في الأسابيع الماضية، وفي حين كانت الدعاية الإعلامية على أشدها تجاه المبالغة في تعليق الآمال على القضاء الدولي، بما يتعلق بالحرب على غزة، قليلون جداً هم من حذّروا- خصوصاً في العالم العربي- من الإفراط في تعليق آمال كهذه لمعاقبة مرتكبي الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني الإسرائيليين، أو لوقف الحرب ضد الشعب الفلسطيني. وقد جاء هذا التحذير مثلاً في ثلاث مقالات، شرَّفني موقع عربي بوست بنشرها، مفسحاً بذلك مجالاً للتعبير عن رأي مختلف عن الرأي السائد بقوة في العالم العربي.
أمام العجرفة الإسرائيلية، الناجمة خصوصاً عن إفلات هذه الدولة المزمن من العقاب بتواطؤ من الغرب، وتصرفها وكأنها فوق القانون الدولي، فإنّ الحماس لتعليق مثل هذه الآمال الكبيرة على القضاء الدولي في العالم العربي أمر مفهوم، ولكنه غالباً ما ينتج بشكل أساسي عن سوء إدراك لعمق طبيعة القانون الدولي، وهي طبيعة طوعية، أي إلزاميته خاضعة بشكل أساسي لإرادة الدول، ولاختلافه بذلك اختلافاً كبيراً عن القانون الداخلي، دون أن يعني ذلك وجوب الوقوع في نظريات المؤامرة فيما يتعلق بعمل القضاء الدولي، بل تجنباً لذلك من الواجب الإدراك بواقعية الطبيعة العميقة للقانون الدولي.
من المؤكد أنه لا يمكن التقليل من أهمية التدابير المؤقتة التي أشارت إليها محكمة العدل الدولية، في قرارها الصادر في 26 يناير/كانون الثاني 2024، لا سيما لناحية مضمون ما طلبته المحكمة من إسرائيل، كـ"اتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب أي عمل من أعمال الإبادة الجماعية، ومنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، كما طلبت منها إفساح المجال لتقديم المساعدات الإنسانية على وجه السرعة، فضلاً عن ضرورة التأكد من الحفاظ على الأدلة، وتقديم تقرير عن تنفيذ جميع هذه التدابير في غضون شهر واحد".
ولكن بالمقابل لا يمكن تضخيم أهمية هذا القرار، لأن الفائدة من التدابير التي تضمنها، على أهميتها، تظل محدودة، هذا أصلاً إن التزمت دولة الاحتلال بتنفيذها فعلياً، ولا سيما أنّ القرار جاء خالياً من الإجراء الأهم الذي كان ينتظره الفلسطينيون وجميع المتعاطفين معهم، أي الوقف الفوري للأعمال العسكرية. ولذلك يبدو القرار هزيلاً بالمقارنة مع الآمال الكبيرة التي تم دفع الجمهور في العالم العربي لتعليقها عليه، وهو أمر نتجت عنه خيبة أمل معتبرة، يُسأل عنها بشكل كبير مَن ضخَّم مسبقاً حجم الآمال المعلقة على هذا المسار القضائي، بعيداً عن أي واقعية، أو حرفية، أو دقة قانونية.
وفي السياق، بدل الجرأة على النقد الذاتي واستخلاص العبر، يحاول بعض المعلقين على قرار محكمة العدل الدولية، الذين كانوا دفعوا الجمهور لتعليق الآمال المبالغ فيها على هذا المسار القضائي، مواساةَ أنفسهم، مضخمين أهمية القرار من خلال الإشارة إلى بُعده "السردي" الذي يخدم الفلسطينيين، لا سيما لناحية ما يتضمنه من إشارة إلى الخطورة الكبيرة للوضع في غزة، وفداحة الأعمال التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في القطاع.
ولكن محاولاتهم هذه لا تبدو مقنعة، فلا يمكننا أن نقيّم بشكل موضوعي البعد "السردي" لقرار محكمة العدل الدولية إذا تجاهلنا حقيقة أنه جاء خالياً من التدبير الأهم، الذي كان منتظراً بشكل أساسي، أي الوقف الفوري للقتال، ولا سيما أنّ ذلك يتعارض، على سبيل المثال، مع ما ورد سابقاً في قرار التدابير المؤقتة الذي كانت أصدرته محكمة العدل الدولية نفسها في قضية "الإبادة" في أوكرانيا (2022)، الذي ضمنته المحكمة طلباً بالتعليق الفوري للعمليات العسكرية. فللأسف، بنظر المحكمة لا يبدو الوضع في غزة خطيراً بما يكفي، بمفهوم معاهدة منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، ليتطلب منها تضمين قرارها طلباً بالتعليق الفوري للعمليات العسكرية، أي كما فعلت فيما يتعلق بأوكرانيا.
من ناحية أخرى، وأمام المعايير الموضوعية المقيدة والمشددة والصعبة التحقق، التي اعتمدها الاجتهاد الدولي لإثبات النية الخاصة في الإبادة، الخطر الأكبر هو أن نستيقظ، بعد بضع سنوات، على خيبة أمل أكبر حجماً، فإذا لم تقبل المحكمة في نهاية المطاف توصيف ما يجري في غزة على أنه إبادة جماعية، لا يمكن استبعاد أن مثل هذا الفشل القانوني يمكن أن يرتد سلبياً، من الناحية السياسية، على الفلسطينيين، وذلك بأن يؤدي إلى تقوية موقف إسرائيل سياسياً (بما فيه سرديتها).
أما التلطي، من أجل اعتبار قرار المحكمة المتعلق بالتدابير المؤقتة إنجازاً تاريخياً، خلف بيان حماس الذي رحب بهذا القرار، فهو كما يقول البيارتة "حجة لا تقلي عجة"، فإذا كان العمل المقاوم الفلسطيني أساسياً في نصرة القضية الفلسطينية، فهذا لا يعني أنّ لحماس أو لأي فصيل فلسطيني آخر الحق الحصري في إبداء الرأي بما يتعلق بتقييم المسارات الموازية (وهي أصلاً لا تدعي امتلاك هذا الحق الحصري)، أو أنّ رأيها- ولا سيما في هذا الخصوص- يعلو ولا يعلى عليه، خصوصاً أنّ القضية الفلسطينية قضية رأي عام عالمي، يتخطى حجمه بأشواط حجم رأي حماس أو أي فصيل آخر، أو الأسباب السياسية الخاصة التي يمكن أن تكون قد دفعتهم لهذا الرأي المحدد.
أما التحجج بأنّ من ينظم الاحتجاجات ويتظاهر في الغرب راضياً عن القرار، فحجة واهية من نفس طينة سابقتها، إذا أردنا الاعتماد على رأي بعض مجموعات اليسار الغربي الحالم في تقييم نجاح مسار قضائي والفائدة منه، لا سيما مجموعات من طلاب الجامعات، وغيرها من المجموعات اليسارية التي تسبح غالباً في فلك عوالم المثل، بعيداً عن أي فاعلية حقيقية، فلن يكون رأي هؤلاء ذا فائدة كبيرة في تنويرنا. فرغم صدق نواياهم ومجهودهم الذي يوجب الاحترام، والذي لا يمكن التقليل من أهميته في نصرة القضية الفلسطينية في الغرب، غالباً ما يبقى أعضاء هذه المجموعات مفصولين إلى حد معين عن واقع المعاناة الفلسطينية، إذ يرى بعضهم القضية الفلسطينية مجرد موضة نضالية، شبيهة بموضة الـme too، أو النضال ضد الاحتباس الحراري (على أهميتها)، أو مجرد فعالية لتمضية الوقت في "الويك إند" بشكل مثمر، بين وجبة "البرانش" الصباحية والتبضع في الأسواق بعد الظهر، فلا يمكن أن يكون رأيهم معياراً، أو بجميع الأحوال لا يمكنه أن يكون معياراً حصرياً، في تقييم مسار أو قرار قضائي.
بالمحصلة، لا تصلح ثقافة "الإيجابية والتطوير الذاتي" وما شاكلها من مقولات حول "ضرورة النظر إلى الجزء المليان من الكوب" لمكافحة "السلبية" و"نشر الشعور بالخيبة" وربما "وهن نفسية الأمة" أيضاً، أن تكون أساساً لتقييم أي سياسة، أو مسار، أو قرار قضائي، وخصوصاً إن كان قراراً/مساراً قضائياً دولياً متعلقاً بقضية بحجم القضية الفلسطينية. إنّ هذه أدبيات لا تخلو من نوع من "المراهقة" الفكرية والسذاجة المضرة، وهي لا تليق بمثقفينا في العالم العربي، وهي تفتقد إلى الجدية، ولا يمكن الاعتداد بها في تقييم خيارات بهذه الجدية والأهمية والخطورة.
مع الاحترام الواجب للمجتمع المدني ولنضالاته الاجتماعية في مختلف بلدان العالم، ومنها النضالات العابرة للدول، ولكن قضية بحجم القضية الفلسطينية لا يمكن أن تعلق الآمال بشكل أساسي في نصرتها إلا على المقاومة المسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعمل السياسي المرافق لهذه المقاومة. أما غير ذلك من وسائل النضال، لا سيما تلك التي يعتمدها عادةً المجتمع المدني، فيتوجب الحذر في تعليق الآمال عليها في قضايا كالقضية الفلسطينية، أي بعيداً عن المبالغات والشعبوية، ودون أن يعني ذلك التخلي عن هذه الوسائل الرديفة.
أما لوقف الحرب فمن الواجب التأكيد، مرة جديدة، أنه كي يكون مفيداً ويؤتي أُكله في هذا الخصوص، من الأفضل أن يكون النضال السياسي لدول الجنوب العالمي ضد الغرب- حليف إسرائيل- نضالاً لإصلاح المؤسسات الدولية التي تستطيع عندها وقف الحروب بفاعلية أكبر (والتي تستطيع عملياً الضغط لتفعيل عمل المدعي العام أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفرض محاكم دولية خاصة أثبتت فاعليتها الكبيرة في الماضي لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني)، وعلى رأس هذه المؤسسات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (إصلاح قدرته التمثيلية، إلغاء حق الفيتو)، وذلك بدل التلهي باستعراضات سياسية كلامية على هامش قضية قانونية محددة وصعبة أمام محكمة دولية.
أخيراً، عسى أن يكون ما حصل، ويحصل، وربما سيحصل أمام محكمة العدل الدولية، عبرةً، ولا سيما في عالمنا العربي، فإنّ المعيار في سداد أي رأي فيما يتعلق بمسار قضائي ليس قول ما تطرب لسماعه الجماهير، ولا سيما من قبل غير أهل الاختصاص في القانون، بل قول الحقيقة بموضوعية من قبل أهل الاختصاص، ولو كانت لا تعجب الكثيرين، فمن واجب المثقف تنوير الرأي العام بواقعية، لا بيعه الأوهام، و"الانتصارات القضائية التاريخية"، والأحلام الوردية، وذلك كي نتفادى أن نعيش قصصاً أخرى يكون عنوانها مستلهماً من رائعة غابرييل غارسيا ماركيز "قصة موت معلن".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.