من الألفاظ التي ولّدتها حرب غزة، والتي تُعطي حِساً مفاهمياً استعارياً مصطلح المسافة صفر، فهذا المصطلح يعني المواجهة المباشرة مع العدو، وبالتالي الوصول إلى أهداف صائبة يصعب فيها الخطأ، ويسهل فيها الصواب. وإن كانت الظاهرة الاستعارية للمصطلح وفق حالة حربية فإنه يحمل مفهوماً سياسياً في حدود مستويات التفاوض، وقد استخدمه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في نقده لمفاوضات أوسلو، إذ إن المفاوضات لم تبدأ من المسافة صفر؛ بل من النقطة التي أرادتها إسرائيل فكانت لجان المفاوضة تفاوض على أحدث حالة أصابت الوهن العربي الفلسطيني، والنتيجة دولة عربية على مساحة أقل من 18% من أرض فلسطين. أما في حالة حرب غزة فهناك دهاء في التفاوض، تمثَّل في الجناح السياسي لحركة حماس والعديد من الفصائل، فما المقصود بالمسافة صفر في المفاوضات؟
تعني المسافة صفر في المفاوضات إرجاع الوضع العسكري على ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، أي انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، وعودة النازحين، ووقف العمليات الجوية والبرية وقفاً كاملاً، وهذه الثلاثية تعني المسافة صفر في المفاوضات، مع نزول في حدة المفاوضات في بندين: بند تبييض السجون، والاستعاضة عنه بإخراج الأسماء التي تريدها حماس من أصحاب المحكوميات العالية. وبند تدنيس الأقصى من قِبل قوات الاحتلال، وعدم إقامة الشعائر الإسلامية، فهذان البندان خفتا في ضوء التجويع والتهجير في غزة.
لعل أصعب ما يعتلي المفاوضات هو ظهور الغشاوة الرمادية التي تتمثل بوجود أفاعي المفاوضات، تلك الأفاعي تتمثل بوجود ضامن القتل الأول وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وضامن المُشاهِد من الشُّرفة وهي الدول العربية، فالمقاومة تحمل في جعبتها الصمود، ولكن أمريكا والأنظمة العربية لا تنظر إلى غزة إلا بعين حماس، ذلك الفصيل الإسلامي الذي يحمل أيديولوجيا الإسلام السياسي، ووأده يعني وأد فكرة المقاومة، وللأسف لم تشكل الدول العربية أي أوراق ضغط خصوصاً في مسار المفاوضات، بل على العكس تماماً كانت العديد من الدول العربية تسترضي من إسرائيل المحبة دون أي خجلٍ أو حياء من شعوبها، أو في وصف تعبير بلزاك: "حَسَناً، مَا الغَريبُ في ذلك؟ أنَا فَقط أَوَد".
إسرائيل تتقوى بضامن القتل أمريكا، وتستند بشاهِد الشُّرفة المتفرج، أي الأنظمة العربية؛ لذلك تسير وفق القاعدة التي سيطرت على تبعيات الحرب الباردة: إنْ لم تربح كل شيء تخسر كل شيء (zero-sum game)؛ إذ إن إسرائيل تريد الأسرى، والقضاء على حماس، والبقاء في غزة، والسير وفق منظومة اجتثاث التطرف أو اجتثاث حماس. بالنسبة لإسرائيل أي تنازل عن هذه الأهداف يعني أن غولياث سيسقط بمقلاع داود، وهذا ما لا تريده إسرائيل، فصنعَت لنفسِها مجموعةً من السياسات الحربية، لتكون جزءاً تبتعد فيه أكثر من المسافة صفر، فهجَّرت وجوَّعت لتُفاوض عليهما، وليكونا أداة بيد الأنظمة العربية التي تغنت بفتات الطائر الذي أنزلته على البحر.
إن مفاوضات باريس، أو الدوحة، أو القاهرة تحمل طابعاً إعلاميا يريح حكومة نتنياهو، فالقضاء على حماس لم يعد حُلماً بقدر ما هو حالة حقيقية؛ لذلك يريد أن يبتعد قدر المستطاع عن المسافة صفر في المفاوضات، فتلك المفاوضات بالنسبة إليه تمثل مجدافَ نجاة للوضع السياسي المتأزم، وانتصاراً على الحالة العسكرية الإقليمية، وانتصاراً كذلك على المجتمع الدولي الذي ينظر إلى إسرائيل بوصفها القاتل الرحيم وفق الدعاية الأمريكية. فإسرائيل تريد دعماً إنسانياً للقطاع، وهذا ما يحصل ليبدأ الدعم بعمليات الإنزال الجوي، والآن الحديث عن ميناء بحري مؤقت، وهذه دلائل على أن معركة رفح باتت وشيكة، ولكن بقدر من الاستنزاف فلا الجغرافيا ولا الزمان يسمحان بمعركة قريبة، فزمانياً رمضان يعد محركاً دينياً للمشاعر، خصوصاً في الضفة، وجغرافياً تحتضن رفح معظم أهل غزة، لذا أمام إسرائيل في التفاوض أن تبحث عن مخطط زمني لعودة النازحين إلى الشمال، وإنشاء مربعات آمنة بالقرب من رفح، وانتهاء رمضان، لتبدأ حملتها العسكرية على رفح، ولتطبق قاعدة إن لم تربح كل شيء تخسر كل شيء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.