عجباً لوجعٍ يسكنُ قلوبنا، ويُداهمُ أجسادنا، يومَ أن نمضي نحو تحقيقِ أحلامنا دونَ رحمةٍ لنداءِ إنسانيتنا، وإنسانيةِ أحبابنا، حينَ يفترسُنا حب الريادةِ؛ ليكون خيارنا الأول الذي يسمو على خياراتنا الأولى كحب الأسرةِ والاستقرار، مقنعين أنفسنا بأن السعادةً الحقيقية هي الإنصاتِ لصوتِ داخلنا الذي يُنادينا إلى المعالي، حتى وإن كانتْ تلك المعالي على حسابِ راحتنا النفسية، التي لن تأتينا إلا برضا أهلنا والمقربين منا، أولئك الذين يدفعونَ ما تبقى من أعمارهم لأجلِ أن يفوزوا بالقربِ منا!
لحظة استبدادِ الطموح، يُضحي الطامحونَ بكلِ شيء؛ فيخسرون قلوبهم، ويُصبحون ضحيةَ جشعِ التميزِ، ذلك الجشع الذي غالباً ما يجلبُ لصاحبه الأمراض في سن مبكرة، فكم من طامحٍ أُصيبَ بداء السكر والضغط والقولون العصبي، وكم من مميزٍ لجأ مؤخراً إلى التخلصِ من مرارته؛ كي يمشي نحوَ طموحه، بعضُ الطامحين يدفنون قلوبهم في مقبرةِ اللامبالاة لنبضاتِ حنينهم لمحبيهم، فيسيرون في طرقٍ وعرةٍ معقدة شائكة، يتقهقرون لكنهم يأبون التراجع، وآخرون يُشفقون على إنسانيتهم فيتحطمون ويكونون أمام خيارين؛ إما التخلي عن أحلامهم لصالحِ إنسانيةِ محبيهم، أو اقتحام المزيد من العراقيل، وإن كان ثمن ذلك الموت في سبيل تحقيق الهدف!
أذكرُ ذات مرةٍ أحدهم قال لصديقةٍ طموحة: "إنني أدركُ جيداً رغبتكِ في أن تكوني نجمة في سماء المجد؛ لكنني أرى أن رسمكِ للابتسامة على شفتي إنسانٍ محب هي أسمى بكثيرٍ من تألقك"، لم تكن تلك الرقيقة والدقيقة في ذات الوقت في علاقاتها مع من حولها على درايةٍ بما يقصده ذلك الإنسان، لكنها مع مواقفَ متعددة أدركتْ صدقَ مغزاه، فلربما سلوكها لدربِ التميزِ والحياة المهنية على حسابِ استقرارها الأسري، سيقذفها في مهاوي التعبِ والإرهاق، الذي لن تصمدَ أمامه مدى الدهر، ولربما لو أفسحت المجال لقلبها لتسمعَ نبضاته، لأدركت أن سر الراحةِ قد يكون في التخلي عن تحقيق كافة الأحلام، والانصياع إلى نداء الإنسانية في رسمِ طريق السعادةِ لأحدهم، قد تشعرُ في ذلك بأنها ملكتْ الدنيا ومن فيها، ألم يقل الله جل في علاه: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ".
ليستْ الخيرة دوماً تكون في تحقيقِ أحلامنا المهنية، أحياناً تأتي الخيرة من بوابةِ التنحي عنها ولو قليلاً، بل ولو نهائياً؛ لأن قيمة الإنسان وسعادته أهم بكثير من أنانيةِ شعورنا بلذة الوصول إلى القمة، بل ربما إن اتقينا الله في إنسانيةِ أحبابنا وتعاونا صادقين من أجل إسعادهم، كان ذلك مدخلاً لهم ولنا؛ ليُساعدونا في الارتقاء إلى أعلى ساحاتِ المجدِ والطموح.
كثيراً ما تتساءل الفتيات من أهم الطموح أم الزواج؟ بعضُ التجارب والمواقف الشائكة في الحياة تجزم بأن كل إنسان مسيرٌ لما خُلق له، فإن وجدتْ فتاة طامحة بأن الطرقَ تتعثرُ بها في وصولها إلى أهدافها العملية، وكان في طريقها من يُحبها، عليها أن تتقي الله فيه، وأن تُدركَ أن السعادة لم ولن تُختزل أبداً في الحياة العملية، بل أساسها في الاستقرار وبناء الأسرة التي أساسها المودة والرحمة.
ومع التشديد على صحةِ المقولة التي تقول بأن الطامحين في الأغلب لا يتزوجون أو يتزوجون متأخراً، فإن المقولة أجدُها أكثر تطبيقاً عند الإناث، خاصةً اللواتي يُدققن في مواصفاتِ شريك الحياة، فعلى الأغلب أنهن لا يتزوجن؛ لأن المناسب في نظرهن لم يأتِ بعد! أعودُ إلى نقطة البداية، التي ألخصها ليس كل ما يتمناه المرء يُدركه، وبعضُ الأحداث الساخنة في حياتنا المهنية، هي محاولة من الإله لردنا إلى طبيعتنا الإنسانية، تلك الطبيعة التي تدعونا إلى التفكر في قوله تعالى: "وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ"، فقد أصبحتُ على قناعةٍ اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بأن البنت إن وصلتْ المريخ مصيرها للطبيخ، خاصةً إن وجدتْ من يُحبها ويُقدرها ويهتم لأمرها، لا مانعَ وقتها أن تُدير ظهرها لأحلامها العملية، لصالح قلبه الجميل وهدفه النبيل.
تُعلمنا الأحداث والمواقف، بأن لا نتشبثَ بالطريقِ التي تُعاندُ رغباتنا، وأنَ سعادتنا قد تأتي بالقبولِ بأبسطِ الأشياء وأيسرها، ولا أيسر من أن نتناغم بحب مع نغماتِ مشاعر الإنسانية، فتلك أيضاً طموحٌ من نوعٍ آخر، طموحٌ يؤسسُ لأسرةٍ مجيدة، وما أحلى حياة الطموحة التي لا تعتني بطموحها فقط، بل تُنجبُ أبناء يحملون شغفها في الطموحِ والمعالي، فهي وإن خسرتْ تحقيقَ طموحها الشخصي، أسستْ أسرةً طموحةً كاملة، وتلك الأسرة مصيرها أن تكبر وتُصبح مزيجاً من أسرٍ تتشابك في مجتمعٍ رائد، ما أجمل أن تُفكر كل طموحةٍ في غيرها، من بابِ رعايتها لطموحها، فتكسبُ بذلك أجراً وتبني مجتمعاً، وأخيراً أعزي كل من تخلتْ عن أحلامها لأجل غيرها "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فما يكتبه القدر يكونُ أروع وأجمل"!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.