أنا طالب ثانوية وعمري 17 عاماً.. هذه رحلة هروبي من حرب ليبيا إلى حجر تونس الصحي

عدد القراءات
1,881
عربي بوست
تم النشر: 2020/04/30 الساعة 14:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/30 الساعة 14:29 بتوقيت غرينتش

في الفترة التي قضيتها في ليبيا كان الوقت يمضي بسرعة، فلم أشعر بالأشهر الأربعة التي مضت هناك.

 حينها كنت أعمل في الإنشاءات كامل النهار وقليلاً من الليل، لم أكن وحدي، كنا عاملين اثنين، كلٌّ منا يساعد الآخر، ففي تلك المحنة يجب أن تجد شخصاً معك وألّا تكون وحيداً.

كانت تلك أول تجربة قاسية أمر بها في عمري الذي لا يتجاوز السابعة عشرة، فقبلها كنت أعيش في المنزل في تونس، دائم الراحة، وأتصرَّف على طبيعتي،  السبب الوحيد الذي جعلني أنخرط في تلك التجربة هو أنني لم أرغب أن أبقى على نفس الحال التي كنت أعيشها، فقد كنت -بعبارة أخرى- المدلل في العائلة، الجميع يعتبرني طفلاً لا يستطيع تدبر أمره رغم أنني أكبر أمام أعينهم، أردت أن أصنع من نفسي رجلاً يستطيع التكيف مع أسوأ ظروف الحياة، وأفضل وجهة هي ليبيا، لأنها البلد الذي تربطنا به سنوات عدة. 

لم أسافر وحدي، فقد كانت معي أمي بصفتها مسؤولة عني، وإلا لم أكن لأذهب أصلاً، فالقانون يمنع سفر التونسيين دون سن الخامسة والثلاثين نحو أي بلد إلا بتصريح أبوي.

عند وصولنا إلى ليبيا، وبالتحديد العاصمة طرابلس، استقبلنا أبي فهو يعمل هناك منذ أربعين عاماً، كما أن إخوتي مولودون في ليبيا، وقد عاشوا فيها لسنوات عدة، في مدينة الخمس. 

ظلت أمي معنا في طرابلس لمدة أسبوعين، في منزلنا المجاور لوزارة الداخلية، ولكن عندما قررنا بدء العمل كان لا بد لنا من الانتقال لأحياء ومنازل أخرى مجاورة لعملنا، كي لا نضطر للذهاب والعودة يومياً لمسافات بعيدة، وطبيعة العمل كانت تتطلب أحياناً البقاء لمنتصف الليل، حينها عادت أمي إلى تونس، وكانت الحياة لا تزال عادية في طرابلس، إلى أن انقلبت الأوضاع فجأة؛ حرب وإطلاق للنيران والصواريخ بين حفتر والوفاق، في محاولة لسيطرة أحدهما على العاصمة، لكن الصواريخ بدأت تسقط بالقرب منا، مخلِّفةً قتلى وجرحى، وكنت أستمع لوقع سقوطها دائماً، إضافة إلى كورونا الذي قد وصل هناك أيضاً، فاجتمعت علينا الحرب والوباء.

مشكلة الحرب في ليبيا كانت تنغّص حياة العديد من الأجانب الذين يعملون فيها وتربطهم بها سنوات عدة كحالنا، مظاهر الخراب تلوح من ثقوب المباني المدمرة والشوارع المهملة، والاشتباكات الأخيرة بين قوات حفتر والوفاق، مما زاد الوضع سوءاً.

بعد فترة بدأت أشعر أن الليبين تأقلموا مع هذه الحرب، صحيح هم منزعجون ولكن مظاهر الحياة لم تختفِ حتى في أكثر المناطق خطورة.

في أحد أعمال الإنشاءات التي كنا نقوم بها، وهو بناء مشفى، لا أنسى المنزل الرث الذي كنا نسكن فيه، والذي كان يجسد شكل ليبيا وهي مشوهة بسبب الحرب، وفي طرابلس تجد أغلب المنازل مدمرة مشوهة بسبب الحرب المستمرة منذ عشر سنوات.

أثناء وجودي في طرابلس كان تجولي في الخارج سبباً كافياً للموت والهلاك، فكوني تونسياً كان مستفزاً لبعض الليبيين، حتى تعرضتُ ذات مرة لحادثة حاولت فيها بعض الميليشيات الليبية خطفي وإدخالي بقوة إلى السيارة، لكنني تمكنت من الهرب بأعجوبة.

استمررنا بالعمل هناك، حتى جاء صباح استيقظت فيه مفزوعاً من حلمي الذي متّ فيه، هدّأت نفسي، ولم أعطِ الأمرَ أهمية وذهبت للعمل كأي يوم آخر، وبعد ذلك بقليل اتصل بي أخي ليخبرني أنه حلم بي أيضاً، أنني قد مت، وفي أثناء المكالمة زاد شعوري بعدم الأمان في هذا البلد.
بعدها اشتدت الحرب والاشتباكات، وزاد الخطر الذي يهدد حياتنا قررنا أنا وأبي العودة إلى تونس.

ركبت سيارة العودة وأنا أحمد الله أننا نجونا، وأن الكابوس قد انتهى.
أخيراً وصلنا إلى  البوابة الأخيرة، والتي تبعد عن الحدود التونسية مسافة طويلة، أنزلنا الجيش الليبي لنكمل سيرنا على الأقدام بحمولة ثقيلة كانت معنا، قطعنا أنا وأبي نصف المسافة تقريباً، ثم توقفنا قليلاً لنستريح، لنعود من جديد لحمل متاعنا.

كنت خائفاً جداً على والدي، لأنه مريض بالقلب، وقد أجرى عملية جراحية قبل سنة لتغيير صمامه، كنت مستاء من الأحمال التي طلب مني حملها معنا خلال هذه الرحلة، ولا أعلم أصلاً ما هي، لكني أحببت أن ألبي طلبه رغم أنني من تكبدت عناء حملها طيلة هذه المسافة الطويلة.
رويداً رويداً بدأت تظهر ملامح تونس من بعيد، تنفست الصعداء، وكنت سعيداً بما أراه، كأنها طوكيو في نظري.


في البداية رفضت السلطات التونسية إدخالنا، وطلبت منا العودة مرة أخرى، بدأ العابرون في التفاوض معهم وترجّيهم لإدخالنا، حتى أنني بكيت قهراً عندما تخيلت أنني سأبدأ أنا وأبي المريض في المشي كل المسافة التي اجتزناها مرة ثانية وبالأمتعة التي نحملها، لكن بعد تفاوضنا وإلحاحنا  سمح لنا الجيش التونسي بدخول وطننا مع مغيب الشمس.

دخلنا باب الجمهورية التونسية بعد يوم من السفر والمشي لمسافات طويلة، واطمأننا أننا قد عبرنا الحدود، ففي الصحراء الفاصلة بين البلدين تتواجد جماعات مسلحة، ولن تأمن على روحك خلال الليل هناك.
بدأ الجيش التونسي بتصنيفنا حسب الولايات، وأحضروا كلاباً مدربة للكشف عن أي خطر محتمل قد نخبئه كما لو كنا إرهابيين أو خارجين عن القانون، وبعد ساعتين جلبوا لنا العشاء في أكياس كانت عبارة عن معلبات مصبرة، لم أستطع تناول أي شيء حينها.


بعدها بدأنا نستعد للنوم، واتخذ كلٌّ منا مكاناً تحت الحائط في طقس بارد، لكن بعد قليل أتى مسؤول من الهلال الأحمر وقال بصوت خافت إذا كان منكم أشخاص مرضى فليذهبوا إلى المخيم ليناموا هناك، فذهبتُ أنا وأبي لكونه مريضاً بالقلب، وبصفتي قاصراً في السن، حمدت الله أنني نجوت من المبيت تحت العراء، ناهيك عن أنني كنت أتجنب الاختلاط بالعابرين معنا، حتى لا نُصاب بفيروس كورونا، أو العدوى بأي مرض آخر.

وفي صباح اليوم التالي أتت الحافلات التي ستقلنا نحو المكان الذي سنقضي فيه فترة الحجر الصحي، بما أننا عدنا ووباء كورونا ما زال منتشراً.

مع مغيب الشمس صعدنا الحافلات المكلفة بنقل كل الموجودين، وأخذ كل واحد مكانه، ثم صعدت الحافلة، وإذ بأحد عناصر الجيش يحدثني بلهجة ساخرة لصغر سني، ولكني لم أبقَ صامتاً أمامه، وطالبته باحترامي.

ها قد وصلنا المكان الذي سنقضي فيه فترة الحجر الصحي، بعد قضاء يومين في السفر، في مدينة أريانة بتونس العاصمة، مهما يكن هذا المكان فهو أفضل بكثير من المكوث في العراء. 

سأنتظر هنا مدة أسبوعين وأعود إلى منزلنا في مدينة منزل تميم، حيث الهدوء والبحر والخضرة. 

بدأت أراجع ما حدث معي، واستنتجت درساً مهماً خلال رحلة العوده للوطن، وهو أن أفضل ما يمكن أن يشعر به المرء هو عيشه في كنف وطنه.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

جوهر غضباني
طالب تونسي شغوف بالكتابة
جوهر غصباني، عمري 17 عاماً، من تونس، أدرس بالصف الثالث الثانوي، الكتابة شغفي وبها أعبر عن نفسي. أطمح أن أصبح كاتباً في المستقبل، أحب خوض تجارب تصقل شخصيتي باستمرار ، وأحب كذلك الصيد وتربية الحيوانات بجميع أنواعها.
تحميل المزيد