ها وقد تقترب الحرب من أن تضع أوزارها، ولو مؤقتاً، تبرز الحاجة لقراءة واعية متأنية وعميقة، غير سطحية، لأسباب تلك الحرب وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية، والأهم من ذلك تداعياتها وتأثيراتها على الإنسان الفلسطيني، والجغرافيا، والديمغرافيا الفلسطينية التي أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى في الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة، وليس فقط في قطاع غزة، لا بل إنها ربما تكون مهددة في كل من الضفة الغربية وشرقي القدس بشكل أكبر بسبب المنطلقات الدينية للطرف الآخر ورؤيته وروايته لهما من منظور عقائدي، وليس سياسياً فحسب.
ولعل التساؤل الذي يطرحه الجميع في الأراضي الفلسطينية المحتلة: كيف حدث ما حدث دون قدرة الطرف الآخر القوي استخباراتياً وتكنولوجياً على كشفه أو منعه قبل ذلك، خاصة في ظل التكنولوجيا المتطورة التي يملكها الطرف الآخر، والأقمار الصناعية والبرامج المتطورة كذلك.
ولعل ما حدث شَكَّلَ ذريعة وغطاءً لكل ما تبع ذلك من اعتداءات سافرة ضد أهلنا في قطاع غزة الحبيب، وفي الضفة الغربية وشرقي القدس كذلك.
ويشير الدعم السياسي والعسكري الغربي غير المسبوق الذي تلقاه الطرف الآخر إلى التعاطف الغربي الدولي غير المسبوق نتيجة تلك الحادثة التي تزامن حدوثها قبل عام على إجراء الانتخابات الأمريكية، ما قد يمنع الولايات المتحدة الأمريكية من ممارسة أية ضغوط جدية على الجانب الآخر؛ نظراً لتأثير قوى الضغط داخل الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وحاجة الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى الصوت الانتخابي والمال من جهة أخرى. ولعل اختيار ذلك التوقيت يثير التساؤلات والحيرة في آن.
ومن خلال نظرة سريعة على نتيجة تلك الاعتداءات، خاصة في قطاع غزة الحبيب، كما أشارت بعض وسائل الإعلام الغربية وبعض التقارير الصادرة عن المؤسسات الأممية، نلاحظ إلقاء أكثر من 30 قنبلة وقذيفة على قطاع غزة خلال الأربعة أشهر الأولى، ناهيك عن قتل 30 ألف إنسان، جلهم من الأطفال والنساء، وجرح 70 ألف إنسان، وفقد الكثير ممن لا يُعرف عددهم. إضافة إلى تدمير أو تضرر معظم البنايات والمنازل والمساجد والكنائس والمدارس والجامعات في قطاع غزة، ونزوح معظم سكان القطاع من أماكن سكناهم إلى أماكن أخرى اعتقاداً منهم أنها أكثر أمناً وأماناً. وخروج معظم مستشفيات قطاع غزة من الخدمة. في حين بلغ عدد المعتقلين في الضفة الغربية وشرقي القدس حسب المعطيات الواردة 7 آلاف شخص أو يزيد. ولا يفوتنا الإشارة هنا إلى انتشار المجاعة في قطاع غزة نتيجة تلك الحرب المجنونة.
إن كل ما سبق يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المستهدف من وراء تلك الحرب المجنونة هو الشعب الفلسطيني وأطفاله ونساؤه ورجاله ومقدراته ومشروعه الوطني الذي تقوده منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وليس أي جهة أخرى كما يدعي أو يعتقد البعض. وذلك يثبت أيضاً أن تلك الحادثة تم توظيفها من قبل الطرف الآخر لخدمة أهداف بعيدة المدى، منها إحياء مشاريع تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، وربما من الضفة الغربية وشرقي القدس لاحقاً، وتدمير موارده البشرية والطبيعية، ومصادرة أراضيه لبناء مزيد من المستوطنات عليها، والقضاء على مشروعه الوطني الهادف إلى إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
من الواضح أن حسابات الأطراف كافة كانت خاطئة، إذ ربما لم تتوقع الجهة الفلسطينية المسيطرة بقوة الأمر الواقع على قطاع غزة ردة الفعل العنيفة تلك من قبل الطرف الآخر مع ما نتج عنها من ويلات ودمار وخسائر في الأرواح والممتلكات وإعادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المكلوم مئة عام إلى الوراء. وربما لم يتوقع الطرف الآخر أن ينقلب الرأي العام الدولي ضده، وأن يبدأ الحديث عن خطوات عملية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وربما لم تتوقع الدول الغربية الداعمة للطرف الآخر تجاوزه للخطوط الحمراء في تلك الحرب، ما وضع حكومات معظم تلك الدول في مأزق داخلي، أخلاقي، وسياسي، وقانوني، أمام شعوبها.
أما القيادة الفلسطينية فمن الواضح أنها وجدت نفسها "أسير ما هو عليّ صار"، إذ كان واضحاً منذ بداية الانقسام البغيض وإخراجها بالقوة من قطاع غزة الحبيب أنها كانت، ولا تزال، تحاول منع تنفيذ مشاريع ومرامي الطرف الآخر بعيدة المدى، كما أسلفنا، من جهة، وتحاول ترقيع الآثار السلبية، خاصة السياسية والاقتصادية الناشئة عن تلك الحروب التي يغيب عنها الإنجاز السياسي الملموس، من جهة أخرى. ويتعين على القيادة الفلسطينية إجراء قراءة دقيقة لخطة اليوم التالي للحرب، والتي قد تشي بإحداث تغييرات جوهرية في بنية النظام السياسي الفلسطيني، التي ربما يكون أحد ملامحها امتداد تجربة الحكم في قطاع غزة إلى الضفة الغربية بأشكال مختلفة، خاصة في ظل تعاطف معظم الناس في الضفة الغربية مع قطاع غزة بسبب ما يعانيه من ويلات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.