لماذا لم أشترِ بيتاً في كندا؟ “3”

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/15 الساعة 22:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/16 الساعة 11:06 بتوقيت غرينتش
Canadian flag waving with Parliament Buildings hill and Library in the background

   بعدما تكلَّمت في الجزأين الأول والثاني عن أسباب إعراضي عن شراء عقار كندي من زاوية (الحرية) و(الاستثمار)، سأختم اليوم هذه السلسلة بالزاوية الثالثة والأخيرة، وهي زاوية (الاستقرار)، فلو لم يكن شراء المنزل من أجل الاستقرار الأسري والنفسي والمالي، فلماذا هو إذاً؟

عندما جئت إلى كندا، لم أكن أفهم لماذا يهجرها بعض أهلها؛ للاستقرار في شرق العالم في دول، مثل تايلاند والفلبين وقبرص واليونان وغيرها، في الوقت الذي نستميت فيه نحن العرب على البقاء فيها مهما كلف الثمن؟ إلى أن شاء القدر أن أخوض نقاشاً مع أحد مديري الشركة التي أعمل بها، والذي قارب سن التقاعد، وهو كندي أبيض من سلالة إنكليزية قديمة في كندا كقدم الفيدرالية الكندية.

عندما سألته: ما الذي سيقوم به عندما يُحال إلى التقاعد؟ أجاب بأنه سيهاجر للاستقرار في الفلبين التي اشترى فيها بيتاً؛ لأنَّ مناخها دافئ، والحياة فيها رخصية، وقال إنها ستمنحه حياة ممتازة بقيمة راتبه التقاعدي الكندي الذي لن يكفيه أساسيات الحياة لو بقي في كندا.

كما أضاف أنه قد أعجبته الفلبين التي زارها يوماً في رحلة عمل، خصوصاً عندما التقى بكثير من الغربيين الذين استقروا فيها لنفس السبب، ويقضون هناك أوقاتاً ممتعة.

عندما أجرى لي حسابات سريعة فيما يخص غلاء المعيشة في كندا مقارنة مع الفلبين، قال لي: "مَن يملك سيولة مادية ويريد أن يستفيد منها في حياته، فبالتأكيد كندا ليست المكان الصحيح!"، وهذه الحقيقة أدركتها منذ السنة الأولى لي في كندا، فهي دولة ذات نظام لا يسمح للطبقة الوسطى بالاستمتاع بثروتها البسيطة.

طبعاً ما قام به هذا المدير لا علاقة له بموضوعنا اليوم حول الاستقرار بشراء العقار، فأي إنسان يمكنه أن يفعل مثله في أي وقت، فيبيع بيته وينتقل إلى أي مكان وقتما شاء، لكني استشهدت بهذه القصة؛ كي أُبيِّن لك -عزيزي القارئ- أنَّ المال الذي ستنفقه في كندا على العقار الذي تريد تَملُّكه، سيُنغص عليك أي فكرة استقرار بشكل هانئ؛ لأنها دولة باهظة الثمن.

بالطبع لا يوجد غبار من أنَّ شراء العقار يمنح الإنسان نوعاً من الاستقرار، ولكن لا بد من أن يكون ذلك الشراء بطريقة معقولة بحيث يحصل فعلاً على ذلك الاستقرار، ولو أتيح لي فرصة شراء عقار في كندا بشكل معقول.. لفعلت! ولكن كل السبل التي تؤدي لذلك الشراء غير معقولة مع الأسف الشديد.

سعر العقار اليوم متضخم لدرجة الانفجار، والسبيل الوحيد لشراء تلك القنبلة هو اللجوء إلى البنك الذي سأبقى تحت رحمته أرتكب جريمة الربا لمدة لا تقل عن عشرين سنة، فأين هو ذلك الاستقرار؟

أين هو الاستقرار عندما يتحول البيت إلى عبء كبير بسبب عدم قدرتي على دفع ضريبته والخدمات المنوطة به فور تعرضي لضائقة مالية لحظة تسريحي من العمل؟ لا بد من الانتباه من أنه إذا توقف دخلك المادي -لا قدَّر الله- فمستحقات البيت لن تتوقف، ووقتها إما أن يقوم جميع أفراد العائلة من زوجة وأولاد بالعمل لدفع تلك المستحقات الحكومية وقسط الرهن العقاري، أو أنك ستضطر إلى التخلص منه، والعودة إلى الإيجار من جديد.

من فضل الله تجربتي مع استئجار منزل في كندا كانت جيدة، فلم أتعرض لأي مشكلة مع المالك أو المكتب الذي يُدير العقار نيابة عنه، وقد حدث خلال السنوات الست الماضية أنني كنت سأترك البيت لأرحل إلى آخر، وقام المكتب بإقناعي بالبقاء فيه، ولم يرفعوا أجرة المنزل المتاحة لهم وفق قانون المقاطعة التي أسكن فيها؛ لأنَّ المالك يدفع أقساط البيت الذي أسكنه للبنك، ويتمنى بقائي مستأجراً عنده لأطول مدة ممكنة حتى يتمكن من سداد قسط الرهن العقاري للمنزل، وأغلب شقق كندا التي تُعرَض للايجار على نفس الشاكلة.

من الجدير بالذكر أنَّ استئجار المنزل في كندا هو خلاف فكرة الاستئجار في الشرق، فالاستئجار في الشرق مؤلم، وغالباً ما يكون صاحب البيت يملكه وليس عليه قروض بنكية، وبعد سنة أو خمس.. يُطالب المالك باسترداد المنزل؛ لأنه يريد أن يمنحه لابنه الذي سيتزوج قريباً، وتضطر أنت وقتها للرحيل بحثاً عن بيت آخر لاستئجاره.

بينما في كندا.. سلاسل القروض البنكية غالباً ما تكون على رقاب المُلاَّك، فهم مضطرون لتأجيره كي يقوموا بسداد ثمنه، فهم في حقيقة الأمر باتوا عبيداً ليس فقط للبنوك، بل أيضاً للمستأجر، وليس كما يُشاع بأنَّ المستأجر عبد عند صاحب الملك.

أيضاً هناك فكرة سائدة في كندا أنَّ المستأجر يدفع ثمن البيت لصاحبه، والحقيقة أني تفاجأت عندما اطلعت على الأرقام التي يدفعها المالك، ففي الوقت الذي أجرة المنزل (1600) دولار، المالك يدفع في كل شهر ما لا يقل عن (1000) دولار رسوم خدمات الشقة (Condominium Fees) وضريبة العقار الحكومية، في الوقت الذي أستأجر أنا بيته بـ(1600) دولار، فكل ما يحققه من هذا الاستثمار هو (600) دولار فقط! ناهيك عن قسط الرهن العقاري الذي لا يقل عن (1500) دولار شهرياً، وغيرها من المصروفات التي تطرأ كالإصلاحات وغيرها كما ذكرنا في المقال السابق.

لكن على الرغم من كل هذا، فقد تحتاج العائلة للتَملَّك ليس من أجل الاستثمار، وإنما من أجل الحصول على نوع من الاستقرار بسبب حجم العائلة، وهم مضطرون إلى شراء العقار بغض النظر عن المصروفات المنوطة بذلك العقار.

من الأمثلة على ذلك صديق لي في كندا كان يستأجر منزلاً بمبلغ (1600) دولار له ولعائلته الصغيرة، وعندما تقاعد والده من العمل في الخليج ولم تعد لديه دولة ليعود إليها، قام بالتقدُّم لدائرة الهجرة لاستقدام والديه إلى كندا، وقد نجح في ذلك، كما قام بمساعدة أخ له للقدوم إلى كندا أيضاً، وكبرت أسرته الصغيرة وأصبحت جميعها تقيم في بيته، فاضطر لشراء بيت كبير يسع الأسرة كلها، فأحياناً الاستقرار يكون من خلال إنفاق المزيد من المال وليس العكس.

بالمقابل، أخبرتني زميلة لي في العمل عن الاستقرار الذي فقدته عندما أجبرها زوجها على الانتقال إلى بيت كبير اشتروه عن طريق البنك، وترك الشقة المستأجرة والتي كانت مُستريحة بها جداً، فقالت لي إنها لم تكن تتخيل حجم الأعمال المنوطة بالمنزل الكبير من إزاحة للثلوج وقص العشب وتنظيفه وإخراج القمامة في أوقات معينة وغيرها من الأعمال التي كانت في غنى عنها عندما كانت تسكن الشقة الصغيرة، فإدارة العمارة كانت تقوم بجميع تلك الأعمال وتوفر عليها الكثير من الوقت، ولأنها امرأة عاملة كان الوقت يعني لها الكثير، والأهم أنها قالت إنهم لا يحتاجون كل ذلك المنزل الكبير للإنفاق عليه كل هذا المال، فعائلتها صغيرة والبيت المستأجر كان كافياً جداً.

هذا هو واقع المجتمعات البشرية، القصة ونقيضها وكلٌ حسب حالته وحاجته، ولا يمكن أن نرى كل البشر ينظرون إلى الأمور من زاوية واحدة، وأكثر ما أعجبني في قصة تلك الزميلة الكندية هو بناء قناعة خاصة بها وعدم رغبتها بتقليد المجتمع الذي تعيش فيه، فهي كانت تجد الاستقرار من خلال استئجار المنزل وتوفير الوقت والجهد والمال، وليس من خلال شرائه.

لكن أعلم تماماً أننا نحن العوائل العربية نُحب تَملُّك المنزل؛ لأنه يمنحنا شعوراً بالاستقرار النفسي، وأسباب ذلك الشعور كثيرة، أهمها حجم عوائلنا والتي هي أكبر من العوائل الغربية، والأهم دولنا العربية التي فقدها معظمنا ولم يعد لديه مكان آخر يعود إليه، فالبيت بالنسبة لنا قد أصبح الوطن الذي يمنحنا الأمن والاستقرار.

هذا الأمر دفعني للبحث عن منزل أشتريه بعيداً عن وسط المدينة، فلو ابتعدت عن وسط مدينة تورونتو أو ميسيساجا لمدة ساعتين أو أكثر، سأجد الكثير من البدائل التي هي أرخص من وسط المدينة التي تشتعل فيها أسعار العقار بشكل جنوني، ولكن بعد تجربة العيش في الغرب كعربي مسلم، وجدت أنها فكرة غير ناجعة، وحديث الطائرة التالي أكَّد وجهة نظري التي بنيتها من خلال خبرتي في كندا.

في صيف العام الماضي كنت متجهاً من كندا في زيارة إلى الأردن وفلسطين، وبعدما حلَّقت الطائرة في السماء مُنطلقة من مطار تورونتو، تعرَّفت إلى رجل عربي كان يجلس بجانبي، هاجر إلى كندا منذ سنين، وكان هذا الرجل قد أنهى إجازته في كندا وودَّع أهله للعودة إلى عمله في الخليج.

لما سألته عن سبب عمله بالخليج وحيداً من دون أسرته، قال لي إنه يريد أن يجني المال ليتخلَّص من الرهن العقاري بأقصى سرعة؛ لأنه قد أصبح في الخمسين من عمره ولا يقوى على الغربة أكثر من ذلك، وبالتأكيد لم يجد عملاً في كندا يمكن أن يأتي له بمال صافي كما هو الحال في دول الخليج العربي.

أذكر أني عندما كنت أعمل في الخليج قبل المجيء إلى كندا، التقيت بكثير من الكنديين الذين جاءوا للعمل هناك – فقط – للتخلص من رهون بيوتهم العقارية، وكنت دائماً أتساءل إن كان هؤلاء يتمتعون بأي استقرار أُسَري، ما هذا البيت الذي سأفني حياتي أدفع أقساطه واضطر للاغتراب عن أسرتي سنوات متتالية قد لا تقل عن الخمس في أحسن الأحوال؟

لكن أهم جملة صارحني بها الرجل الذي رافقني على متن الطائرة، أنَّ لديه خوفاً مصحوباً بشعور بالذنب بسبب نقله أسرته من بيت مستأجر وسط المدينة إلى بيت ملك في ضواحيها، والسبب: هو العزلة التي أصبحت الأسرة تعاني منها، فهو لديه بنات قد أنهين الدراسة الجامعية، ولا يدري كيف ستتزوج كل واحدة منهن وهن في تلك العزلة؟!

هذا بالضبط السبب الذي جعلني أُغيِّر رأيي عن فكرة شراء بيت في مدن بعيدة ليس فيها جالية إسلامية، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإخراج البنات من خدورهن في الأعياد والمناسبات مثل صلاة العيد كي يعلم المجتمع عن وجودهن وتتم خطبتهن، فهناك الكثير من الجُهَّال يعتقدون أنَّ الزواج قسمة ونصيب، وأنَّ الله سيبعث بالعريس إلى باب المنزل، وهذا المُعتقد عارٍ عن الصحة ويُخالف عقيدة الإسلام جملة وتفصيلاً، والكثير من المسلمات مع الأسف الشديد دفعن ثمن جهل أهلهن بحقيقة القسمة والنصيب.

المهم أنه وبتلك العزلة والخوف والذنب، بدأ يتلاشى الشعور بالاستقرار لهذا الرجل، وأصبح حلماً اختفى إلى الأبد في غابات كندا الثلجية البعيدة عن مواطن الرزق في وسط المدينة، ناهيك من أنه كلما ابتعدت عن وسط المدينة كلما فقدت الأمل في إيجاد عمل، كما تصبح خياراتك محدودة إن لم تكن منعدمة في الإتيان بالمال كما ينبغي، حتى يُصبح البيت الذي اشتريته بعيداً قد أصبح لعنة عليك بكل ما تعني كلمة اللعنة من معنى!

عندما جئت إلى كندا، انتبهت مباشرة لهذه الفكرة الخطيرة، فأنا لديَّ ثلاث فتيات، وفي يدي قرار سعادتهن أو تعاستهن، وانتبهت إلى أني لو سكنت بعيداً عن جاليتنا، سأقضي على مستقبل هويتهن العربية والإسلامية، ونحن -العرب المسلمين- لدينا التزامات تجاه ديننا وعروبتنا، ولا يمكن اللعب بالنصوص الشرعية وتحريف الإسلام بسبب قرارات خاطئة اتخذناها في السابق.

منذ فترة كنت أشاهد وثائقياً على قناة (DW) الألمانية يتحدث عن امرأة عربية هاجرت إلى جزيرة آيسلندا في أقاصي الكرة الأرضية، وعلى الرغم من أنها أصبحت نائبة في البرلمان الآيسلندي، فإنها دفعت ثمن تلك الهجرة إلى بلد ليس فيه جالية إسلامية تُذكر، فبناتها تزوجنَّ من غير المسلمين وأزواجهنَّ لم يعتنقوا الإسلام، وعندما سألتها المراسلة كيف تجرأتِ على اتخاذ مثل ذلك القرار؟ قالت إنها لم تملك أي قرار أو سلطة على بناتها في الغرب، فكل واحدة بموجب القانون تقرر مصيرها بنفسها، فضلاً عن أنها تعتقد أنَّ النص القرآني قد وجب تطويره (تحريفه) ليواكب مستجدات العصر، فهي لا ترى أي حرج من اقتران بناتها برجال غير مسلمين!

هذا ما يحدث -عزيزي القارئ- عندما تضع نفسك في المكان الخطأ وتتخذ قرارات خاطئة، يُصبح الإسلام عبئاً عليك، كما تصبح نصوصه هي سبب التخلف!

للحصول على نوع من الاستقرار في بلاد الغرب، لا ينبغي للأسرة العربية المسلمة ترك المدينة المكتظة في أي حال من الأحوال، حتى لا يدفع المسلم ثمناً باهظاً لذلك الترك، (فعليك بالجماعة، فإنَّ الذئب يأكل من الغنم القاصية) وهذا قد يتطلب التضحية بفكرة الشراء للحصول على الاستقرار الحقيقي.

الاستقرار بالنسبة لي عزيزي القارئ، هو أن أحيا حياة كريمة وأنا خالٍ من الديون.. خصوصاً البنكية، وأن أكون حر الحركة في ملكوت الله قادراً على استغلال الفرص كلما أنزلها الله من السماء، والأهم ألاَّ أخشى على أسرتي من خلال إدخال الفشل إلى بيتي بيدي.

فقد تعلمت أنَّ الاستقرار الحقيقي يأتي من خلال تحصيل العلم والخبرة والقدرة على تطوير العقل والذات وبناء المهارات التي تأتي لي بالمال، فلو كان هناك شيء فعلاً قد منحني الاستقرار في حياتي، فبالتأكيد لم يكن ذلك الشيء بيتاً اشتريته أو جنسية غربية حصلت عليها، فتلك أمور قد تمنح استقراراً نفسياً مؤقتاً ولكن ليس دائماً.

إنما الاستقرار الحقيقي (الدائم) كان من خلال المبادئ التي أؤمن بها، وشهادتي الجامعية التي نلتها، والدورات التدريبية والخبرة التي حصلت عليها من خلال تنقلي حول العالم بين المدن والشركات الكبرى، ذلك الشيء الذي فتح لي أبواب العالم ومنحني الاستقرار.. وليس جواز سفر أو كومة أحجار.

في الختام، أريد أن أقول إنني مُدرك تماماً أنَّ هناك آلاف المتابعين المُحبِّين الذين يتأثرون بما أكتب وينتظرون رأيي في هذه المسألة؛ لذلك سأقول كلمة وأنا مسؤول عنها أمام الله، وأعلم يقيناً أنه سيُحاسبني – لا محالة – إن لم أختم بها، هذه الكلمة لأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بأنَّ لهذا الكون إلهاً، وأننا سنقف بين يديه يوم الحساب فُرادى، مسؤولين عن قراراتنا التي اتخذناها في هذه الدنيا.

كلنا يعلم أنَّ شراء البيت في كندا يستحيل من دون اللجوء إلى البنك، يعني أننا سنقترض المال ونرده مع زيادة، وهذا في الإسلام يُسمَّى (الرِبَا) الذي هو من أعظم المعاصي التي عرفتها الكرة الأرضية، وهي المعصية الوحيدة في القرآن الكريم التي توعَّد الله فاعليها بحرب في الدنيا والآخرة: "فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".

ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنَّ الربا جُرم عظيم يهدم البيوت ولا يُعمِّرها، ويجعل فاعليها أشقياء.. حتى وإن اغتنوا وأصبح لديهم مال وجاه، فهم عند الله أذلاَّء وسيحاسبهم حساباً عسيرا، وحُكم الربا ثابت في القرآن كثبات الجبال، لن يتغير مهما تغيرت الأماكن والأزمان.

الفتوى التي أصدرها علماء المَجمَع الفقهي في أوروبا وأميركا الشمالية واضحة ودقيقة، وهي تؤكد أنَّ شراء البيت في الغرب عن طريق القروض الربوية حرام ولن يُصبح حلالاً مهما كان الظرف، وبناءً عليه أجازوا القرض فقط للمضطر المحتاج صاحب العائلة الكبيرة الذي لا يجد مَن يُؤجِّره منزلاً، أو أنه لا يقوى على دفع أجرة منزل لعائلته الكبيرة والتي قد تصل إلى (3000) دولار شهرياً، في الوقت الذي يمكنه تدبير قرض من البنك بمُجمَل دفعة شهرية لا تتعدى الـ(1500) دولار.

واستند العلماء في الغرب على المبدأ الفقهي الشهير عند أهل السنة والجماعة (الضرورات تُبيح المحظورات) وذلك لأنَّ الله رحيم ولا يرضى لعباده الضرر في دينهم ودنياهم، فأجازوا اللجوء إلى البنوك للمحتاج الذي لا يجد سقفاً يستره، قياساً على مَن تقطَّعت به السبل وسط الصحراء، ولم يجد سوى لحم الخنزير ليأكله كي يبقى على قيد الحياة، فيجوز لذلك المُنقطع في تلك الحالة ذبح الخنزير وأكل لحمه.

لكن.. هل هذا الاستثناء يجعل من لحم الخنزير حلالاً؟ بالتأكيد لا، فحكمه ثابت في القرآن والضرورات لن تُغيره أبداً. والأهم.. هل يجوز لهذا المُنقطع أخذ ما بقي من لحم الخنزير ليبيعه في المدينة؟ أو ليُطعم منه غير المُحتاج؟ بالتأكيد لا؛ لأنَّ أهل المدينة التي عاد لها غير محتاجين لذلك اللحم وتلك الرخصة، فإذا فعلوا مثل الذي انقطع في الصحراء.. أثموا إثماً كبيراً.

وأنت عزيزي القارئ.. اسأل نفسك: هل تحتاج فعلاً لشراء بيت عن طريق الربا سواء في كندا أو غيرها؟ أم أنك فقط مُقلِّد للمجتمع الذي تعيش فيه؟ هل أثَّرت بك أصوات الأغلبية حتى سلبوا دينك وعقلك؟ هل أثَّر بك بعض سماسرة العقار الذين أصبحوا في هذه الأيام أسوأ من سحرة فرعون؟ أولئك الذين يُرعبونك بأنَّ العُملة تخسر قيمتها ويُشعرونك بالذنب؛ لأنك الخاسر الوحيد إن أعرضت عن شراء عقارهم؛ حتى أصبحت لا تنام الليل من شدة الصراع مع الذات ومع مبادئك لاتخاذ القرار.

نحن لا نُعارض استثمار الأموال عن طريق العقار أو غيره، ولكن أضعف الإيمان أن يكون ذلك الاستثمار حلالاً، وفتوى شراء العقار التي يتغنى بها الجميع هي ليست للاستثمار، إنما لستر عورة المحتاج! والفرق بين الحالتين كالفرق بين السماء والأرض.

إن كان المسلمون يلجأون إلى البنوك لشراء البيوت خوفاً على أموالهم من أن تخسر قيمتها في كل عام بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، فهل هذا مُبرر للتعامل بالربا؟ هل يجوز الاستثمار في الحرام لحفظ قيمة المال؟ مَن أفتى بذلك؟ أي مَجمَع فقهي أجاز الاتِّجار بالحرام لحفظ قيمة أموالنا من الخسارة؟

إن كان الأمر بهذه الطريقة، فلماذا لا نُتاجر بالخمور والمخدرات والأسلحة والملاهي الليلية وغيرها من المحرمات؟ برأيي هذه تجارة أربح من شراء البيوت، وقد يكون جُرمها عند الله أخف من الربا بكثير!

هل ترون كيف يُسوِّغ لكم الشيطان الحرام ويُجمِّله ويجعله استثماراً؟ فتوى خرجت مُحددة وواضحة ليس عليها غبار، فجأة تحوَّلت من (الحاجة لستر العورة) إلى (الحاجة للاستثمار)، وصدقوني ما الشيطان إلاَّ أنا وأنتم إن أقنعنا أنفسنا بالحرام على أنه حلال واستمتنا في تبرير ذلك.

أعيد وأكرر: أنا لست ضد شراء العقار في كندا أو الاستثمار فيه، وأتمنى أنَّ أمتلك منزلاً أُوسِّعُ به على زوجتي وبناتي، ولكن إن أردت أن أقوم بذلك.. فلا بد أن يكون بالحلال، أو على الأقل أكون ضمن أولئك الذين قسمت الحاجة والضرورة ظهورهم لا سمح الله، وأنا لا أراها ضرورة مُلحَّة في حالتي، وما زال بمقدوري أن أنتقل إلى مسكن أوسع بإيجار معقول وأرخص من القروض.

فلماذا أختار الذل لنفسي وأسرتي، إن وهبني الله خيار العزة؟ هل تعلمون ماذا يعني أن أمارس الربا – اختيارياً – كل يوم لمدة عشرين سنة؟ يا ليته كان سنة أو اثنتين أو ثلاثاً ثم ننتهي، بل عشرين سنة! بأي وجه سأقابل الله يوم القيامة؟

حتى لو انقضت حياتي ولم أمتلك ذلك المنزل، فليست مصيبة كبرى، فشراء المنزل في الدنيا ليس ركناً من أركان الإسلام، وذلك الاستثمار الربوي في العقار الذي سأخلِّفه لبناتي من بعدي.. هنَّ بغنى عنه، فالحرام له ناسه، وهنَّ لسن أهلاً لذلك بإذن الله.

بمشيئة الله، سأخلِّف لهنَّ ما هو أفضل.. سأخلِّف لهنَّ علماً وعقلاً وإسلاماً وإيماناً وخبرة وقوة في الرأي والشخصية وقدرة على البحث والفهم والاستيعاب، تجعلهن يقفن على أقدامهن في أي بقعة في العالم، والأهم أني سأخلِّف لهن نسباً شريفاً، يجعل أكابر القوم وأشرافهم يتسابقون على الاقتران بهن بإذن الله، فهذا استثمار حقيقي ما بعده استثمار كما أراده الله سبحانه وتعالى.

أحبابي.. كل واحد منكم أعلم بحاله، فلا تسمحوا لأحد أن يغويكم عن الحق، وفرِّقوا بين الحاجة وبين الاستثمار، وهذا مربط الفرس الذي تستند عليه فتوى المجمع الفقهي لعلماء أوروبا وأميركا الشمالية، ولو قرأتم القرآن وفهمتم كلام الله لن تحتاجوا لأي فتوى، فلا تستمعوا لأحد ولا تتأثروا بأحد، ولا حتى بتجربتي وكلامي، فأنا إنسان مثلكم، قد أُغيِّر رأيي وأضعف – لا قدَّر الله – وأسير يوماً مع القطيع، وحتى لو حدث ذلك.. فسيبقى كلام الله وأحكامه في القرآن ثابتة لا تتغير مهما ضعفنا وحاولنا تحريفه.

وتذكر أنك لو أكلت الخنزير مُضطراً وسط الصحراء، فليس لديك ما تتباهى به بين الناس إن عدت إلى المدينة، فأكل الخنزير للمضطر ليس مفخرة، بل المفخرة هو أن تسجد لله شكراً الذي رخَّص لك أكل الخنزير في ذلك الموقف!

حفظ الله عليكم أنفسكم وأموالكم وأهليكم وإسلامكم، ووسَّع عليكم في دنياكم، وجعل لنا ولكم من كل همّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حسين يونس
كاتب وباحث فلسطيني
تحميل المزيد