مثل الأب الروحي، يمشي بهدوء، ويتنقل بين الجميع ويتفقدنا هنا وهناك، و"أيوب" (قد يكون الأصغر بيننا) فكان الألطف والأقرب من قلوبنا، إذ لديه شخصية كوميدية تشبه الممثلين، يتصرف بعفوية وخفة دم تجذب الجميع حوله وبلا شعور تجده تكلم مع كل الموجودين والتقط لهم الكثير من الصور لتبقى ذكرى تسعدهم.
قرّبتنا الطبيعة، وشعرت بالودّ والألفة على الرغم من أنني لأول مرة ألتقي بهم، وتلاشت جميع مخاوفي منذ الساعة الأولى في بداية اليوم.
شعرت بالخفّة والراحة، حين رأيت العيون المتشوقة للتمتع بجمال الماء والسماء والشجر، ولاستنشاق الهواء المشبع بالأكسجين، وحين تركنا خلفنا أعباء المدينة وتحرك الباص، كانت اللحظة فارقة بالفعل، فنحن الآن في اتجاه استكشاف شيء جديد، مقبلين بكل إرادتنا.
بين أحضان الطبيعة، ضحكنا دون أن نكترث لشيء، تركنا كل همومنا خلفنا، عدنا أطفالاً، وكلنا أمل بأن نبقى كذلك، لتُحفر في ذاكرتنا أيام بها لحظات ستبقى حباً وحياة، لن ننساها.
قال لي "أورهان": حين أذهب إلى الغابة، أحتضن الشجرة، أستنشق الهواء النظيف لأشعر بعدها كأنني عدت إلى نفسي، وولدت من جديد.
في الغابة يا صديقتي، يتابع حديثه: بين الأشجار الخضراء أو حتى الأوراق الصفراء، تحت هذه السماء الزرقاء تشعر بالحرية، تعود إلى طبيعتك التي خُلقت منها، من طين، تحنّ إلى أصلك.
يشرح لي كيف يلقي الإنسان في أحضان الطبيعة الشحنات السلبية والتوتر الذي يسيطر على جسده وهو في المدينة، يبين لي كيف تكون الأطعمة هنا أصيلة الطعم، بلا هرمونات، حين تكتفي بخبز ولبن من الغنم، تغمس الخبزة في صحن اللبن وتأكل وأنت في قمة سعادتك، وفي وجبة أخرى تأكل البطاطا المسلوقة.
في هذه الأماكن ترى البساطة على الوجوه، وضحكة نساء ورجال القرى حين نلتقط لهم الصور ويرونها على الهاتف المحمول، وتكون الدهشة على وجوههم مثل دهشة الأطفال، مثل من يحظى بلعبة جديدة.
هذه الحياة حُرم منها أهالي المدن، والساعون وراء العربات والمنازل الكبيرة، والأشياء المادية التي تجعلنا نتمسك بها وتضيع علينا فرحة التمتع في هذه الحياة.
حين عدت إلى منزلي ونظرت حولي، أربعة جدران هنا بينها الكثير من الأشياء، وجدران أخرى هناك، إلا أنها كلها مغلقة، قليل من ضوء الشمس نراه كل يوم، ونعود إلى قوقعتنا.. هل خُلقنا لنبقى بين هذه الجدران؟
هل سنخلق ونعيش ونموت ونحن نخزن أنفسنا في أماكن صغيرة مربعة ومستطيلة ونضيع علينا فرصة الكشف والتعرف على خلق الله من نباتات وحيوانات وأماكن فسيحة؟
هل بتنا نرى في هذه الأدوات الإلكترونية والمباني الضخمة والعربات الفارهة أقصى أنواع المتعة وباتت هي حدنا؟ هل هذه الدنيا تقتصر عليها؟
كنا وما زلنا نقرأ الكثير من القصص والروايات ونجول في خيالنا مع شخصياتها، ونشعر بالخفة ونحن نسافر من مكان إلى مكان، لكن ألم يحِن الوقت لنعيش حياتنا بشكل أفضل؟ أو على الأقل لنكتشف شيئاً جديداً، ونتمتع بخلق الله ونتفكر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.