أختي، التي تكبرني بسنتين اصطحبتني إلى المدرسة في أول يوم من أيام عالم الدراسة، ولقد كنت أرتدي ثياباً جديدة؛ لأن أبي الذي قبض تعويضاً عن إصابته في الحرب، قد صار قادراً على أن يشتري لنا ثياباً جديدة… وعندما قرع الجرس تركتني أختي؛ لتقف حيث يقف طلاب الصف الثالث.
أما أنا فقد وقفت مع الطلبة الجدد.. لم تكن المدرسة بناء واحداً، كانت غرفاً متفرّقة، قديمة، مستأجرة.. أدخلونا إلى إحداها، كانت ترابية ومعتمة، فتكدّسنا فوق مقاعدها، ولم يطل بنا الأمر، حتى دخل مدرس متجهم، أعاد ترتيب أماكن جلوسنا بحسب أطوال قاماتنا.
كنت في صف المقاعد الثاني، وبجانبي كان عبد الله، وبجانبه كان محمود. عبد الله كان أصغر إخوته، وكان نحيلاً، وكان يرتدي دائماً ثياباً لا بد أنها لأحد إخوته الأكبر منه؛ فيغدو بجسده النحيل وثيابه الواسعة أقرب ما يكون إلى الفزاعات التي ينصبها أهلنا لإخافة العصافير، وكان صامتاً وخجولاً وغير مجتهد، لكنه طيب ومسالم.
في ذلك العام نفسه، وفي أحد أيامه التي هي أحد أيام يناير/كانون الثاني شديدة البرودة، وصل عبد الله إلى المدرسة، وهو يرتجف، كانت أسنانه تصطك بقوة، وجسده يرتعش، ولم نكن نجرؤ على أن نخبر المدرس بالأمر.
في ذلك اليوم، باءت بالفشل كل محاولاتنا في إشعال مدفأة الحطب داخل الصف، كان الخشب مبلولاً، والهواء الذي كان شديداً يومها، كان يدفع كل الدخان المنبعث من احتراق الخشب الرطب إلى داخل غرفة الصف، مما اضطر المدرس إلى إيقاف المحاولة، وغادر الصف إلى الإدارة.
بعدما غادر المدرس الصف، استسلم عبد الله لألمه، وما كان يخفيه خوفاً من المدرس، لم يعد مضطراً إلى إخفائه، فتكوّر فوق المقعد، وراح يرتجف بعنف… وكنت أرى قدمي عبد الله الظاهرتين من أسفل حذائه المهترئ، كانتا زرقاوين… ولم يكن يرتدي أي شيء يحميهما به، ثم ذهب عريف الصف إلى الإدارة ليقول للمدير: إن عبد الله يموت. وهكذا جاء المدير ومعه الإذن، واصطحبوا عبد الله إلى غرفة الإدارة، وبعدها أرسل المدير في طلب والده، فذهب عبد الله إلى بيته.
ولم يأت عبد الله في اليوم الثاني إلى المدرسة، ولأنني جار عبد الله في المقعد؛ فقد سألني الأستاذ عنه، فقلت له: إنه غائب. لا أدري يومها لماذا اهتم المدرس بعبد الله، فقال لي مهدداً:
– كل يوم، بعد انتهاء المدرسة بتروح لعند عبد الله، وبتقرا إنت وياه كل الدروس التي سنأخذها… بسلخ جلدك إذا ما رحت. فوافقت.
ولقد أخبرت أمي عن المهمة التي كلفني بها المدرس، فوافقت على مضض. وهكذا، بعد أن استمعت إلى سلسلة التعليمات: بعدم الاقتراب من عبد الله، وعدم الأكل معه؛ لأنه قد يكون مصاباً بالتيفود (التيفوئيد) و… و… حملت محفظتي، وتوجهت إلى بيت عبد الله.
هبطت الزاروب المتعرج المفضي إلى بيت عبد الله، كان البرد شديداً، والسماء تمتلئ بغيوم سوداء ورياح مجنونة تصفر في شجرات السنديان، انعطفت أمام بيت عبد الله الترابي. لم يكن أحد هناك، ترددت قبل أن أعبر الباب المفتوح. مددت رأسي إلى الداخل. لم يكن ضوء النهار قادراً على تبديد الظلمة الشفيفة التي تربض داخل البيت الغارق بالصمت، عبرت الباب. لم يكن أحد في البيت (فكرت أن عبد الله لا بد أن يكون نائماً في العرزال)، لكن صوته جاءني من الجهة الأخرى، صوت واهن ممزوج برنة فرح:
ـ أنا هنا، تعال.
– مشيت فوق الأرض الترابية المرصوصة بقوة. كان يستلقي فوق فراش رقيق مفروش بجانب النافذة الضيقة، كان رأسه يخرج من تحت ركام الأغطية التي تغلفه. وجلست بجانبه، كانت بقايا حطبة لاتزال تتوهج في الحفرة التي تتوسط مكان المعيشة وتقوم مقام المدفأة. كان صوت تنفسه المتلاحق يمتزج بأنة خفيضة، والضوء الذي يعبر النافذة يسقط فوق وجهه وأغطيته. وكان وجهه شديد الحمرة.
أنا قلت لأمي أن تضعني هنا، هناك في العرزال عتمة شديدة، قال عبد الله وهو ينظر عبر النافذة.
– أنظر فأرى الغيوم تملأ فسحة الزجاج، غيوم عابسة قاتمة. أقول متحسراً:
لن نرى الشمس اليوم…
قلت لعبد الله عمّا طلب مني المدرس. ولم أدر كيف سأشرح له ما أخذناه من دروس؛ فصمتنا. بعد قليل نهضت، قال وهو يستند على مرفقيه ساحباً جسده إلى الأعلى:
لا تذهب… لقد ضجرت، منذ الصباح وأنا لوحدي، ذهب أبي وأمي إلى بيت أختي التي تلد… وإخوتي تركوني، وذهبوا.
ثلاثة أيام غابها عبد الله عن المدرسة، كنت خلالها أزوره يومياً. منذ ذلك اليوم أصبح عبد الله رفيقي الدائم، استطعت أن أقنع أمي أن تعطيني جورباً وكنزة صوفية كي أعطيهما له، ترددت أمي؛ فأنا أكبر إخوتي، والثياب التي أرتديها لا تزال أمامها مهام كثيرة، فهي ستواصل انتقالها من أخ إلى آخر حتى تهترئ تماماً. لكنها وافقت.
لم يكن قد مضى إلا بضعة أشهر من وجودنا في الأول الثانوي، عندما أخبرني عبد الله أنه سيترك المدرسة، وأنه سيتطوع في "سرايا الدفاع". ودعته في ذلك اليوم، وفي صيف ذلك العام جاء في أول إجازة له، كان قد مضى ستة أشهر على ذهابه، وكان قد جاء إلى زيارتنا ببدلته العسكرية المرقطة، وكان لا يزال خجولاً. وضع جانباً كيساً بلاستيكياً، وعندما خرجت أمي لتحضر لنا الشاي، ضحك قائلاً:
– هناك حسنات بعشر أمثالها، وهناك حسنات بمثلها… ثم أخرج من الكيس رزمة من الجوارب قائلاً: هذه من نوع الحسنة بعشر، ثم أخرج كنزة، وقال: هذه من نوع الحسنة بمثلها…
لم أر عبد الله بعدها، فقد انتقلنا في بداية العام الدراسي إلى اللاذقية. كنت أحياناً أرسل إليه سلاماً مع أحد إخوته، وكان يصلني منه سلام مع أحد ما.
بعدما فشلت محاولة انقلاب رفعت الأسد على أخيه، ففشل في انتزاع السلطة في 1984، تقرر حل سرايا الدفاع. وهكذا، انتقل عبد الله، بعد وساطة من أحد ما، إلى شعبة المخابرات العسكرية.
في فرع فلسطين، في إحدى جولات التعذيب، سأصرخ مستغيثاً بجدي "عبد الله الدالية "… هكذا يستغيث كل أبناء قريتي عندما يقعون في مشكلة ما. وسيتوقف من يجلدني عن جلدي، فجأة. ثم وبما يشبه الجنون يندفع إلي، وينزع الطميشة عن وجهي… ونظر إليّ، وسألني: من أنت؟
سكتّ، فقد كان ممنوعاً علينا أن نذكر أسماءنا… فصرخ بي بانفعال: ولك هل اسمك بسام؟
هززت برأسي موافقاً… فأدار وجهه جانباً… ودار في غرفة التحقيق بعد أن أغلق بابها… وكان يدور ويدور… ولم يعد ينظر باتجاهي، ثم فجأة التفت إليّ، كانت عيناه مليئتين بالدمع… فتمعّن بي، ثم سألني: ما عرفتني!
لم أكن قد رأيته منذ عشر سنوات… كان قد تغير كثيراً… هززت رأسي نافياً، فسكت… ثم أطرق برأسه، ثم تنهد قائلاً: أنا عبد الله…
لم يستطع عبد الله أن يفعل شيئاً لأجلي… كان يشتمني قائلاً: ليش عملت هيك… منذ أن سمعت باعتقالك، وأنا أخاف هذه اللحظة. قلت له: يجب أن تسأل نفسك لماذا أنت هنا؟
كان يدور مثل قط حبيس… فجأة فتح باب غرفة التعذيب، ثم غادر، بعد قليل نقلوني إلى غرفة تعذيب أخرى.
كل ما استطاع عبد الله أن يفعله، هو أنه – في أحد الأيام- بعد انتهاء فترة التحقيق، وكنت قد انتقلت إلى السجن في قبو فرع فلسطين، تم استدعائي إلى غرفة السجانين، وقد كانت هناك مجموعة من الأشياء التي أشار إليها السجان قائلاً: هذه الأغراض أرسلها إليك أهلك.
حملت الأغراض وخرجت، ثم في المهجع تفحصنا الكنز القادم، كان: بطانية زرقاء بخطوط سوداء، وكروز دخان حمراء طويلة، وعلبة حلاوة، وغيارين داخليين.
يومها، لا أدري لماذا توقعت أن عبد الله هو من أرسلها.
التقيت عبد الله مرة أخيرة في دمشق، كنت أعبر ساحة الحجاز عندما استوقفني شخص بلباس مدني وبكرش ضخم… كان ذلك بعد خروجي من السجن بسنة تقريباً… عانقني، وهنأني بخروجي، وعندما أحس أنني مرتبك نظر إليّ صارخاً بي:
– ولك ما عرفتني… لحظتها عرفته؛ فتعانقنا مرة أخرى، وفي مقهى الحجاز جلسنا طويلاً، وسألته عن البطانية الزرقاء؛ فضحك وقال مازحاً: هي أنا بدي ياها بعشرة أمثالها.
كان قد تزوج، وأنجب أربعة أولاد.. خسر عبد الله ابنه الأول في درعا… كنت لا أزال في سوريا يومها، لم أتصل به؛ لأعزيه. تحاشيت كثيراً طقوس العزاء التي كثرت بعد أن زج آل الأسد الجيش السوري في مواجهة مع الشعب السوري دفاعاً عن كرسي السلطة. بعد أيام هو من اتصل بي، وعاتبني على عدم تعزيته، قال لي: دائماً تعزي بمن يقتلون في الجهة الأخرى، لماذا لا تعزي بمن يقتلون بالجهة المقابلة؟ قلت له: لأنني ببساطة مقتنع أن من في جهتكم هم في موقع المعتدي والظالم، وأن الآخرين هم في موقع الضحية والمظلوم.
صمت قليلاً، ثم قال: وهل تفرح لموتنا؟
قلت له: بالتأكيد لا، يحزنني جداً، وربما أنا أشد حزناً عليهم من كثيرين قدموا للتعزية بهم، لا تصدق أن سورياً يريد سوريا وطناً يفرح بموت سوري آخر…
غادرت سوريا… وفي 2014 كنت قد وصلت تركيا بعد محطة مصر… رنّ هاتفي من رقم لا أعرفه.
– سألني المتصل إن كنت أنا بسام، فأجبته بالإيجاب، وعندما سألته: من أنت؟ ضحك، وقال:
– شخص له بذمتك بطانية زرقاء.
ثم قال لي بعد سلام سريع: اسمع هل يمكنك مساعدتي؟
قلت له: أنت تعرف أنني لن أتوانى لحظة واحدة عن مساعدتك إن كان بإمكاني المساعدة.
قال: ابني الثاني سيهرب من الجيش، هل يمكنك مساعدته؟
قلت له: إنني مستعد لمساعدته فور خروجه من سوريا، داخل سوريا لا يمكنني فعل أي شيء من أجله. صمت قليلاً، ثم قال بماذا تنصحني؟
ما أصعب هذا السؤال الذي واجهته مرات عديدة… سألته: إن كان قادراً على أن يضمن سلامته هو وباقي أفراد أسرته في حال هروب ابنه، لقد كان حائراً… صمت قليلاً، ثم ودعني، وقبل أن أرد عليه أغلق الخط.
بعد عدة أشهر علمت أن ابنه الثاني قتل في حلب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.