في خضمّ حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة، والمستمرة منذ أكثر من 4 أشهر، يميل أشخاص كُثر إلى أن يكونوا في حالة يقدمون أنفسهم من خلالها بما يجعلهم من وجهة نظرهم الشخصية جذابين بما يكفي، حين يقررون التوقف عن حديث السياسة كلياً، أي أن يكونوا غير مكترثين "apathy" حيالها، من باب الشعور بالشبع السياسي بذريعة الاكتفاء من الفهم الزائد لمجريات الأحداث التي وصل بها حال الكوكب والإصابة بالنفور، ويمتنعون عن المشاركة السياسية في النقاشات أو النشر أو تبادل الآراء أو حتى المشاهدة والمتابعة، في وقت يميل بعض آخر منهم إلى إشعار من هو مهتم بالسياسة خلال الحرب على غزة، بأنه شخص يرتكب فاحشةً أو جريمةً عليه التبرؤ منها؛ حتى لا يبقى مصدر نفور للناس.
تقف أسباب ومبررات كثيرة بينها الواقعي والمنطقي وغير المنطقي وراء هذه الحالة الشخصية، التي يلامس الخوض فيها كثيراً من المجالات والتخصصات العلمية، التي قد تتقارب أو تتباعد في تفسيراتها وتعريفها لهذا الحياد وأسبابه العميقة، بدءاً بعلم النفس والاجتماع وعلم السلوكيات البشرية (الأنثروبولوجيا) anthropology وعلم التربية والأخلاق ethics وغيرها الكثير.
يُطلق مصطلح لاسياسي apolitical على هذه الفئة من البشر، وتعريفهم متضمن ببساطة في التقديم السابق، لكن لن أزعم أنه تعريف يمكن تعميمه كلياً على كل أتباع هذه المدرسة البشرية بنمطها الجديد، إلا أن الخلاصة المكثفة هي القول إن الحياد السياسي وعدم تبني أي مواقف أو إعلان انتماءات بكل أشكاله، مع فتور أو نفور أو حياد بالنفس عن السياسة كلياً، إما بسبب عدم وجود أساس سياسي كافٍ لمحاولة فهم الواقع البشري، أو لعدم الرغبة بذلك، هو ما يطلق عليه apoliticism.
يرى البعض من هؤلاء أنَّ الإعراض الكلي عن السياسة في هذه الحالة هو الضمانة التي تحمي النفس من التلف والأذى، ولكن يعد الابتعاد عن السياسة في الواقع الحالي الذي يصيب غزة من إبادة جماعية صهيونية واستهداف لروح البشرية هو الضرر الحقيقي للنفس، وليس حماية لها من أي شيء، إذ يمثل حماية مؤقتة للنفس من التعرض للأخبار وقساوة المشاهد، منعاً للوقوع في صدمات نفسية أو اكتئاب، لكن على المدى البعيد يعد هروباً من المشكلة وليس حلاً لها، كما أن هناك خلطاً بين فكرة تجنُّب الصور والمشاهد الصعبة، والاستمرار بمتابعة الحدث يخلط بينهما الناس عن قصد أو دون قصد، فالمتابعة لا تعني التعرض لبشاعة المشهد بالضرورة كل يوم ودقيقة، وعند الإعراض بتلك الطريقة والخلط بين الامتناع عن معرفة الحدث والمعلومات والامتناع عن المشاهدة اللاإنسانية يصبح الضرر مع الوقت ضرراً مباشراً لهوية الإنسان، وإتلافاً متدرجاً لمبرِّرات وجوده ومحتواه الإنساني والأخلاقي، وربما القومي في العالم، وليس وسيلة لحماية النفس من الصدمات والاكتئاب باعتبار أن الأمرين منفصلان كلياً.
من الضروري الإشارة هنا إلى أن السياسة داخلة في كل تفاصيل حياة الأفراد الشخصية، وليست مفصولة أو بعيدة عنها على الإطلاق، وهي التي تطارد المرء حال ابتعاده، وليس المرء هو الذي يلاحق السياسة ويمتطي جوادها كما يعتقد كثر، فهي ثقافة المرء ومعتقده ولونه وعرقه وشكله ولغته وسلوكياته، وهناك فوارق كبيرة بين المهتم بالسياسة political، والمسيس politicized، والسياسي politicia، الذي يعمل بالسياسة، والمنتمي سياسياً loyal، أو المستقطب سياسياً polarized، لا يدركها كثيرون، لا يتسع المقال لسردها لكن يمكن التمييز بينها ومعرفتها من خلال الخوض في المعنى اللغوي للكلمات على الأقل، وعند عدم التمييز بينها يظن البعض أن عدم الوقوع في ذلك الانخراط غير المرغوب بامتهان السياسة والولاءات يكون بهجرانها كتلة واحدة بكل ما فيها، ويصل الحال ببعض الأشخاص إلى مرحلة هجران كل حالة المعرفة، والإلمام السياسي بما يحيط بهم على الأقل كأفراد بشريين ينتمون إلى الإنسانية، ومن باب الحضور أخلاقياً كفصيلة من المخلوقات هي بنو البشر، ممن يهمهم أن تستمر هذه البشرية، وألَّا يصاب أيٌّ من إخوتهم البشريين الحياديين مثلهم سياسياً على الأقل بالقتل الجماعي، بصرف النظر عن السبب السياسي، أي يحيد الهاربون من السياسة عن الاهتمام بالحدث السياسي، ليس كهروب وحياد من انتماء سياسي لجماعة سياسية أو حزب أو فكرة أو أمة أو جماعة، أو هروب من مسالة الإجبار على الاصطفاف السياسي، لكنه حياد عن السياسة بحدها الأدنى، التي يجب أن تتم معرفة تطوراتها من باب الحفاظ على النوع البشري من الأضرار الفادحة والانقراض، وكمهارة وأداة أساسية لمواصلة العيش مثلها مثل الأساسيات المعروفة للإنسان.
اللاسياسة تلك تمثل أكبر ظلم يوقع فيه الإنسان نفسه ويرتكبه بحقها، ففي كل زاوية تقع عليها عين أي شخص، وفي خضم أي فعل يقوم به البشر هناك بُعد سياسي، يُلامس مغزى الإنسان ومبرر لاستمراره، ويعني الحياد عن ذلك حياداً عن حقيقة أن هذا الفعل السياسي ونتائجه يشكلان واحدة من خصائص الإنسان الأساسية.
هذا لا يعني الهوس بالسياسة والانشغال بها عن الحياة الشخصية إلى درجة الوسواس القهري الذي يعرقل الدافع لفعل الأشياء، بل لا بد أن يكون فهم ذلك الواقع السياسي هدفه أن يكون حافزاً ومبرراً فردياً وجماعياً للإنسان؛ كي يكون موجوداً ويعمل ويتفاعل، وأن يملك جوهراً وعمقاً ومحتوى أبعد من القشور والسطحيات الرتيبة المملة والمكررة والمتشابهة بين كل الناس، التي لا تمييز فيها أو تفاوت سوى بالكميات، فالخوض في السطحيات ممل بنفس درجة الملل من الخوض غير المتزن والمكثف وغير المدروس في كل خفايا السياسة، ويجعل كل البشر مكرَّرين ومتوقَّعين دائماً. ليس المطلوب إذا إفراطاً ولا تفريطاً، لا لتكون السياسة هوساً وسماً قاتلاً، ولا ليعتزل البشر ويعلنوا الاستقالة والحياد عنها، فمن الضروري عدم إغفال أنها محرك باطني لكل شيء يصيب الإنسان ويقع فيه أو يفرض عليه، وهي بالمقابل قاتل صامت إن لم تتم إدارة التعرض لها والانغماس بها.
إن استسلمت لأن تكون "لاسياسياً" أياً كان مبررك أو السبب، وأن تتبنى الحياد المختلط برتابة الحياة وسطحيتها، أو الغرق في هموم العيش الروتيني ومشاغله، التي تقود في نهاية المطاف إلى القوقعة الخاصة بكل شخص، فبعد مدة من الزمن سوف تضطر ألَّا تعيش على هذا النمط الفردي من الممارسة، ولن تستطيع أن تعيش بالطريقة تلك، وحتى تلك الحياة السطحية الحيادية المتبنّاة منك لن تعود ممكنة، فقد يحظر ذلك عنك رغماً عنك، بل قد يُفرض عليك أن تُكمل حياتك بالطريقة التي يرغب الآخرون بظهورك عليها، ولا سيما خصومك وأعداءك، لأنهم لا يرون من جانبك مقاومة فطرية طبيعية ضد تحييدك سياسياً، ما يمكّنهم من إدخالك إلى مستوى جديد من تبلّد ما بعد الصدمة، وكذلك على المبدأ".
أن تكون "لاسياسياً" ليس شيئاً على عكس المعنى المهني للسياسيين الذين يمتهنون السياسة والحزبية، بل بعكس المعنى المتعلق بالمشاركة وإبداء الموقف والرأي، وهي مساهمة عملية في أي إبادة جماعية وتغطية على أي جريمة تقع ضد الإنسان الحديث، وهي الانسحاب عن إصدار الصوت الذي يفترض أن يقدمه الإنسان دفاعاً عن حياة أخيه الإنسان الواقع تحت الظلم، واستخدام أداة السكوت القاتل لمزيد من الأرواح، بدلاً من الكلام المزعج للجناة.
يمكن القول إن هذا الشطر المتعلق بالانسحاب والتحول إلى (apolitical) لا يريد كثيرون التعلم منه أو قوله لغيرهم، ما يجعل النهاية الجماعية والفردية وخيمةً على من يغيبون عن واقعهم بحجة البحث عن أنفسهم، وسيخسر كثيرون أنفسهم وفردانيتهم individuality وهويتهم identity الجمعية والفردية والوعاء الثقافي والحضاري civilization and culture الذي ينتمون إليه، وهو نفسه الدافع الذي رسم لهم حياتهم التي يمارسونها بحياد، لكنهم لا يدركون ذلك أو يتأخرون، إذ كانوا يعتقدون أنهم يمكنهم أن يستمروا على ذلك النحو، منفصلين عن السياسة التي لن تطرق بابهم يوماً، حتى في تفاصيل عملهم وأكلهم وملبسهم ومسلسلاتهم ومكياجهم وأثاث بيوتهم وطعامهم وغيرها الكثير، وهذا مستحيل بطبيعة الحال ومخالف للواقع البشري وسنة الحياة.
قد يُكمل كثيرون حياتَهم كالعبيد حرفياً، وبما تعنيه الكلمة من معنى إن تجنبوا فهم الواقع السياسي، وكان سعيهم محصوراً بالعمل بهدف جني المال والغرق في دوامات المادية materialism والرأسمالية capitalism التي تستعبدهم، والمظاهر والجماليات، ظناً أنها التحضر والجاذبية والاكتراث الحقيقي بالواقع، وهذا بالتأكيد ليس الهدف والغاية والرسالة الأسمى من وجود البشر إن حصل، فهم (أي البشر) لم يُخلقوا ليكونوا عبيداً مستعبَدين، ومن دون عبرة تغذي عقولهم وأرواحهم، وتُميزهم كلياً عن كائنات أخرى، وتمنع من تحولهم لقطيع تابع؛ نظراً لتمتعهم بالعقل وتميزهم به.
وبالتوازي مع حالة اللاسياسة تلك، يطفو إلى السطح أمر غير مفهوم وهو رديف للاسياسة، وقد يكون أحد نتاجاتها أو مغذياتها، وهو أنه إلى هذه اللحظة هناك أشخاص عرب ومسلمون على سبيل المثال لا الحصر يتفاجأون بوقائع تفاصيل القضية الفلسطينية، ولا يعرفون متى وقعت النكبة، وما الفارق بين أراضي 1948 و1967، ويعتقدون أن قطاع غزة تحرّر مؤخراً، أو أنه كان تحت الاحتلال البري، ويتحرر مؤخراً، ولا يعرفون الفارق بين الفلسطيني اللاجئ وغير اللاجئ، وفلسطينيي الـ48، فاجأني تعليق لأحد الأشخاص على أحد المنشورات الفلسطينية التي تتحدث عن خريطة تحرك قوات الاحتلال، يسال فيه عبر منصة إنستغرام كم من الأرض استرجع الفلسطينيون، وكم تبقى للتحرير، وكأنه يشاهد مسلسلاً على نتفليكس ويتطلع لمعرفة النهاية.
وبالقياس مع حالة سابقة، وقعت خلالها كارثة ضخمة مازالت مستمرة حتى اليوم، ضد شعب أعزل في سوريا، فالبعض لا ولم يعرف ماذا جرى في سوريا خلال الـ15 عاماً الأخيرة، أي بعد أن قرر الشعب السوري القيام بثورة لإسقاط النظام القمعي، ولا يعرف هؤلاء شيئاً عن مجزرة الكيماوي أو ماذا حدث في داريا، أو أين تقع بانياس مثلاً، وكيف ذبحت فيها ميليشيات النظام مئات السكان وهجّرت البقية، كما لا يعرفون شيئاً عن البراميل المتفجرة وشهداء التعذيب وصور قيصر، وتجويع اللاجئين الفلسطينيين والمدنيين السوريين على حدٍّ سواء، من قبل النظام السوري في مخيم اليرموك ومعضمية الشام، حد القتل جوعاً، هذه أشياء في الحقيقة حين تكون بهذا الشكل من الجهل وعدم إدراكها من أشخاص يعيشون في المحيط العربي لا تعبر عن عدم انخراط في السياسة أو عدم اكتراث بها، لحماية الذات من التعرض لقساوة المشاهد والمعطيات، بل تعبر عن عدم اكتراث بالواقع الذي يعيشه الشخص نفسه، وتعبر عن حالة انفصال عن المحيط وليس عن السياسة، وتمثل تقاعساً تاماً، بل وتواطؤاً في بعض الأحيان مع القتلة، وقد يستغرب البعض أن إبادات ضخمة وقعت بجواره أمضى عقداً كاملاً لا يعرف عنها شيئاً، لأنه لم يبذل جهداً لِيعرِف. من غير الواقعي ألا تعرف ماذا يجري لك وحولك. هذا الأمر لم يعد مقبولاً إن كان الشخص يسكن في الصين أو كندا، فكيف إن كان عربياً والمصاب قريباً، وبالتالي يُعد التوقف عن حديث السياسة والاطلاع عليها خلال موجات اشتداد الكوارث والحروب ضد فئات بشرية بعينها أمراً غاية في الأذى للشخص، ودليلاً على عدم اكتراثه لا بنفسه ولا بحال غيره من فصيلة البشر.
كما أن عدم الإلمام ببعض التفاصيل خلال مراحل الهدوء سيصعب من تجنب كثير من المعاناة والكوارث والدماء، ويعرقل التعامل الصحيح مع الأزمات عند وقوعها، ما يفاقم المعاناة ويزيد أعداد الضحايا، ما يجعل الشخص شريكاً غير مباشر في القتل، لا يقل ضرره عن القاتل نفسه أحياناً.
ليس المطلوب هنا أن يظل المرء منشغلاً حدَّ النخاع بالسياسة، وهاجراً لما سواها، فالاعتدال شرط للاستمرارية على كل المستويات، وقليل دائم خير من كثير منقطع، ولكن لا يفترض، ولا سيما في هذا العصر، أن يكون البشر بلا قضية أو معرفة أو محتوى سياسي هادف، يأخذ العوامل الشخصية الخاصة والجماعية العامة بعين الاعتبار ويوازنها، وبالتالي يحمي الإنسان نفسه من الوقوع في أي تلاعب به، عندما تقع المشكلة ويعرف وجهته مسبقاً.
يمكن القول إنه لا معنى لوجود الشخص إن لم يكن يعرف مسار الأمور المحيطة به بعمومها على المستوى العام "macro level" والمستوى الخاص "micro level"، والعمل على التوفيق بينهما، فكلاهما مطلوب بالتوازن دون إفراط أو تفريط، وفي بعض الأحيان من الضروري المزج بينهما، وقد يحدث ذلك مصادفةً، وهو ما يجب أن يحدث لبناء شخصية الأفراد وهويتهم الجماعية المميزة عما سواها.
إن الإلمام بواقع الحال السياسي والاهتمام به، والعمل على تحسينه قدر المستطاع، وليس المقصود هنا الانشغال الكامل بمشاكل وكوارث العالم، بل بوسطية واعتدال، لا يمثل عبئاً أو مصدراً لتنفير الآخرين، بل هو دليل على الاكتراث بحياتهم والاهتمام بهم، وإنما الحياد واللاسياسة واتهام من يهتم بالوضع السياسي بأنه ممل وكئيب، خاصةً عندما يتكلم ويعلي صوته خلال المذبحة المستمرة في غزة، أو ربما غير غزة، هو الشكل الحديث من أشكال الأنانية البشرية، التي تجعل الصوت الذي يجب أن يعبر عن عطفه وتعاطفه للحفاظ على أرواح البشر ونبذ معاناتهم والمظالم الواقعة عليهم خافتاً ضعيفاً، وتسهل عملية قمع هذا الصوت وقتل مزيد من الأبرياء من قبل من يرعون ويحمون تحييد البشر سياسياً، ومن بينهم السياسيون والسلطات العميقة الداعمة للصهيونية والاستعمار الأبيض، ومن يغذون جرائم الإبادة المستمرة، بل وتخدم هذه اللاسياسة إبادة البشر بكل أشكالهم، الحيادي منهم قبل المنغمس في السياسة في نهاية المطاف، وتغذي التناقضات التي تؤدي لتضارب في المواقف الأخلاقية من حياة البشر الأبرياء وحقوقهم الأساسية بالحرية والعدالة وحق تقرير المصير، كما هو الحال للشعب الفلسطيني، وإن لم تكن إبادة غير المهتمين بالسياسة والمحايدين إبادة فيزيائية، فقد تتم من خلال خلق هذا الشرخ الأخلاقي والهوة الاجتماعية المؤلمة والمخيبة للأمل بينهم من جهة، وبين المكترثين بالواقع وذوي الضحايا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.