المسؤولية العُمانية لنصرة القضية الفلسطينية.. ما أهميتها عربياً؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/02/17 الساعة 16:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/02/17 الساعة 16:12 بتوقيت غرينتش

ظهر في الساحة السياسية بعض الجهود العُمانية التي تُعلي من شأن أهمية محاسبة قادة إسرائيل على الجرائم اليومية التي يقترفونها بحق الشعب الفلسطيني في غزة باعتبارها جرائم حرب، وهي دلالات عميقة على تغير نبرة السياسة العُمانية التي تتخذ الحوار سبيلاً للتفاهمات، لكن بعض الأحداث لا تترك مجالاً لذلك، فمنذ خمسين سنة مرت في حكم السلطان قابوس- طيب الله ثراه- لم نسمع هذه اللهجة الشديدة تجاه قضايا الأمة كقضية فلسطين المحتلة، ومع ذلك فسياسة سلطنة عُمان تتولى الطليعة في كل مواقفها الداعمة تجاه قضية العرب والمسلمين جميعاً، مؤسسياً وشعبياً.

وفي أول موقف سياسي فلسطيني كبير يواجه السلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان الحالي، لوحظ تغيُّر- ولو كان طفيفاً- في التعبير السياسي العُماني تجاه قضية فلسطين، حيث زادت النبرة التعبيرية عنها في عام 2014 عما قبله في 2012 و2008 والتي كانت تقتصر على إدانة شديدة للمجازر التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة مع المطالبة بتحقيق دولي عاجل في 2014، هذا نموذج للتصريحات السياسية التي كانت تخرج من بيت السياسة العُمانية نتيجة العدوان الإسرائيلي. 

النبرة التصاعدية للموقف العماني لم تكن وليدة اللحظة، بل تأتي بعد مفاوضات ومباحثات ثنائية واجتماعات أممية وتنسيقات خارجية ومعطيات واقعية واستخلاصات، هي بمثابة تدرُّج أفضى إلى هذا الصوت المرتفع قياساً بمواقف سابقة، ولو أن الشارع متعطش إلى مواقف عملية أكثر صرامة، غير أن دولة أو اثنتين ليس بإمكانها فعل الكثير، خصوصاً أن كل الدول العربية ليست على مواقف مماثلة.

تصريحات الدول العربية وحتى الإسلامية غير العربية مأخوذة بالسخرية من بعض المراقبين، ويكاد المواطن في هذه الدول يعلم ما سوف تتضمنه عناصر البيان الختامي، لما جرت العادة عليه في اجتماعات الرؤساء ومؤتمراتهم الخاصة بالقضية، حيث لا يوجد موقف حاسم وفعل ملموس، إلا أن التصريحات المنفردة لبعض الدول ومنها سلطنة عُمان، تُشعر المواطن المتلهف إلى نيل إخوانه في فلسطين حريتهم وتقرير مصيرهم بحل الدولتين، بأنها في نصابها وفيها حكمة وعدم تسرع وتدرج مدروس.

أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للعمانيين

تعتمد السياسة العُمانية مبدأ الشفافية والحوار مع كل الدول سواء الشقيقة أو الصديقة، ولها في حقن الدماء وتجنيب المنطقة أكثر من حرب مواقف معروفة أيضاً، حيث تبقى على المسافة نفسها بين المتخاصمين، وهي سياسة ناجحة بكل المقاييس، من وجهة نظر العديد من المحللين السياسيين الذين أطلقوا عليها "سويسرا العرب"، ومحاولة تقريب وجهات النظر بكل اقتدار وحكمة، سمة ملازمة لهذه السياسة، حيث كانت لجلالة السلطان الراحل عدة محاولات ثمينة مع الاحتلال الإسرائيلي لحل القضية الفلسطينية، لكنها تبوء بالفشل بسبب تعنت الجانب الإسرائيلي، ويتضح ذلك في أثناء تصرفاته على الأرض مع المواطنين الفلسطينيين ومع بعض السياسات التي يرتكب فيها الكيان الفظائع والمجازر المروعة. 

أراد الكيان المحتل رسم علاقات طبيعية مع الدول المحيطة به دون الاعتراف بحق الدولتين، وقد حاولت سلطنة عُمان إبداء حسن النية بفتح المكتب التجاري الإسرائيلي في التسعينيات بمحافظة مسقط، لكنه أُغلق في أعقاب عدم التزام إسرائيل بعناصر الاتفاق التي بُني عليها فتح هذا المكتب، ورداً على الهجوم الإسرائيلي في مناطق السلطة الفلسطينية عام 2000.

لا تتبع سلطنة عُمان سياسة الصدام، وغير مندفعة لتحقيق مصالح عربية أو إقليمية في محيط سعيها إلى لم الشمل والتفرغ للتنمية والتطوير، وهي متصالحة مع شعبها، وتتناغم سياساتها الخارجية والداخلية مع متطلبات وضعها وتاريخها العريق، حيث تخلق توازناً جميلاً رغم تنوع المذاهب الإسلامية ووجود الطوائف المختلفة.

يغلب على الشعب العُماني التمسك بشعائره الدينية والجدية في ممارسة حياته بين الدين ومقتضيات العيش الكريم، أما القضية الفلسطينية؛ فهي في وجدان العُماني الذي نشأ في المدارس على مناهج تمجد القضية، حفظ الأناشيد والنصوص الرامية إلى حق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته، ودحر الاحتلال الإسرائيلي منها، والتعايش السلمي المطلوب بين جميع الطوائف والملل.

حاولت سلطنة عُمان الاستماع من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني لإيجاد أرضية توافق بينهما من خلال اللقاءات الثنائية مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات ولاحقاً مع محمود عباس، ثم مع الجانب الإسرائيلي، إلا أن المباحثات لم تُجدِ أو أخذت بُعداً آخر يطلب فيه الاحتلال الإسرائيلي من الدول تقديم تنازلات وإبداء حسن النية، حيث افتتح المكتب التجاري السابق ذكره، لكن لم يتقيد الجانب الإسرائيلي باستمراره ثم يترك مسألة فلسطين مفتوحة على مصراعيها ومعلقة كما الحدود تمهيداً لضم أراضٍ أخرى.

حتى إن الكيان لا يتعامل مع شعبه ورفاهيته ومع تطوره بقدر تعامله مع أجندة إسرائيل التي وضعت جدلية البقاء مرتبطة بالتوسع من خلال الاستعلاء واستعراض القوة بالقتل وتدمير منجزات التنمية وسبل العيش، كما غلّظ قلوب شعبه التي ملأها بالكره والحقد، فيما يُطلَب من دولنا التخفيف من مسائل الجهاد والتضحية بالنفس في مناهجنا التربوية. 

ولأن محاولات السلطنة قد استنفدت؛ ففي كل مرة يكون رد فعل الكيان تجاه أي صراع مع الجانب الفلسطيني مبالغاً فيه إلى حد الاشمئزاز، واستعراض القوة الفجة على الآمنين المدنيين، ولا يُترك للشعب الفلسطيني خط رجعة أو خيار للسلم والتداني وفيض التقدير والتعايش، ومع ذلك أبقت على إمكان المحادثات في الصراع الحالي والتشاور مع مختلف بلدان العالم الحر، والضغط من قبل الدول الكبرى لوقف القتل إلى المطالبة بمحكمة دولية لجرائم إسرائيل في غزة. 

مظاهر الوقوف مع القضية الفلسطينية أثناء الصراعات

لنكتفِ بهذا الصراع، الصراع الحالي الذي بدأ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هو الأكبر والأوسع على نطاق الصراعات بين الطرفين الفلسطيني والمحتل الإسرائيلي، وقد سجلت السلطنة رسمياً وعلى المستوى الشعبي مواقف كبيرة وصادقة في محاولة نصرة القضية، ولذلك مظاهر كثيرة، منها مساعدة الشعب الفلسطيني في غزة بالمال والغذاء والكساء، وتضامناً مع مشاعر الأسرة الفلسطينية والعربية بإلغاء أشكال الاحتفالات السنوية الرسمية المقررة بالعيد الوطني، إضافة إلى بيان مجلس الشورى الذي يدين كافة أشكال القمع والعدوان الصهيوني على غزة. 

وعلى المستوى الديني كان موقف سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام للسلطنة، مفخرة لكل مؤمن بالله، لقد تحدث في غير مرة عن نصرة إخواننا بغزة ومساندة قضيتهم العادلة، وذَكَر أنها قضية عقدية دينية وليست عربية أو قومية كما يُذكر دائماً، وشدد الدعوات بالنصر لرجال المقاومة على عدوهم، كما تم تعزيز وعي الشعب العُماني في خطب الجمعة بالقضية الفلسطينية، ونوقشت القضية على أكثر من صعيد وأكثر من منبر إعلامي محلي. 

وعلى المستوى الشعبي؛ فقد سجل التظاهر السلمي لشعب السلطنة طلاباً وموظفين وأفراد مجتمع، موقفاً ناصر فيه القضية الفلسطينية، ورفع شعارات حماية المدنيين وإيقاف القتل الإسرائيلي للمدنيين، كما فعّل المقاطعة للمنتجات التي تدعم دولة الاحتلال من قريب أو بعيد، وهو مستمر في البحث عن البدائل ويستعيض بالمقاطعة إلى الاستغناء.

وعلى مستوى الأدبيات؛ فقد ساهم المثقف العُماني بقلمه في نقل الصورة كاملة للعالم مؤيداً فيه المقاومة، ودعماً يسيراً منه للقضية الفلسطينية بعشرات المقالات التي لم تهدأ من خلالها الصحف المحلية الورقية والإلكترونية، ومن خلال التداول الحر لأخبارها، إضافة إلى الندوات المتضامنة، ثم معارض الرسم التي تأتي في سياق نصرة أبناء فلسطين، وقد صدر كتاب "خديجة، لا تغلقي الباب" في النصف من أكتوبر/تشرين الأول 2023، للكاتب العُماني محمود الرحبي، يتضمن مجموعة من الأدبيات حول فلسطين، وهو صاحب كتاب "فاكهة الفلّاحي" عام 2022، يتضمن أيضاً فصلاً عن فلسطين، كما صدحت العديد من حناجر العمانيين بالقضية الفلسطينية بوافر من قصائد الشعر التي تستنهض الأمة وتحرك الدماء نحو القدس الشريف. 

مواقف مسؤولة

موقف سلطنة عُمان يأتي استمراراً لمواقفها السابقة الداعمة للقضية الفلسطينية، وهي مواقف مسؤولة، ودعماً لموقفها من إرهاب الدول، حيث أظهرت منظمات عالمية ودراسات علمية رصينة، كمؤشر السلام العالمي، أن السلطنة أصبحت خالية من الإرهاب في عام 2019، وهذا ما يجعلها من بين الدول التي حاولت النأي بنفسها عن الصراعات بالحوار، ولتكون مكاناً أمثل لحل بعض القضايا الحساسة بالطرق السلمية.

وموقف السلطنة هذا ليس موقفاً غريباً؛ فهي خاضت حرباً ليست ببعيدة عنا، وعرفت مخاطرها على الاقتصاد والتنمية وعلى أمن المواطنين، دامت عشر سنوات "خلال الأعوام من 1965 إلى العام 1975″، وثمنت معنى السلم وحاولت نشره والتمثل به بين الدول، وجعلت ضمن استراتيجيتها التعامل بين الدول بالحوار، الحوار وحده قادر على حل المشكلات وأخذ الحقوق.

خبرتها العميقة في مسائل التوتر وعدم الاستقرار جعلتها تدرك أهمية استخدام الحكمة في حل القضايا، وأن الحروب مهلكة وخسارة مهما كان مكانها وسببها، لكن بعضها تُفرض علينا كما فرضت إسرائيل حروباً كثيرة مرت على الفلسطينيين من خلال تدخلاتها، ومن خلال تصرفات جنودها والمستوطنين مع السكان الأصليين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سليمان المجيني
كاتب عُماني
كاتب عُماني
تحميل المزيد