فهمتُ أمي ووصلت إلى الله بطريق جديد.. حين تقضي عزلك المنزلي بالريف

عدد القراءات
606
عربي بوست
تم النشر: 2020/05/07 الساعة 10:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/07 الساعة 10:24 بتوقيت غرينتش

يُحاول الإنسان قدر المستطاع أن يستوعِب جميع التغيُّرات التي تحدثُ في حياتهِ.

ومن خلال تلكَ التطورات الجذرية التي يقعُ فيها، يَخلق بينه وبين نفسه نظرية نقدية إبداعية يَعبُر من خلالها مُتجهاً نحو ذاته الأم ليُصبح هذا الإنسان بحراً واسعاً من التقلّبات ومن المفاهيم التي تُطرح على طاولة التحليل والنقاش، فالإنسان ظاهرة.

وبما أننا نعيش وسط عالمٍ تكالبت فيه المفاهيم وازدوجت إلى أن تجاوزت المعاني أقسى تصوراتها وبات من غير الممكن استيعاب ما يحدث من حولنا لم يعد للحياة سر نبحث وراء خلفياته ولا شك ممتعٌ نناضل من أجله للوصول لبحر اليقين.

وكلّما ضجّت هذه الحياة وتسارعت، ظهرت أزمة ما تدفعُ بتلك الضجة نحو السكون ثم إلى التلاشي.

لقد أتت أزمة كورونا، أو ما يعرف بكوفيد التاسع عشر، لتثير لبساً كبيراً اختلط فيه الحابلُ بالنابل، ليقع الإنسان رهن التحديات والمعلومات غير الدقيقة والحالة النفسية الحادة جراء ما يُعرف بالعزل.

فقد أصبح العالم منغلقاً، خائفاً من عدو مجهول بتربصُ بنا جميعاً، لتعيش البشرية على وقع أزمة واحدة وتعيش ألماً جماعياً.

شخصياً؛ أود أن أتحدث عن تجربتي في العزل المنزلي، وكيف ساهمت أزمة كورونا في تشكيل العديد من المفاهيم لديَّ.

فمنذ أن اتخذ العالم إجراءات العزل للحد من انتشار المرض وكبح جماحه وأنا متحمّسة فعلاً لهذه التجربة، فهل سيستطيع الإنسان الصمود كثيراً لهذا العزل المفروض فرضاً عليه؟

أحسستُ في بادئ الأمر أني لن أتأثر كثيراً بهذا الانغلاق، بل على العكس تماماً كنت أرى أن هذا الإجراء  -أقصد العزل-  عاديٌ جداً لكوني شخصاً دعنا نقول (بيتوتي) نسبياً.

ولأني مثل الأغلبية الساحقة، اضطررت إلى أن أترُك العمل وأُباشر به من المنزل لم يشكل لي هذا أيّ تأثير، فأنا من مُحبي العمل عن بُعد.

ثم إنّي اخترتُ التواجد في "الريف" مسقط رأسي، لأنعمَ براحةٍ نفسية بعد ضغط ضجيج المدن. ونحن نعرف أن العزلة في الريف ليست كالعزلة في المدينة.

ففي الريف يستطيع الإنسان التحرّك على راحته، بينما في المدينة الأمر فقط للضرورة القصوى. فقد كان يومي تقريباً مثالياً، أو لنقُل غاية في المثالية، فبين المطالعة واستثمار الوقت في تنمية المعرفة والكتابة التي يداوي الإنسان بها نفسه ومشاهدة الأفلام والوثائقيات غصتُ لدرجة أنني كنت أنسى نفسي، وأنسى العالم الخارجي.

ومن اللافت دوماً أنه كلّما غاص الإنسان في البحث والمعرفة يزداد العقل تشابكاً لمعرفة المزيد وطرح الكثير من التساؤلات حول كل ما يحدث.

وبين المطالعة وبناء الذات كان هذا العزل يخلق لي وعياً آخر، هذا الوعي يصبح أطروحة وجب الخوض فيها لمعرفة ما كنت عليه من تفكير حر عندما كنت أنعم بالحرية وما أصبحت عليه من فكر حر لكن محصور في هذا العزل.

يوماً بعد آخر؛ كنت أحس أن استثمار الدقائق للبحث أكثر والغوص في المعارف الكونية هو أمرٌ مفروغٌ منه. لكن حين يقتربُ الإنسان فينا من الواقع تصطدم أحجار مفاهيمنا معلنة خوض فهم آخر مخالف تماماً، والعقل من يشكل هذا المفهوم ويفرز طاقة بحثية مضادة لما نريد الوصول إليه. هذا المفهوم كان ذاتياً خالصاً.

ومرة أخرى ينفجر في داخلي السؤال المعجزة، لماذا أبحثُ عن ذاتي وسط الحجر؟ ما الذي تغير وما الذي لم يتغير؟

ومن بين شظايا التغير تمر الأشرطة الذاتية، أقف وأقعد ثم أنهض من جديد. أتطلع إلى ذاتي من زاوية معقدة، أرى ذاتاً مغايرة تماماً. إن هذه الأزمة دفعتني للحظة للبحث مرة أخرى "لأتعرف على نفسي من جديد". ومن هنا بدأ كل شيء، هذا البحث امتد من نحوي حول الآخر ثم العالم والمحيطين بي.

حين توغلت في معرفة الذات، توغلاً أستطيع تسميته بداية الانشقاق عمّا كنت أعرفه عني.

أحسست ذهني جافاً، وغمرني شعور ذاهل بي. كيف كنت أعيش حياتي اليومية وأنا لا أعلم ما الذي يتربص بنا؟ وأيّ صملاخ بليد يحجب عن أسماعنا صوت الذات الأم؟ وأية ذاكرة مثقوبة تلك التي تتيح لنا أن ننسى أنفسنا درجة أولى وأن ننسى أشخاصاً يعيشون معنا مثل العائلة درجة ثانية؟!

لقد أتت أزمة كورونا لتمزّق صوت التباعد الذي كنت أغرق فيه وتعلن لي الفضيحة! وهنا أقصد بالفضيحة التي جعلتني أبتعد عن الكثير من الأحبة ومنهم عدم فهمي لأمي وعلاقتي المتشعبة بها. ولكن تبقى ولا شك المسألة المثيرة التي هي موضوع تأمل، هي مسألة هذا الإنسان وتقلباته. فأزمة كورونا لم تعد بالنسبة لي وقاية وفقط بل باتت عاملاً من العوامل التي دفعتني لأن أقترب من كل شيء يدور من حولي؛ من نفسي، من عائلتي، من أصدقائي، من أحلامي، من الحياة، من اللّٰه…

وبما أن الأزمات ليست سوى ثنية للخارج، وأن الخارج يبقى فقط امتداداً سكونياً إن لم تحدث فيه تموجات تدفعنا للوصول لحقيقة من نحن؟ فإن هذه الأزمة جعلتني أفقهُ هذا الامتداد الذي كان ساكناً ليصبح متموجاً. وأدركت أن ذاتي كانت عبارة عن إنتاج لفردانية منغلقة، وأن ما كنت أتصوره عزلة هو فقط هروب من الالتقاء بالأنا ومعرفتها معرفة عميقة.

ومن الغريب أني ومع الحجر اكتشفت مدى ضجري من الانغلاق الذي رسمته لنفسي سابقاً وكيف يكون الإنسان بيتوتياً لهذه الدرجة، فالإنسان مغامرة.

فضلاً عن كل هذا، أيقنت يقين التائه أن علاقتي مع اللّٰه لم تكن علاقة متينة كما كنت أخالها، وأن ما كُنت أحسبه إيمان العجائز كان مجرد فكرة هشة جداً. ففي الحجر اقتربت من اللّٰه أكثر وفهمت أن الوصول إليه سبحانه له العديد من الطرق لا طريق واحد. وربما كانت الطريقة التي وصلتُ بها تتصف بالدقة إلى أبعد الحدود، حتى أني آمنتُ بنور قذفه اللّٰه في صدري، نور به اهتديت وبه أخرجني من الشك لليقين. فتوغلي في الكتب الدينية وفهمها فهماً عميقاً فتح أمامي أبواباً عدّة، ولعل أبرز باب كان "السكينة". فشكرت اللّٰه تعالى على النعمة به عليّ، وسألتهُ المزيد من فضله. ولولا ضيق المساحة هنا لاستدللت لكل خصلة ذكرتُها ولفظة أوردتها بكلامٍ أبلغ من هذا الكلام. وكما نعلم: إذا كثر الكلام كثر الخطأ والقول إذا تتابع لا يخلو من تناقض.

اليوم أستطيع القول بأن الكتب التي نلتهمها التهاماً لا تُشكل وعي الإنسان كلياً ولا تزيده تجربة بالرغم من أن الكتب تنمي الذات، ولكن التجربة أم المعارف.. فالإنسان تجربة.

ثم إن العلاقات المتقطعة ما هي إلا علاقات تستنزف منا ولا تعطينا ولا تحمل أُسساً ثابتة، ولكن العلاقات المركزية هي الكفيلة بأن تدفعنا لنُعيد ثقتنا بالمجتمع، لنعبر متناقضات. ثم إن الأزمة لم تضف شيئاً مُهِمّاً بالنسبة لعلاقتي مع عائلتي، فإن علاقتنا (بفضل الله) قوية متماسكة جداً، ولكن اكتشفت جانباً آخر من جوانب علاقتي بأمي، ومع هذا الجانب فهمت لماذا يحدث سوء التفاهم بيني وبينها، فتفكيرنا المختلف سببه أن لكل منا ثوابت وبيئة خلق فيها. ولهذا باتت أمي تفهمني وبت أفهمها، وهذا جيد بالنسبة لي.

لا حاجة لأن أجلد نفسي مرة أخرى وأخاف أن يفوت الوقت دون أن أحقق ما أطمح  إليه في عمر صغير، فقد علمت أن الوقت لا أساس له من الصحة، بل إن الإنسان يحقق ما يريد ما دام يريد الوصول لما يريد، فالإنسان إرادة.

لا أريد استعمال كلمات كبيرة وخاطئة، ولكن قناعتي تغيرت للأحسن، وصبري زاد، وشغفي تجاه ما أريده كبر، ويكفي أني فهمت أن الأزمات حين تأتي وجب استثمارها في فهم ما نحب، ودراسة أنفسنا دراسة مفيدة لنخرج للعالم مرة أخرى بذات مغايرة، وإن عدم تقبلنا للتغير -ولو للأحسن- هو هزيمة، فالإنسان متغير.

وأخيراً، من لم يستثمر هذه الأزمة في البحث وبناء الذات ومعرفة ما يريده لن يستطيع النجاة، فالإنسان بوصلة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مروى عبد الرزاق
كاتبة تونسية
مروى عبدالرزاق، أدرس بكالوريا آداب علوم إنسانية مشروع صحافة. مهتمة بالقضايا الإنسانية وأميل للسياسة والدفاع عن الكادحين، شغوفة بالمطالعة والكتابة، وعن قريب ستكون لي رواية
تحميل المزيد