في طاقة الحبّ شعورٌ عجيبٌ؛ لا يمكن أن يدركه إلّا من فقهه أو تاق إليهِ، أعتقد بأنّ المحبّ يسكنُ عالماً غير الذي نحيا فيه، تُسيّره مشاعره، ويستخرج من نفسهِ أكثر ممّا فيهِ؛ فلا تجدُ المحبّ الحقيقيّ أنانيّاً بقدر ما تراهُ يبذلُ جهداً، ويطوفُ سعياً من أجل حبيبه، ثمّ بعد كلّ هذا، هناك من يسمو بهذه البدايات الجميلة، وهناك من يجعل الطّرف الآخر يصحو من سكرته، ويتساءل: أكانت المشاعر صادقة أم أنّ كلّ ما فيها كان كذباً وكنتُ الطّرف الأغبى؟
نعرفُ جميعاً أنّ ما بعد الزّواج لا يشبه أبداً ما قبله، لبساطة كونهما ظرفين مختلفين تماماً، فالبُعد حاضر في الثّانية وغائبٌ في الأولى؛ في الزواج، تصطدمُ بطباع زوجك، ويصطدم بطباعك هو الآخر، قد تكون عاداتكما مختلفةً، وتكوينكما كذلك؛ ومع ذلك فلستُ أرى في السنوات الأولى إلّا وقتاً مثاليّاً للتأقلم، فلا بأس بأن يتحمّل كلّ منكما شيئاً من صاحبهِ، أتحمّلك وتتحمّلني؛ بغيرِ كلامٍ مؤذٍ؛ أو ردّة فعل قاسية، فالتقبّل هو أول سمات التكيّف.. لكن، أحقاً لا يؤثّر في العلاقة سوى ما بعد الزّواج؟
بالنّسبة لي، أعتقد بأنّ نصف المشكل إن حَلَّ فهو مشكلٌ قبليّ، أي: لما قبله، فما بعد ليس سوى ارتقاء بقرارٍ ثنائيٍّ. لا يؤلمني بعد إيجاد الشّريك واختياره، واتخاذ كلّ أسباب القربِ سوى انفصال الزّوجين بعد هذا الماراثون، أن يذهب كلّ واحد منكما في حال سبيله؛ ليس سوى خذلان كبير، وألمٌ لا يمكن جبره إلّا من قناعة كون الطّرف الآخر تجبّر وصارَ غير صالح البتّة.. فكيفَ يمكننا أن نختارَ زواجاً بلا طلاقٍ؟
[تنويه: علم الغيبِ عند الله، لكنّ اتخاذ الأسباب وصيّة إلهية ونبويّة، لهذا، لا أقول بأنّ هذه الأسباب ستكون مجدية مع الجميع، لأنّ الحالات تختلف، وهناك زيجاتٌ خاطئة منذ البداية، مهما أردنا حياكة نقصها؛ لن نستطيع إلّا إغراق أصحابها؛ فالفراق في البدايات الخاطئة يكون قراراً مثاليّاً، لهذا، أحسنوا الاختيار.. منذ البداية]
- النية
من الغريب انتشار ظاهرة احتمال الفراق قبل عقد القران، وهذا صار وارداً عند النّساء أكثر، فتجد الواحدة منهنّ تقول: لا بأس، سأجرّب، وإن لم يكن صالحاً، سنفترق.. والزّواج ليس تجربةً أو ضربة حظّ كي نجرّب، ثمّ: ماذا إن نتج عن هذه التجربة أطفال؟ أسيكون من العاديّ أن يكونوا نتائج تجربةٍ خاطئة؟ لهذا، سواء للرّجال أو النّساء، فليس عليكم استباق أحداثٍ كهذه، اتخذوا الأسباب، راجين الخير، والبركة والتيسير.
- الصّبر
لا يمكن أن أطعن في صبر الآخرين، لأنّ كلّ واحد منّا يرى نفسه أيّوباً، غير أنّ وُسع تحمّل شخص يختلف عن شخص، وكذلك الأخطاء التي "تستلزم" الصّبر تختلف من حالة إلى أخرى، لكنّ ما أراه، هو أنّ معظم حالات الطّلاق إن رُوِيت أمامك ستجد أسبابها تافهةً، فتراها مشكلة صغيرةً كبُرَت من اللاشيء.. لهذا على المرء أن يحكم عقله، وكذلك أن يُفعّل قلبه ولا يهمله..
عند أوّل مشكلة تصادفك مع شريكك، لا تدخّلوا الأقارب بينكما، ولا تستمعي لنصائح الأشخاص العشوائيين، فقد تأتين إليّ لتخبريني بأنّه صارمٌ، وبأنّ طبعه صعبٌ، وفجأةً بعد أن تخبريني ببضع مواقف سأقول لك: انطلاقاً من تجربتي، فهذا الشّخص غير صالح لأن تعيشي معه.. لكنّ تجربتي خلافُ تجربتك، وقد أخبرتني بسيّئهِ الذي ينفرد به، فماذا عن الجوانب الجيّدة فيه؟ فالكمال ليس للنّاس، ستجدين فيه نقصاً يملؤه جانبٌ آخر جميل فيه.. لهذا، استشيري نفسك، وتذكّري جميله أمام قبيحه، ولا تستسلما لوضع نقطة النّهاية بسهولة.. كونا أكثر صبراً.
- ما قبل الزّواج
لا يؤثّر فيما بعد، إلّا ما قبلُ، لا يؤثّر في المستقبل سوى الحاضر. قبل أيّام كنت في الحافلة، فسمعت فتاةً مراهقةً تقول لامرأة: "إنّ الرّجال يتغيّرون، صدّقيني، فقط يجبُ أن تساعديه على أن يتغيّر"، ثم ما هي إلّا دقائق قليلة حتّى قالت لها: "لكنّني أخاف أن أساعده، وينسى معروفي فيما بعد".. في كلامها تضاربٌ بين ما تعرف أنّه كذب، وبين ما تخاف أن يكون واقعاً، فلا أحد يتغيّر، أنا نفسي أملكُ تاريخاً تطوّريّاً بسيطاً وليس طفرةً نقلتني من كائن إلى كائن آخر، لا أحد يتغيّر بالقدر الذي آمنت به الفتاة التي ما إن سمعتُ بعضاً من كلماتها حتّى عرفت بأنّ زواجها يتخذ مساراً سيّئاً، لأنّه يبدو متذبذباً منذ البداية، فقبل أيّام وقّعت على عقد قرانها، ثمّ سُجن زوجها قبل دخولها بيته حتّى، أيبدو شخص كهذا مسؤولاً؟
إنّ قدرة الرّجل على تحمّل المسؤولية تملك جزءاً كبيراً في استقرار الما بعد، ولا أقصد المسؤولية المادّية وحدها، ففي وقتنا هذا، صارت المسائل المادّية تقتسم بإرضاء بين الزّوج وزوجته؛ وهذا لا أرى فيه بأساً؛ لكنّ: مسؤولية القرار، ومسؤولية الاستقلال؛ هذه كلّها مهمّة، إذ كيف يمكنك مثلاً أن ترتبطي بشخص قراره ليس بيده؟ فالأنثى جُبلت على حبّ القويّ، والاحتماء به، وليس على أن تكون شيئاً إضافياً لا يُلقى لوجوده بالٌ. ومثلما تطلب المرأة هذا، فالرّجل كذلك يجبُ أن يرى فيها ما يسرّهُ، وما لن يُشقيه، ففي النّساء طبائعٌ قد لا تحتمل أحياناً، أو بالأحرى: طبعٌ قد تتحمّله أنت، ويفشل في تحمّله غيرك، فاختر الطّباع التي تستطيع التجانس معها..
- العائلة
أمام ما صرنا نراه من حالات طلاق، لم تعد الأسباب مختصرة بين طرفين، بل صارت تتجاوزها للعائلة المقرّبة خصوصاً، لهذا، يجب أن ينظر كلّ واحد منكما في عائلة شريكه، وكيف هي، قبلَ الزّواج وليس بعده، مع حفظ الحدود بعده، فبقاء الاحترام يعني إطالة المودّة، وحفظ المحبّة.. لا تروا فيهم أعداءً بقدر ما يجب أن تروهم جزءاً منكم، فمثلا نرى شخصاً يحبّ شخصاً فيمنعه من عائلته؛ هذا ليس حُبّاً، بل عبودية خالصة. فلا تجعلوا الآخر يقع في شعور الوسط بين: هل أنت أم عائلته؟ لأنّهما شيء لا يمكن الفصل بينهما، لكن شيء يمكن اختياره، لهذا، لا تتورّطوا مع عائلات لا تريدكم جزءاً منها؛ خصوصاً إن كان الشّريك ضعيف القرار، والشّخصية -ذكراً أو أنثى-، فهناك عائلات محترمة وإن لم ترغب بك، احترمتك، وأذعنت لقدرها، وهناك أخرى، لن تتوانى عن أخذ أسباب المشاكل، وجعل حياتك جحيماً..
مثلما يجب أن تعرف عائلة الشّريك، لا تنسَ أن تستمع لنصائح والديك، ولا تهمل قرارهما.
- التوافق الفكري والتقارب الاجتماعي
لا يمكنني أن أحصر في مقال صغير هذه الأسباب، وأمام عدد الكلمات المسموح به، فقد وضعت عنواناً طويلاً، واللّبيب بالإشارة يفهم..
إنّ التوافق الفكريّ مهمّ، فكيف ستتحدّث مع شخص لا يفهم أبعاد كلامك؟ لن يكون هناك توافق بين اثنين أحدهما يتحدّث شرقاً، والآخر غرباً.. وكذلك التقارب الاجتماعي فاصلٌ، في الروايات وحدها سنجد الأمير قد تزوّج سندريلا طيّبة القلب، ستكون هناك فجوةٌ قلّما يُنجَحُ في إغلاقها؛ وهناك -حتماً- من ينجح في هذا، وسبب هذا الفصل هو كونهما سيأتيان من عالمين مختلفين، قد يكون تفسير المباح فيه مختلفاً بينهما حتّى..
كيف هو، وكيف يراك؟
حسب ظنّي، هذا هو أهمّ سؤال يجبُ أن يُطرحَ، فرؤيته لك ستؤثّر على رؤيتك لنفسك، لهذا يجب أن نختار من يختارُنا، ويرى فينا شيئاً كبيراً -قد لا نرى أنفسنا نستحقّه-.. كُن مع من يعرفك، ويختارك، ويريدك.. فمن يعرفك، سيصدّق ظنّه الحسن فيك، ولن يغويه وسواسٌ، لأنّه: يعرفك.. ولكم أن تحلّلوا كيفما تشاؤون معنى: "كيف هو؟ وكيف يراك؟".. إلى أن تصلوا إلى القرار المناسب: أهو الشخص المرغوب، أم الشّخص الذي سيجعل حياتنا أكثر سوءاً؟ ففي النّاس مرضى، وفي التّرك -أحياناً- راحةٌ مهما اعتدنا القربَ..
يقول الرّافعيّ: "وفي مذهبي أنّه إذا اجتمع الأذى والحبّ في قلبٍ؛ وجب أن ينصرفَ الحُبّ مطروداً مدحوراً"، وكذلك يقول: "احترس في العداوة ممّا تبدأ به العداوة، واحترس في الحبّ ممّا ينتهي به الحُبّ".. وفي كلا الاقتباسين كلامٌ واضح، لا أستطيع أن أضيفَ كلمةً عليهِ..
خُلقت المرأة كائناً ضعيفاً، يحتمي بظلّ رجلٍ ويستأنسُ به؛ وكلّ واحد منهما جُعل سكناً لصاحبه، لهذا يجب أن يستوعبا بأنّهما واحدٌ، يعيشان تحت سقف واحدٍ وليس في ساحة معركة، لهذا يبدو "التغافل" هو السّبيل الأمثل لسير الحياة، أتغافل عنك لحظةً، وتتغافل عنّي لحظات، وكلّ واحد منّا يعرف بأنّ الآخر لا يمكن أن يقصد بأيّ حالٍ إيذاء الآخر، ستكون هناك العديد من النقاشات، وسيطغى سوء الفهم في مواقف كثيرة، لهذا، على الطّرفين عدم نسيان جوهرهما، وعدم الاستسلام بسهولة لأبسط مشكلة.. لقد بدأتما الحياة معاً، بقرارٍ ناضج، فلا تُفسداها، في لحظة طفوليّة.. وفي الاختيار، لا تنسوا: نصف الشّريك لك، والنّصف الآخر: لأبنائك.. فأنت من يختار، بدلهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.