رمضان 2015..
منهكاً، خائر القوى، ألتقط أنفاسي بصعوبة أدركت القطار قبل أن يشد رحاله ويطلق صفارته لمغادرة المحطة، كنت أحمل على ظهري وطني.
وطني حقيبة وحقيبتي وطن الغجر..
شعب يخيم في الأغاني والدخان..
شعب يفتش عن مكان..
بين الشظايا والمطر..
كنت أحمل حقائب الآمال وأسفار العلم التي حملتها منذ ثلاث سنوات حين غادرت مدينتي ويممت وجهي نحو القنال لأدرس في كلية الهندسة.
"كشري كشري علبة الكشري اللي عاوز يفطر، عيش طعمية عيش الطعمية اللي عاوز يفطر".
قطع حبل ذكرياتي وتنهيداتي صوت البائع الذي يخترق الواقفين في عربات القطار يفرض عليهم نفسه كما كل شيء في حياتهم، المشهد عبثي بامتياز يتكدس في بقعة لا تتجاوز المترين في المترين أكثر من 10 أشخاص يبحثون عن موطئ قدم لهم وآخر لحقائبهم.
كان القطار مزدحماً على آخره كازدحام الخواطر التي تدافعت في رأسي، يصيح الجميع ويتشاجر الجميع، الكل على حق حين يتحدث عن نفسه، والكل على باطل حين يشير للآخرين، يكمل البائع طريقه وسط الجثث الحية مخلفاً هالات من السباب والشتائم من خلفه ويمضي.
"الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله.."
كان صوت الأذان الذي صدحت هواتف العديد من الركاب صافرة النهاية لمارثون النزاع الدائر لتهدأ النفوس، ويحل الصمت، ويتبادل الجميع التمرات وما يحملون من ماء في هدنة اتفقوا عليها ضمنياً دون إعلان، وتودد مؤقت صنعته لحظة الإفطار، يختلف هؤلاء الركاب في ساحة الحرب التي تسمى عربة القطار في كل شيء في المظهر، في اللغة، في الهدف الذي يسافرون من أجله، في الدرجة التي يستقلونها، في الملابس، في الثقافة التي انحدروا منها.
لكن السبعيني الذي يلبس بدلته الأنيقة والعائد إلى الصعيد بعد رحلة علاجية كلفته ما يزيد على 10 آلاف جنيه كان يقسم تمرته مع المجند الذي يقضي سنته الثالثة في سلاح الأمن المركزي في دهشور ويعود بعد 60 يوماً للمرة الأولى إلى قريته جنوب أسيوط.
كانت أجواءً عائلية تمثل فيها كل عربة من عربة القطار أسرة كبيرة كنت أفتقدها حين كانت تمر عليّ أسابيع رمضان دون رفيق، أدركت أن نسائم الترابط التي فرضت نفسها رغم كل العوائق من زحام وروائح وغبار أدركت أن هذه النسائم هي حقاً ما أحتاج إليه حين سادت لحظة الصمت وتحلق الجميع يقولون:
"اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ..".
رمضان 2020..
جرت في النهر مياه كثيرة، وتغيرت الأحوال، وتبدلت الليالي ومررت على محطة القطار زائراً لا راكباً، مشاهِداً لا مشاركاً، وعدت أدراجي سريعاً أطوي المسافات وأسافر عبر الطريق إلى البيت الذي كان يفصلني عنه بعض الكيلومترات والعديد من السنوات التي قضيت رمضان فيها بين قاعات الدراسة وساحات العمل، هذا رمضان الأول منذ سنوات الذي كُتب عليّ أن أقضيه في البيت.
جاءت الجانحة، وعمّ الوباء، وولّينا وجوهنا شطر دورنا، كنت أتمنى في كل رمضان أن أعيش أجواءه بهدوء أن أعبد الله بقلب خالٍ مما سواه، أن أقطع كل القنوات التي تصلني بالعالم الخارجي وأترك القناة التي تصلني بالله وحده فحسب، أن يخلو رمضاني من كل الالتزامات الأسرية والعملية والدراسية وأن يكون التزامي لله وحده، لك أسلمنا وبك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
في الطريق إلى الله كنت أرى رمضان محطةً استثنائية للتزود بالمجاني بالوقود، وممراً مختصراً لسرعة الوصول إليه سبحانه وتعالى، النافلة بفريضة، والفريضة بسبعين، ومن تقرب إليه شبراً تقرّب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرّب إليه باعاً سبحانه وتعالى، لكن كما ازدحمت عربة القطار ازدحم الطريق بالمنغصات والمشوشات والملهيات، لم أرَ الطريق وسط الركام، لم أعثر على البوصلة وسط الغيوم، وكنت أغرق كل رمضان في بحر من التسليمات وأتوه عن اليد التي كان تمتد لنجاتي.
يقولون: رُبّ ضارة نافعة، وكان هذا ما رأيته في رمضان..
أقضي ساعات الشهر لأول مرة في بيتي، أستيقظ حين أريد، لا حين تدقّ المنبهات، أبكي تتساقط دموعي على سجادة الصلاة، لا على ورقة الامتحان، أعيش سلاماً داخلياً بين إخوتي أقيم معهم العديد من الحلقات بين التجويد، والتفسير، نتناوب الإمامة في صلاة التراويح وتدور حلبة النقاش بيننا بعدها ويزيد بيننا الترابط، ونتسامى في الطريق إلى الله.
في زحمة القطار بحثت عن الدفء، وفي زحمة الحياة بحثت عن رمضان يعمّ فيه الهدوء، ويسود فيه الصمت بالخارج لتعمل القلوب بالداخل.
"الله أكبر الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.."
ساعات الحظر أوشكت على البدء، وأذان المغرب يصدح في مآذن المساجد التي خوت من ساكنيها، خلت المساجد من المصلين وأغلقت أبوابها وما عادت المكبرات تصدح بمزامير داوود في القيام لكن أبواب الله مشرعة على الدوام، والأرض جعلت لنا مسجداً وطهوراً، ولله قلوبنا ومَن أتى الله بقلب سليم فاز وربح، تئن أنفسنا بكاءً وكمداً على بيوت لله لكن الله سبحانه وتعالى يبتلينا ليعلم صدق شوقنا إليه، ليشهد فرحتنا بالعودة للاجتماع في بيوته، أما دينه فقائم بنا وطريقنا إليه سيستمر.
"أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمداً رسول الله.."
عليّ أن أسرع، الله ينادينا، وهناك في البيت عائلة تنتظر، ومائدة تترقب النزول، وأفراد يتحلقون ينتظرون ساعة الإفطار حين تحين لحظة الصمت التي يتحد بعدها الجميع مع كل المسلمين حول العالم كما اتحدوا في القطار قائلين:
"اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.