منذ البارحة وبعد أن علمتُ بوفاة أستاذتي الدكتورة ورئيسة قسم التسويق في جامعة بيلجي التركية، "سليمة سيزجين"، إثر إصابتها بفيروس كورونا، وأنا أفكر في هذا الشيء الجميل الذي صنعتْه بحياتها حتى تأتيها كل هذه الدعوات ممن لا يعرفونها.
وربما مواقفي معها في أثناء دراستي للماجستير بالجامعة، كافية لتُظهر حنانها وأمومتها مع طلابها، ومعدن قلبها الأصيل:
في بداية تقديمي لبرنامج الماجستير، كنت واضحاً مع نفسي بشكل تعجبت منه، قدَّمت وقلت لنفسي وزوجتي وأهلي: لو حصلت على المنحة فسأبدأ الدراسة، ولو لم يحدث ذلك فلن أكمل التسجيل". قابلتني في أول مقابلة، وعرَّفتها بنفسي. بعض الأسئلة عن العمل والدراسة، والكثير الكثير من الأسئلة عن حياتي الشخصية وأسرتي وزوجتي التي كانت حاملاً في شهرها السابع.
أخبرتني بأنها ستعطيني أكبر منحة لديها صلاحية بإعطائها كرئيسة للقسم، والسبب، ليس فقط تفوقي وسيرتي الذاتية، بل لأنني أب، والفترة القادمة بها كثير من الالتزامات الخاصة.
****
خلال التسجيل، عرفت أنه يجب عليَّ أن أكون حاصلاً على امتحان GRE للتسجيل في برنامج يتيح لي كتابة رسالة ماجستير، وإلا فسأختم دراستي بمشروع تخرج وليس رسالة. ظننت وفهمت أول الأمر أن ذلك شرط من مؤسسة التعليم العالي التركية، فحاولت أن أدرس للامتحان لكن ظروفي الخاصة وعملي وولادة ابني منعتني من ذلك.
الرسالة لمن لا يعرف، تعطي حرية ومرونة أكبر في التحرك بعد ذلك ودراسة الدكتوراه، أما المشروع فبعض الجامعات لا تراه كافياً للتقديم لبرنامج الدكتوراه.
بعد عام كامل تأكدت لديَّ معلومة تفيد بأن هذا الشرط خاص بالقسم وبعض أقسام الجامعة الأخرى، وجامعات أخرى لا تشترط الحصول على الامتحان لكتابة رسالة. ذهبت لها وأخبرتها بما جمعت من معلومات، وقالت لي: "سأحاول تغيير الشرط لكن بداية من العام القادم". وبالتواصل مع مكتب شؤون الطلاب، قالوا إنه حتى وإن تم ذلك، فلن ينطبق بأثر رجعي على طلاب العام الماضي؛ لذلك فلن يشملني القرار.
كان الحل الذي اقترحتْه عليَّ، والذي عملت به، أن أكمل في برنامجي بشكل طبيعي، وأن أقوم بكتابة رسالة بشكل كامل، لكن ذلك يعتمد على اجتهادي، لأن الفترة المسموح فيها بإتمام البرنامج كله كانت 3 فصول دراسية فقط. وإذا فكرت يوماً في إكمال دراسة الدكتوراه فسأقدِّم رسالتي مع شهادة التخرج وذكر ملابسات الأمر، وهو ما أكدتْ أنه "بنسبة كبيرة سيتم قبوله مستقبلاً باعتبارك أنهيت رسالة بالفعل ولم تعمل اعتماداً على شروط المشروع التي كانت أقل بكثير من الرسالة".
وبالفعل كانت مشرفتي في الرسالة وأنهيتُها خلال 4 أشهر بشكل كامل، بفضل الله ثم دعمها وتوجيهها.
****
خلال الدراسة، كان هارون ابني محوراً لكثير من الحوارات داخل الصف أو في مكتبها. ولادته التي جاءت قبل يوم واحد من امتحان لمادة مهمة، فوجدتها تتصل بي بعد أن عرفت من زملائي أن هارون قد وصل عالمنا سالماً غانماً. أخبرتني نصاً: "مبروك يا بني، أنت في مرحلة مهمةٍ الآن، لا تشغل بالك بالدراسة والامتحانات، سأحدّث دكتورة إسراء، فقط، ركِّز فيما أنت فيه، هذه لحظات لن تتعوض أبداً".
وفي آخر المراحل الدراسية، ذهبت يوماً للجامعة لتقديم ورقة مهمة، وأخذت معي هارون؛ لظروف مرض شديد كانت تمر به زوجتي، دخلت عليها المكتب وهارون معي، صرخت في وجهي: "قف!"، وأطفأت سيجارتها وفتحت نافذة المكتب والباب على مصراعيه، وتعطرت بعطر فرنسي شهير، كل هذا في أقل من دقيقة! ثم جاءتني مُسرعة، لتأخذ هارون وتقبّله وتحتضنه، وذهبت به لزملائها الأساتذة تتفاخر به وتقول: "هذا حفيدي هارون، والده هذا ابني!".
وبعد تسليم الأوراق وختمها والجلوس، قالت لي إنها فخورة بأنني أخفف عن زوجتي، وأعطتني نصيحة بأن أحضر جليسة أطفال، وأنها يمكن أن ترشح لنا واحدة لن تكلفنا كثيراً من المال، وأخبرتني بأن إنجاز الأبوة وإنجازي كزوج لا يقلان أبداً عما أفعله داخل جدران الجامعة.
****
عند اختيار موضوع الرسالة، أخبرتها بأنني أريد أن أكتب في "التسويق السياسي" تحديداً في العلامة التجارية للأشخاص (Personal Branding in Political Marketing)، واقترحت 3 أسماء من داخل تركيا. قالت لي: "الأول لن تتمكن من الكتابة حوله أي شيء سلبي أصلاً، الثاني ستتمكن من الكتابة بِحرية لكن ذلك قد يضعك في مشاكل مستقبلية في ملفك بالدولة، أما الثالث فهو أنسبهم من حيث حرية الكتابة، لكن أي مديح في استراتيجيته التسويقية سيجلب لك كثيراً من المشاكل من جماعة الاسم الثاني".
واعتذرت لي بأن هذا هو الوضع في الدولة، وأن الموضوع جميل جداً، لكنه شائك جداً. ومن ثم تم اعتماد موضوع آخر عن حملة ترامب الانتخابية في الولايات المتحدة.
****
خلال الدراسة، جاءتني دعوة من جامعة ستيرلينغ University of Sterling بالمملكة المتحدة لحضور ورشة عمل مهمة في التسويق السياسي، أخبرتها بالأمر فشجعت وكتبت لي خطاباً لا أتصور أبداً أن أستاذاً يكتبه في طالب لديه إلا لو كان هذا الطالب ابنه. ولكن، لم يقدّر لي الله الحصول على التأشيرة، فجبرت بخاطري وخففت عني.
بعدها بعدة أيام اتصلت بي قائلة: "هناك مقعد لم يقدّم عليه أحد من زملائك بجامعة كوين ماري في لندن Queen Mary University of London، في إطار برنامج إيراسموس للتبادل الطلابي. قدِّم إن شئت، وبمعدلك المرتفع ودرجتك في اللغة الإنجليزية ستحصل عليه مباشرة. أعرف أنك ملتزم بأسرتك، لكنني أخبرك بأن مقعدك في هذه الجامعة جاهز إن أحببت".
ذهبت إليها وشكرتها وأخبرتها بأنني لن أتمكن من ذلك.
****
خلال الدراسة وبعد ولادة هارون، استقلت من عملي لظروف خاصة، وعرفت هي ذلك من زملائي، طلبتني في مكتبها، وقالت: "لي فيم تفكر الآن؟"، أخبرتها بأنني أريد الراحة شهراً أو شهرين وبعدها أبحث عن عمل آخر، قالت: "إذن أرسِل لي سيرتك الذاتية وأنا سأرسلها لأقسام التسويق في شركات متعددة، وأعرف أحد أفراد فريق عمل شركة أمازون Amazon في مكتب إسطنبول، يمكنهم كذلك الاستفادة من كفاءتك العالية وتعدد اللغات التي تتقنها". وبالفعل قامت بكل ذلك وأكثر.
وفي الأثناء، قالت لي: "لا تبقَ هنا، إن عملت في هذا البلد فلن تصنع شيئاً لنفسك لا مادياً ولا علمياً ولا عملياً، حاوِل السفر لبريطانيا أو الولايات المتحدة أو أي دولة من دول إسكندنافيا". أخبرتها بأنني بالفعل أفكر في الأمر لكنني لا أعرف من أين أبداً. فجاءت البداية من عندها.
في يوم زرتها بمكتبها، كانت لديها أستاذة أخرى، أخبرتها نصاً: "نريد أن نُخرج هذا الرجل من هنا، مكانه ليس في هذا البلد، ما رأيك أن نعرفه على م.أ"، قالت لها: "أكيد سوف يساعده". وتمر الأيام وأعرف أن من كانوا يتكلمون عنه، هو شاب ثلاثيني يعمل بمنصب دبلوماسي مهم في تركيا؟ وكان والده من أبرز سفراء تركيا لدى دول عدة في الماضي.
وكذلك عرضت عليَّ تشبيكي بأساتذة زملاء لها في الولايات المتحدة يمكن أن يكونوا مشرفين لي في برنامج الدكتوراه إن شئت.
****
إليك أستاذتي، فعلتِ بي وفيَّ ما لا تسعه الكلمات، وأنا على العهد وعلى المسيرة.
مُحِبّك وتلميذك،
أسامة
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.