يبدأ أيّ شيءٍ صعبٍ كبيراً ثمَّ يصغُر، أحاولُ أن أطبّق هذه القاعدةَ على نفسي وأنا أستقبلُ رمضاني الثاني في إسطنبول بعيداً عن عائلتي للمرة الثانية، أستقبلهُ بغصّة كبيرةٍ لا تقلّ عن غصّتهم التي تبدو واضحةً أمام مشاعر أحاول أن أخفيها ببرودٍ دون جدوى.
اليوم لا سحور يجمعنا، ولا فطور، مقعدي فارغٌ وصحني في مكانِه، وزاويتي الدافئة خالية.. أتخيّلُ جلوسهم على الطاولة وهم يستذكرون أعواماً مضتْ كنتُ فيها إلى جانبهم بدلالي وكسلي وشغبي وطقوسي الخاصة.
بينَ جبروت والدي الذي يجدُ صعوبةً في التعبير عن مشاعره، ودفءِ والدتي وقلبِها المرهف، يمرُّ رمضان هذا العام مختلفاً كئيباً، يمرُّ ومشاعرنا ثقيلةٌ، ثقيلةٌ جداً..
أنا الآن أشعرُ بشيءٍ يشبهُ البكاء، ولكنّه ليسَ بالبكاء، أشعرُ بشيءٍ يشبهُ الغصّة ولكنه أكبر منها بكثير، هو شيءٌ يشبهُ الخراب بكلّ ما للخاءِ والرّاء والألفِ والباء مُجتمعة من معنى.
يا الله كيفَ يتحمّل الآباءُ غيابَ أبنائهم! كيف يتعايشونَ مع الفقد والوداع وقلّة الحيلة، كيف وكيف وكيف!
تصطدمُ الأسئلةُ بأجوبةٍ لا حصرَ لها، فتختارُ الصّمت، فبعضُ الأسئلةِ تفقدُ قيمَتها إذا حاولنا عبثاً الوصولَ لإجابةٍ لها وهي تترنّحُ كجريحٍ يلفظُ أنفاسَه الأخيرة.
أتذكّر ما كتبتُه العام الماضي عن استقبالي لرمضاني الأول بعيداً عن عائلتي، فأشعرُ بأنّ العبارات هي نفسُها، والمشاعر ذاتُها، فلا الألمُ خف، ولا ثقلان الغياب هان، وحدَهُ التعوّد يرسُم حبلاً طويلاً، ويسيرُ إلى اللامبالاة بساقٍ واحدة.
في كلّ مرةٍ أحاولُ الكتابةَ فيها عن رمضان، أقفُ عاجزةً، مربوطةَ اللسان، مقيّدة الفِكْر واليدين، لأنّ شهراً يزورنا مرة في العام، يأخذُ قبلَ استقباله كل التعابير والمفردات، ويسرقُ من شدّة جماله، أَنَق العبارات، ويفعلُ ما لا يفعلهُ السّاحر من دهشةٍ أمامَ طفلٍ صغير.
ولأنّ هذا العام بدأ عجيباً غريباً، بلا تمهيد أو مقدّمات، فقد جاءَ رمضان مثله أيضاً، حاملاً معه من المفاجآت ما كنّا نعجزُ عن تخيّله قبلاً، فرمضان هذا العام بلا تراويح، ولا شوارع ممتلئة بالبشر حتى ساعات الصباح الباكر، ولا زيارات، ولا اجتماعات خارج المنزل..
هذا ما أجمعتْ كلّ الأخبار والصّحف على عَنونَتِه في مقدّمة نشراتهم، وهذا ما تناقلَهُ الجميع، وهذا ما حدثَ بالفعل.
أعودُ إلى ذاكرة هاتفي الممتلئة بصورٍ ومقاطعَ التقطتُها العام الماضي، في أيامِ وليالي رمضان بإسطنبول، فتنتابُني غصّة، وتعتريني حُرقة، فلم أكُن أتخيّل أن يأتي علينا شهر رمضان، ونحن في بيوتنا، مُجبَرين لا مُختارين، ولم أكُن أعتقد أنّ الجوامع ستعتادُ الوحدة كما هي الآن، وأنّ الطرقات التي كانت تتزيّن بموائد الرّحمة للعابرين، ستبدو خالية مخيفةً هكذا، وأنّ المسحراتي الذي كان يزورُنا كلّ ليلة، قد التزمَ بمنزله هو الآخر.
أقلّبُ بين الصور القديمة، فأرى جامع السلطان أحمد وقد افترشَ زائروه العُشب مع وجبات إفطارهم ينتظرونَ أذان المغرب بشوق، أمرُّ على مقطعٍ آخر، تُنشِد فيه فرقةٌ اعتادت التربُّع في وسطِ حديقةِ مسجد سليمان، فتُطرِبُ آذان مَن اختاروا ساحةَ الجامعِ مائدةً متواضعة لإفطارهم.
تأخذُني صورةٌ أخرى إلى شوارع إسطنبول الشّهيرة بعد التراويح، حيث تبدو كأنّها في ساعات النهار من ازدحامها، الجميعُ يبتسم في وجهك، ويُبارك لكَ بالشهر الفضيل، ويوزّع الحلوى بعد الصلاة فرحاً به، يرميني مقطعٌ مصوّرٌ آخر إلى حيثُ يتشاركُ الجميعُ الصّخب المفضّل في هذا الشهر دون أن يتذمّر أو يشتكي.
لا يمكنني المبالغة والقول إننا نشعرُ برمضان في بيوتنا، فالحقيقة أننا نجرّب تخيّل ذلك، ونحاولُ أن نصنعَ زاويةً خاصة تُشعِرُنا به، وتخفّف ثقل أيامٍ اعتدْنا زحمتها ودفء الشوارع فيها، وتقرّبنا من الأجواء الروحانية للمساجد التي نفتقدها، لعلّ ذلك يكون درساً لمَن تراخى عن الجوامع يوماً، وتهاونَ عن عبادة الله كما يجب، ولربّما فرصة أيضاً، ليُوقِن العبد أن دوام الحال من المُحال، وأنّ الـ"آمين" التي كانتْ تخرجُ باعتياد، أصبحتْ أكثر تضرّعاً ولهفة للقبول، وأنّ الدعاء الذي كنّا نردّده كـ"الكليشيه" غدا أكثر قرباً وأُلفَة.
فأهلاً بسيد الشهور وأفضلها..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.