بدأت الترجمات الغربية للقرآن في القرن الثاني عشر، وتُرجمت إلى لغات عدة: كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية، ورغم ذلك كانت النظرة السائدة لا تقدم على بحث حول القرآن كنص وإنما كان الاهتمام بدراسة اللغة العربية والإسلام بشكل عام دون دراسة حقيقية للقرآن.
وبحسب إسلام سعد -الباحث في الفلسفة الغربية- فإن أول بحث حقيقي لدراسة النص القرآني كان على يد أبراهام جايجر (1810 – 1874م) اليهودي الألماني الذي درس التشابه بين آيات القرآن والتعاليم اليهودية في كتابه (ماذا اقتبس محمد من اليهودية؟).
لكني أميل لاعتبار الكتاب الأول الذي كان له اعتبارية كبيرة في هذا الحقل من العالم الغربي والعالم العربي فيما بعد هو كتاب:
تاريخ القرآن 1860
يعد من أهم الكتب التي كتبها المستشرق الألماني ثيودور نولدكه في سنة 1860، ويتكون هذا الكتاب من ثلاثة أجزاء هي: أصل القرآن، جمع القرآن، تاريخ نص القرآن.
في الجزء الأول (أصل القرآن) ناقش فيه تصوره عن مفهوم الوحي والنبوة وعلاقة القرآن بالكتاب المقدس والديانة اليهودية، كما اقترح تقسيم سور القرآن على أساس تاريخ نزولها إلى مكية ومدنية، وحاول إعادة ترتيب السيرة النبوية بما يتوافق مع هذا الترتيب.
بينما الجزء الثاني (جمع القرآن) ذكر فيه عمليات تدوين القرآن منذ عصر النبي والصحابة مروراً بالجمع الأول وحتى نسخة الخليفة عثمان بن عفان، وقد استعان في بحثه بالمصادر الإسلامية والمرويات المعتمدة لدى الأمة الإسلامية.
ثم في الجزء الأخير (تاريخ نص القرآن) درس رسم وكتابة المصاحف والقراءات المتعددة له، وقد أضاف ملحقاً للمخطوطات القرآنية المتوفرة لديه. ونظراً لأهمية الكتاب فقد ظلت الطبعات المتتالية تتعرض للتنقيح والزيادة والتعديل حتى عام 1938، وقد قام بكتابة بعض التعديلات تلميذه فريدريش شيفالي بناءً على طلب نولدكه بعد تفاقم مرضه. وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه يُعد البحث الأول الذي يتناول القرآن ودراسته من داخله وليس من خلال البيئة الخارجة عنه في تقسيمه لترتيب السور حسب التتابع التاريخي لنزولها.
مذاهب التفسير الإسلامي 1920
الكتاب الثاني الذي كان نقلة كبيرة في دراسة القرآن هو كتاب المستشرق المجري إيجانس جولدتسيهر. كتاب مذاهب التفسير الإسلامي، وتناول مذاهب المفسرين بالتحليل من القرن الأول الهجري حيث يبدأ من الصحابة: ابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما، إلى أن يصل إلى محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني والحركة الإسلاميّة التي ظهرت في الهند نهاية القرن التاسع عشر، هذه هي الفترة الزمنية التي يدرسها لتطوّر قراءة المسلمين للقرآن الكريم وتفسيرهم له. وترجع أهمية هذا الكتاب أنه يعد البحث الأول الذي كان له السبق ببحث مناهج المفسرين للقرآن، حيث يقوم بالدرس والتحليل لمذهب المفسر ومدى تأثيره في فهمه للقرآن.
شكّل هذان الكتابان البداية الحقيقية لما يمكن تسميته بالدراسة العلمية للقرآن عند المستشرقين، وحازا ريادة الدراسة القرآنية للعلماء والدارسين وتأثر بهما كل من كتب بعدهما في هذا المجال. وأعتقد أن من خير الأمثلة على ذلك كتاب المستشرق الأمريكي جون وانسبرو.
كتاب الدراسات القرآنية 1977
وهذا الكتاب ينطلق من تطبيق المناهج الأدبية على المدونات الإسلامية التقليدية مثل السيرة والتفسير، ويستنتج أن هذه المدونات لا تقدم سرداً تاريخياً دقيقاً لتاريخ الإسلام المبكر وتاريخ القرآن؛ وهو ما يعني ضرورة تفكيك هذه السردية وبناء تاريخ جديد يقوم على دراسة المخطوطات والنقوش وعدم التسليم لنقولات شفهية ومرويات تاريخية.
وقد عرضت قراءة للكتاب باللغة العربية د/هند الورداني في مقال منشور لها كتالي:
حيث ذكرت أن الكتاب مقسم لأربعة أبواب رئيسية:
الباب الأول: الوحي والشريعة، وقد شمل نظرته عن الطبيعة الأدبية للقرآن وعلاقتها بالكتاب المقدس من تكرار الأسلوب والكلمات وتكرار قصص الأنبياء.
الباب الثاني: درس فيها الفوارق بين حياة النبي في القرآن والسيرة.
الباب الثالث: أصول العربية الكلاسيكية، وقد اعتمد فيها على نظريات مرجليوث لاختلاق الشعر الجاهلي في عصر الدولة الأموية.
الباب الرابع: قواعد التفسير، ويقسم نظريات التفسير إلى عدة تقسيمات متأثراً فيها بنظرية جولدتسيهر.
لم يتم ترجمة الكتاب للعربية حتى الآن رغم أهميته الكبيرة في الدراسات الغربية، حيث يعتبر أ.طارق حجي هذا الكتاب قد شكّل النواة الأساسية لاتجاه مماثل في البحث الغربي للقرآن ويعرف باسم الاتجاه "التنقيحي" أو الاتجاه التشكيكي.
أي إن هذه المجموعة من الباحثين تقوم على أساس نقدي بمراجعة للمرويات التاريخية عن الإسلام، ومحاولة بناء تاريخ جديد يقوم على دراسة الأدلة المادية كالمخطوطات والنقوش للقرن السادس والسابع الميلادي بالدرجة الأولى، ثم الاعتماد على الكتابات القديمة لغير المسلمين التي تؤرخ لتلك الفترة.
شهدت الدراسة الغربية للقرآن في ذات الفترة اتجاه آخر، وهو التناول "التزامني" للقرآن، والذي ينطلق من فرضية معاكسة تماماً؛ وهي القول بأنّ النص القرآني -كما هو موجود الآن- نصّ متسق وله بنية تحتاج للكشف عنها والبحث فيها لفهمها، وتعد أنجيليكا نويفرت أهم رواد هذا الاتجاه وخاصة مع صدور كتابها.
دراسات حول تركيب السور المكية 1981
وأثار اهتماماً واسعاً في أكاديميا الدراسات القرآنية؛ فقد استطاعت الباحثة الألمانية أن تقدّم أفكاراً جديدة على ساحة الاستشراق الغربي حول دراسة النص القرآني باعتباره نصاً أدبيّاً له ميزاته الخاصّة، وحددت السورة القرآنية لتكون وحدة هذا النص، بالإضافة إلى مُجادلتها المستمرة للتعامل مع القرآن باعتباره نصاً مقدساً وإيجاد العلاقة بينه وبين الكتاب المقدس، وقد استفادت من تقسيم نولدكه من التقسيم المكي والمدني لسور القرآن، وأضافت لهذا التقسيم تقسيماً ثلاثياً للسور المكية كالتالي:
أ- مكية مبكرة
ب- مكية وسيطة
ج- مكية متأخرة
وحاولت تحديد عناصر متشابهة أو متماثلة لكل سور المرحلة الواحدة وتطبيق المنهج الفيلولوجي، وقد شكّل هذا العمل بداية الاتجاه التزامني وازدهر، وأصبح له وزن في الأوساط الأكاديمية التي اعتمدت المصادر والمرويات الإسلامية بنظرة مغايرة عن الاتجاه التشكيكي، ومحاولة دراسته برؤية أعمق والاستفادة من مناهج التحليل الأدبي للنصوص وتطبيقها على القرآن.
وعلى الرغم من اختلاف الاتجاهين من حيث المنطلقات التأسيسية لكلا الفريقين إلا أنهم قد اتفقا على الأدوات البحثية ذاتها. فكلا الفريقين يُخضع المنهج الأدبي لدراسة القرآن، ولكن يعمل الاتجاه التنقيحي لدراسة المناهج التي تدرس الكتاب المقدس فقط، بينما ينفتح الاتجاه التزامني على جميع المناهج الأدبية التي تدرس النصوص بوجه عام. النقطة الأخرى هي اتفاقهم على الدراسة الأركيولوجية للتاريخ، والاعتماد على المخطوطات في إثبات تاريخ جمع القرآن، إلا أن الاستنتاجات التي يتوصلان إليها قد تصل من الاختلاف إلى حد التناقض والتضاد في بعض الأحيان!
فمثلاً نجد عدة دراسات من باحثي الاتجاه التنقيحي تعتبر دراسة المخطوطات التي ظهرت من صنعاء نتيجة لاختلاف المصحف الحالي (مصحف الإمام) عن المصحف الأصلي أو القرآن الأصلي، وهو بالنسبة لهم استنتاج قائم على دليل أركيولوجي لا يقبل الشك، وعلى الجانب الآخر نجد نتيجة مغايرة تؤكد على توافق المخطوطات القديمة للمصحف الحالي.
في عام 2014، أصدر أستاذ الكتابات القديمة والباحث الفرنسي فرانسوا ديروش كتابه مصاحف الأمويين: نظرة تاريخية في المخطوطات القرآنية المبكرة، الذي درس فيه النسخ الأولي من القرآن التي تعود إلى القرن السابع الميلادي، مضيئاً ظروف ومراحل جمع القرآن الكريم وتدوينه ورسمه وتداوله في صدر الإسلام.
ويوضّح الكتاب أن دراسة النص القرآني في شكله المكتوب تقتضي إحصاء وتمحيص المخطوطات القرآنية القديمة التي كتبت في الفترة الممتدة من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي، وقد ترجم الكتاب د/حسام صبري عام 2023 ضمن مشاريع الترجمات من مركز نهوض.
وفي العام ذاته 2014 صدر كتاب مهم أيضاً يتناول التحليل الأدبي للقرآن للبلجيكي ميشيل كويبرس، وهو كتاب:
في نظم القرآن.. قراءة في نظم السور الثلاث والثلاثين الأخيرة من القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغي
وترجع أهمية الكتاب إلى تطبيقه للمنهج الأدبي للبلاغة السامية التي طبقها على سور القرآن، والذي شرح فيه نظرية التقابل أو التناظر، وهي تحتاج لتفصيل لن يتسع المجال لشرحه هنا، ولكن يمكن الإشارة لمن أراد فهم النظرية بشكل تفصيلي الرجوع إلى بحث قد نشرته في مركز تفسير بعنوان "بنية وتفسير سورة المؤمنون لنيل روبنسون، عرض وتقويم". وهو متاح على شبكة الإنترنت.
ربما أضفى التحليل الأدبي على النص رحابة مجال جديد/قديم لاشتغال عدد من الباحثين العرب والمسلمين المعاصرين مثل: د/وليد صالح، ود/نيفين رضا، ود/محمد عبد الحليم وغيرهم، والذين قدموا عدداً من الدراسات التي تعتمد على الموروث العربي الإسلامي، وكذا الاستشراقي في استكشاف بنية النص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.