قرابة الـ150 يوماً عاشها الفلسطينيون في نكبة ودمار، في هدم وظلام، في نزوح للمخيمات، وقتل مباشر، واستهداف واضح للأطفال والنساء.
150 يوماً والعالم يشاهد في صمت، يشاهد مجازر وحرب إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً لا مثيل له.
150 يوماً وكأننا ذهبنا بعيداً لمحرقة الهولوكوست، وتصدّر هتلر المشهد، ويكأن الاحتلال ينتقم حالياً من أفعال هتلر معه في الشعب الفلسطيني.
150 يوماً أشبه بفيلم رعب خيالي، يقدم أطفالاً أبرياء بلا مأوى، جياعاً يموتون من قلة الأكل، ورجالاً يأكلون الصبار بشوكِهِ كي يبقوا على قيد الحياة، ونساء يبحثن في القمامة عن لقمة عيش تسد جوع أطفالهن، ويخبزن من علف الحيوانات خبزاً لسد شهيتهم.
يا لها من مشاهد قاسية، تظن أنها عمل درامي مخرجه يجبر مشاهديه على التعاطف مع الضحايا، لكنها حقاً مشاهد قاسية، ولكن هم ليسوا بضحايا، هم أصحاب الأرض، هم الحق، ودولة الاحتلال بجبروتها وجيشها وأسلحتها ودباباتها وطائراتها إلى زوال، لأنهم أهل باطل، أهل عدوان وغدر، ولصوص سرقوا الدولة من أصحابها وهم الشعب الفلسطيني.
فنحن للأسف الشديد لسنا في فيلم أو عمل درامي سخيف لا يتناسب مع هذا العصر والتطور الذي نعيش فيه، بل نحن في واقع مرير أليم موجع، وشعور بعجز شديد، وقلة حيلة لا مثيل لها، فالقرار ليس بأيدينا.
نحن شعوب العالم ليتنا نتخد القرارات ونستخدم حق الفيتو ونسنّ القوانين ونشرّعها، للأسف يئِسنا أشدَّ اليأس، وأصبح الدعاء هو الوسيلة الأكثر استخداماً في نصرة أهلنا في غزة، بعد خذلان الأنظمة العربية والمجتمع الدولي لنا، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، الكل يرى ويشاهد ويشجب ويدين من دون قرارات صارمة وعقوبات مشددة على قتلة الأطفال والنساء بدم بارد، بحجة الدفاع عن النفس، وردة الفعل على ما حدث يوم السابع من أكتوبر.
حالة من الإحباط أصابت الجميع، وأنا منهم، لعدم اتخاذ أي قرارات حاسمة تقف أمام هذا العدوان الغاشم والحرب القذرة على أهلنا في فلسطين، دعونا نتخيل حدود دولة فلسطين مع من؟ بالطبع هي مع أشقائها من العرب، مع مصر والأردن وسوريا.
فماذا هم فاعلون؟!
يحافظون على معاهدات السلام بينهم وبين الدولة المحتلة للأرض العربية التي لا تعرف للسلام معنى، يخافون من مخالفة القوانين ولا يخافون من الله، يغلقون الحدود ويمنعون دخول المساعدات مجبرين خوفاً من العقوبات الدنيوية للقوانين الصادرة من منظمات لا تعرف للعدل معنى، بل ويصدرون أيضاً للاحتلال الإسرائيلي المجرم خضراوات وفواكه، وفقاً لما أكده مدير اتحاد المزارعين في الأردن المهندس محمود العوران، قائلاً: "هناك تصدير لكيان الاحتلال، لكن لا يوجد أي نوع من أنواع التطبيع بين المزارع الأردني والمزارع الإسرائيلي.
فيما صرَّح وزير الزراعة الأردني المهندس خالد الحنيفات، قائلاً: "لا يوجد أي قانون يوقف التصدير، ولا علاقة للحكومة بتعاقدات التجار".
أما رئيس غرفة تجارة السلط، سعد الحياري، فأشار إلى أن الأردن يصدّر لكل دول العالم ولديه اتفاقيات، وبالتالي أي تاجر مسجل ضمن أي نطاق في أي غرفة تجارية يملك الصلاحية أن يصدر لكل دول العالم.
أما مصر، فقد أكد وزير خارجيتها سامح شكري التزام بلاده باتفاقية السلام مع إسرائيل، مشيراً إلى أن مصر تبذل جهوداً حثيثة من أجل الوصول إلى اتفاق هدنة في غزة، جاء ذلك في مؤتمر صحفي مشترك مع وزيرة خارجية سلوفينيا في العاصمة السلوفينية ليوبليانا، رداً على سؤال بشأن تأثير التطورات في قطاع غزة على السلام مع إسرائيل.
أما سوريا فرئيسها بشار الأسد يفعل ما يفعله نتنياهو مع الشعب الفلسطيني، حيث أثار حضوره القمة العربية-الإسلامية الطارئة، التي عقدت بالرياض في 11 نوفمبر الماضي، أثار مشاعر غضب وشجب لكل قارئ للمشهد السياسي، فكيف يدين الأسد ما يحدث للشعب الفلسطيني وهو بذاته وأفعاله الإجرامية أسفر عن تهجير الملايين وتعذيب الآلاف، ومقتل قرابة نصف مليون مواطن سوري بحجة الدفاع عن بلده ومحاربة الإرهاب.
سيلين قاسم، الناشطة السورية والمسؤولة في "المنظمة السورية للطوارئ" (SETF)، قالت إن خطاب الأسد في "اجتماعات الرياض حول الوضع في غزة ربما يستحق أن ينال جائزة اللحظة الأكثر نِفاقاً في العالم".
وخلال القمة التي عُقدت في الرياض، ألقى الأسد كلمةً انتقد فيها اتفاقيات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل.
وفي حديثه مع سكاي نيوز، صرّح بشار بالقول: "إن رؤية الدولة السورية كانت الدفاع عن المصالح السورية وعن سوريا في وجه الإرهاب، وعن استقلالية القرار السوري، فلو عدنا بالزمن إلى الوراء فسوف نبني ونتبنى السياسة نفسها".
تخيلوا معي هذه هي تصريحات المسؤولين العرب تجاه القضية الفلسطينية، ويفصل بينهم وبين أهلهم في غزة عشرات الكيلومترات، بل ويسمعون أصوات الصواريخ وهي في طريقها لتدكّ بيوت الأطفال، وتقضي على الأخضر واليابس، رغم أن كل دولة لها حدود مع فلسطين تمتلك جيشاً عظيماً مغواراً قادراً على الحرب، بل إنه يمتلك أسلحةً ولديه من العزيمة والقوة ما يقضي به على جيش الاحتلال.
تخيلوا لو اجتمعوا وأصبحوا جيشاً واحداً عربياً ضد اسرائيل.. كيف ستنهار في أقل من ساعتين وينعم بعدها الشعب الفلسطيني ويستفيق لإصلاح ما أفسده الكيان طوال 75 عاماً من الاحتلال.
لكنه خيـال، وبعيد جداً عن الواقع الذي تحكمه المصالح الشخصية، وكيفية الاستفادة أكبر قدر ممكن من شماعة السلام، والحفاظ على الأمن الوطني، والالتزام بالمعاهدات والقوانين الدولية، رغم انتهاكها بكل بجاحة من الطرف الآخر.
ومنذ بداية الحرب فى غزة وتنظم العديد من شعوب الدول الأوروبية والعربية مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، للضغط على سلطاتها لقطع العلاقات مع النظام الإسرائيلي، الذي قتل منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى وقتنا قرابة الـ30 ألف فلسطيني، في حين بلغ عدد المصابين أكثر من 70 ألف جريح، غير آلاف المفقودين تحت الركام.
هذا وأشار سليم عويس، مسؤول بـ"يونيسيف" بشمال أفريقيا، إلى أن شمال قطاع غزة واحد من بين كل 6 أطفال دون سن الثانية يعانون من سوء التغذية الشديد بنسبة 15.6%.
وفي الجنوب، بلغت نسبة من يعانون من سوء التغذية 5% ممن هم دون سن الثانية، وهذا يدل على أهمية سرعة وصول المساعدات لدرء هذه المجاعة الكبيرة، لافتاً إلى أنه لا يوجد هناك مكان آمن في قطاع غزة.
وفي ظل كل هذه الأحداث، ماذا نحن فاعلون كأفراد لمساعدة الشعب الفلسطيني، نحن كأفراد مختلفون كشخصيات وانتماءات وثقافات مختلفة، وبالتالي تعاملنا مع الأمور ومعالجتها يكون بشكل مختلف عن الآخر.
وهذا ما رأيناه في ظل الحرب القائمة.
رأينا هذا الطيار الأمريكي الذي أشعل النيران في نفسه، مردداً "فلسطين حرة، فلسطين حرة، ولن أكون متواطئاً بعد الآن في الإبادة الجماعية"؛ اعتراضاً منه على دعم بلاده لإسرائيل في حربها الشرسة على أهل غزة.
الطيار الأمريكي يدعى "آرون بوشنيل" سكب سائلاً شفافاً على نفسه أمام بوابات السفارة الإسرائيلية في واشنطن، ثم سارع بإضرام النار في نفسه، الأحد الماضي، حتى أعلنت إدارة شرطة العاصمة، الإثنين الماضي، أن الطيار آرون بوشنيل، البالغ من العمر 25 عاماً، توفي متأثراً بالحروق التي تعرض لها.
وفي ألمانيا، انتشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لمواطن ألماني يسير في أحد شوارع ألمانيا وهو يقوم بتمزيق جواز سفره، خجلاً من موقف برلين الداعم لجرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
وفي المقطع المصور قال المواطن الذي لم يتسنَّ معرفة اسمه: "أصدقائي الأعزاء.. صديقاتي العزيزات، جواز السفر هذا الذي أحمله بيدي، يجعلني أشعر بالخجل كوني ألمانيّاً، وقد قررت تضامناً معكم أن أمزقه، كما يمزق الجيش الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية".
يذكر أنه في يوم السابع من أكتوبر، عبّرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك عن موقف برلين الداعم لإسرائيل بقولها: "حماس تصعد العنف، إنني أدين بشدة الهجمات الإرهابية ضد إسرائيل من غزة".
وفي إسبانيا خرج آلاف الإسبان في مظاهرات جديدة لدعم غزة، والدعوة إلى وقف الإبادة الجماعية في فلسطين، والتي شارك فيها العديد، وبمشاركة عدد من المسؤولين، حسبما قالت صحيفة لا راثون الإسبانية.
وفي هولندا اعتمد المصمم المغربي الهولندي، عزيز بكاوي، الكوفيّة الفلسطينيّة موضوعاً لأحدث مجموعاته التي قدّمها خلال أسبوع الموضة الهولندي؛ تعبيراً عن تضامنه مع أهل غزة.
أما إيطاليا، فقد شهدت أيضاً مظاهرات شارك فيها طلاب للتنديد بالمجازر الإسرائيلية في غزة ودعم فلسطين، والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في القطاع، ولكن قامت الشرطة الإيطالية بقمع المظاهرات وأطلقت الغاز المسيل للدموع والكرات المطاطية لتفريق المتظاهرين، حسبما قالت صحيفة المساجيرو الإيطالية.
فإلى متى؟
هل الأنظمة العربية تنتظر مزيداً من الضحايا كي تدخل بشكل مباشر وصريح؟ أم أن المسألة ليست في الوقت ولا في عدد الضحايا، وإنما في القوانين الدولية والمعاهدات التي لا يجب مخالفتها رغم أنف الضحايا وارتفاع عدد الشهداء؟!
هل الغضب وردة الفعل ستظل قاصرة فقط على الشعوب والأفراد، كل حسب درجة تحمله وطريقة تعبيره عن قلة حيلته وعجزه، وتهاون سلطات بلاده عن مساعدة أطفال وشعب غزة الذي يُباد كل يوم؟!.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.