مع إيماني وتسليمي التام بقدر الله خيره وشره، لم أكن أتصور أنني سأكتب هذا المقال عن والدنا وأخينا وصديقنا صاحب الابتسامة الدائمة والقلب الطيّب، إنه الرجل الخلوق الذي لم أسمعه في يومٍ من الأيام يتكلم بسوءٍ عن أحد، أخو الأخوين، الكريم ابن الكريم، الذي تعلمت منه الكثير رغم أن معرفتي به لم تزد على 4 سنوات.
وداعاً يا طيب الخلق.. يا محب الخير للناس.. يا ذا القلب الأبيض.. لطالما جمعتني بك أيام رائعة عندما كنّا نتواصل ونتفاكر عبر الفضاء الإسفيري منذ عام 2016، ثم التقينا في منزلك العامر بمدينة جدة السعودية على مدى يومين متتاليين عام 2017، بعد ذلك كانت لقاءاتنا في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا المدينة التي تحتوي بحنانٍ وحب كل من يأتي إليها من الجارة الغربية "السودان".
كان عبدالحميد، رحمه الله وغفر له، بمنزلة الوالد والصديق والأخ.. أتذكر ذاك اليوم من أيام مارس/آذار قبل عدة سنوات عندما هبطت بي الطائرة في مطار بولي بالعاصمة الإثيوبية.. لن أبالغ إذا قلت إنها رحلة غيّرت مسار حياتي، إذ وجدت صورةً مختلفةً عمّا كنت أتوقع، الأمر الذي دفعني إلى توثيق رحلتي في سلسلة مكونة من 5 مقالات تحت عنوان "أديس أبابا التي رأيت"، نشرتها لي النسخة العربية من موقع هافينغتون بوست سابقاً (عربي بوست حالياً).
السلسلة جذبت انتباه كثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك وجدت نفسي شغوفاً بهذا البلد الجميل الذي ظلمه الإعلام كثيراً، حيث تشجّعت أكثر للكتابة عنه ومحاولة تغيير الصورة الذهنية السالبة، فعدتُ خلال العام 2016 مرةً أخرى ومكثتُ نحو 10 أيام استكشفتُ فيها المزيد عن العاصمة وأحيائها وكتبتُ المزيد من المقالات التي سردت فيها تجربتي في أديس أبابا وما حولها. وفي تلك الأيام بدأت أتعرف على عشّاق ومحبي إثيوبيا في الفضاء الإسفيري، وبالطبع كان السودانيون أكثرهم عدداً للارتباط التاريخي القديم بين الشعبين والتداخل القبلي والأسري.
أول من تعرفت عليهم كان الراحل المهذب الخلوق "عبدالحميد عبدالرسول" أحد مؤسسي جروب "إثيوسودان" وقبلها أسس مجموعة "اعرفوا كل شيء عن إثيوبيا"، إذ ارتبط بأرض الحبشة منذ ثمانينيات القرن الماضي كان يتردد عليها عندما كان يعمل في المملكة العربية السعودية ثم تزوّج بسيدة إثيوبية فاضلة زادت من ارتباطه بهذا البلد الجميل الذي هو القاسم المشترك الأول بيننا.
في العام 2018، أخبرني عبدالحميد أنه قرر أن يغادر السعودية نهائياً إلى وطنه السودان ضمن أفواج من المغتربين الذين أثّرت عليهم سلباً قرارات "السعودة"، وقرارات فرض المقابل المالي على المقيمين وأسرهم. وبالفعل عاد إلى السودان لكنّه لم يستطع التأقلم مع الأوضاع الصعبة التي تشهدها البلاد فقرر الانتقال إلى بلده الثاني "إثيوبيا" الذي صار متقدماً على السودان لعدة أسباب من بينها ثبات سعر العملة الأجنبية في الأعوام الأخيرة مقارنة بتدهورها المستمر في السودان.
اختيار عبدالحميد أو حميدو ــ كما نحب أن نسميه ــ للعاصمة الإثيوبية كي يقضي فيها آخر سنين عمره، شكّل فرصة عظيمة لنلتقي باستمرار، وكانت معظم لقاءاتنا تتم في مطعم إلسا الذي يقع في محطة "هيا هوليت" الشهيرة.. المطعم ورغم أنه من المطاعم العادية ويقع في منطقة متوسطة، فإنه كان بمثابة ملتقى لكثيرٍ من المواطنين الإثيوبيين والزوار الأجانب، خاصة أنه ملحق بنزل فندقي منخفض التكاليف وبكوفي شوب. تعود ملكية المطعم والنزل لسيدة إثيوبية في الخمسينيات من العمر تحمل الاسم نفسه "إلسا"، أما الكوفي شوب فهو مملوك لابنتها الصغرى.
يقدم مطعم إلسا المأكولات الإثيوبية التقليدية التي تقوم بشكل أساسي على خبز الإنجيرا يضاف إليه اللحوم أو الدجاج أو الخضراوات، إلا أن المطعم اشتُهر بتقديم وجبة اللحوم الطازجة التي يتم تقديمها في الهواء الطلق "Outdoor"، في شكل شواية وهو ما يُشبه طريقة إعداد وجبة "السلات" في السودان. لذا كنا نتشجع على اللقاء في مطعم السيدة إلسا للاستمتاع بتناول وجبة اللحوم أو "شكلة تبس" كما يسميها الإثيوبيون.
لا أنسى مطلقاً أن عبدالحميد يحرص دائماً على أن يكون أول المرحبين بي كلما عدت إلى أديس أبابا من الخارج، فهو يهتم بأن يكون أول المتصلين للتهنئة بسلامة الوصول، وغالباً ما أعاود الاتصال به أنا خلال يومين أو ثلاثة لترتيب موعد للمقابلة. فأغلب لقاءاتنا كانت رائعة نحلل فيها الأوضاع الراهنة بالسودان والمنطقة، ونتحدث كذلك عن ذكرياتنا في أرض الحبشة وفي الهجرة والاغتراب بصورة عامة إلى جانب ثقافات الشعوب الإثيوبية المتعددة.
ومع كذلك لم تخل لقاءاتنا من بعض الذكريات الحزينة، ففي أواخر رمضان الماضي اتفقنا على أن نتناول وجبة الإفطار في مطعم إسطنبول الذي يقع بمنطقة بولي الشهيرة. وتتمثل الذكرى الأليمة في وقوع مجزرة فض اعتصام الخرطوم فجر ذاك اليوم الذي صادف الـ29 من رمضان، فقد استيقظت فجر ذاك اليوم على وقع المشاهد المروعة لعمليات القتل والترويع الذي تعرّض له المعتصمون أمام بوابات القيادة العامة بتدبير من المجلس العسكري الحاكم.
بادر عبدالحميد إلى الاتصال بي وقد بدا منزعجاً للغاية من فداحة المجزرة التي ذُهل منها العالم، لم يكن بمقدورنا شيء غير أن ندعو على منفذي المجزرة التي حرمتنا من فرحة العيد فقد أصبح السودان في تلك الأيام عبارة عن سرادق عزاء كبير، حتى نحن الذين نقيم خارج البلاد لم نذق طعم العيد على الإطلاق ولم نستطع النوم لأيام عديدة، إذ كانت مشاهد الدماء والعنف المروع تسيطر على أذهاننا لفترة طويلة رغم محاولة العسكر التغطية على المجزرة عندما قاموا بقطع خدمة الإنترنت.
ولكن ما خفف علينا وطأة الألم أن شباب السودان أدهشوا العالم من جديد، بعد أقل من شهر على وقوع المجزرة، إذ سرعان ما تمكنوا من استعادة صفوفهم وخرجوا بأعداد هائلة في مليونية 30 يونيو/حزيران التي أربكت حسابات عساكر النظام البائد وداعميهم.. يومها أتذكر أنني اتصلت بعبدالحميد من مدينة بحر دار التي شهدت هي الأخرى محاولة انقلابية فاشلة في تلك الأيام، وبشرّته بنجاح المليونية رغم انقطاع خدمة الإنترنت، فأخذ يردد عبارات الحمد والشكر، متأثراً من صمود الشباب وتصميمهم على إنجاح الثورة والتأثر من قتلة الشهداء.
قصدتُ من سرد هذه المواقف المختلفة أن أُبيّن قوة العلاقة التي جمعتني بالراحل عبدالحميد، مهما كانت الظروف حلوة أو مرة. وعندما قررت أن أكتب هذه المقالة المتواضعة كان لابد أن أستطلع رأي رفيق دربه المهندس زهير يونس الذي كشف لي أنه تعرّف على صديقنا المشترك في مدينة جدة السعودية في سبعينيات القرن الماضي، فكان حب إثيوبيا التاريخ والحضارة والثقافة هو العامل المشترك بينهما.
ويوضح يونس أن الراحل عبدالحميد تزوج من مواطنة إثيوبية في تلك الفترة، وأقاما في جدة ثم في الرياض قبل أن يعودا إلى جدة مرة أخرى حيث أنجبا ثلاثة أولاد وبنتاً.. يتابع محدثنا قائلاً: "عندما وصل عبدالحميد إلى سن التقاعد آثر العودة إلى وطنه الثاني إثيوبيا والعيش فيها بقية عمره، إلا أن القدر لم يمهله طويلاً فقد طالته يد المنية قبل أن يكمل عامه الثاني في إثيوبيا.
وعن صفات الراحل يقول رفيق دربه زهير يونس: "كان محباً لجمال الطبيعة والفن يعشق الغناء الإثيوبي ويطرب له، وكان صديقاً للفنان الكبير منليك، يتواصل معه باستمرار رغم معاناته من داء السكر.. لم يستسلم للمرض أو يأبه به بل كان محباً للحياة، إلا أن المرض كان أقوى منه فغدر به أخيراً، عندما داهمته نوبة سكر لم تمهله سوى أيام قليلة".
على الصعيد الشخصي، أذكر أن عبدالحميد بدأ يشتكي من تدهور صحته في الشهور الأخيرة بعد أن عاد من رحلته الأخيرة إلى السودان، ولذلك بادرت وصديقنا المشترك مولوقيتا إلى زيارته في المنزل أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي فأصرّ على أن نتناول معه وجبة الغداء في داره العامرة بحي قيرجي قُرب مطار أديس أبابا، وأذكر أننا وجدنا يومها المهندس نزار ابن رفيق دربه زهير يونس مع أبناء الراحل، فكانت جلسة جميلة لم نكن ندري أنها ستكون آخر مرة نرى فيها المغفور له "بإذن الله".
عرفت فيما بعد أن عبدالحميد تحمّل آلام المرض في صبر وجَلَد شديدين لم يتذمر ولم يجزع على الإطلاق رغم اشتداد الأعراض، فقد كنّا على تواصل مستمر حتى قبل وفاته بأيام قليلة. وأشهد له إلى جانب الصبر وقوة التحمل، بلين الجانب وحب الخير لكل الناس، لم يكن يحمل أي حقد ولا كراهية لأي شخص، وكان حريصاً على الالتزام بأداء الفروض والطاعات، إذ لم يكن ليفوّت صلاة مكتوبة دون أن يؤديها في وقتها إن لم يستطع الذهاب إلى المسجد لأي ظرف كان.
مرّ أكثر من شهرين على رحيلك يا عبدالحميد، ولكن مكانتك في قلوب محبيك كما هي، وكلهم يدعون لك في شهر رمضان المعظم سائلين الله أن يتغمدك بواسع رحمته وأن يرحمك ويغفر لك ويبلغك الفردوس الأعلى، وأن يلهم أهلك وأبناءك الصبر والسلوان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.