حين مات أبي شعرت أني كبرت: انتقلت بين عشية وضحاها من طابق الصغار إلى طابق الكبار. صعدت إلى الطابق الأعلى الذي ليس فوقه طوابق أخرى، والذي لا يمكن النزول منه ثانية، مهما فعلت
عز الدين شكري فشير، رواية باب الخروج
كنت أجلس داخل ميكروباص بشارع فيصل في الجيزة، يحمل على ظهره عبارة "ده من عز أبويا" حين حاول قائد ميكروباص مجاور أن يمازحه بالاقتراب الشديد منه، إلا أنه رفع هاتفه لأعلى ملوحاً به في وجه الرجل، وقال: "تحب أتصل أقوله.. إنت عارف ممكن يعمل فيك إيه لو عرف إنك ضايقتني" ليبتعد الثاني فوراً عنه ويقول: "لا يا عم الله الغني!".
لم أستطِع في تلك اللحظة أن أصرف نظري عن وجه السائق، تأملت كم الأمان الذي تحمله ملامحه، عيناه تلمعان بقوة، فيما يبتسم بزاوية فمه ابتسامة ثقة.. ثقة من ينعمون بأب حقيقي، يسند، ويدعم، ويحمي.
ربما كان قائد الميكروباص المذكور أكثر حظاً من ذلك الشاب، الذي حظي بلعنات المصريين قبل شهور، بسبب مقطع فيديو بثته إحدى مؤسسات إنقاذ المشردين في الشارع، والذي اتهمه خلاله رجل مشرد مسن، أنه ولد عاق وأنه من طرد أباه في الشارع، هكذا سارعت الكاميرات للقاء الابن "الملعون" الذي بلغ به "الجحود" مبلغه، شاهدت الفيديو، فإذا به يجاهد لشرح الحقيقة، حول ذلك الأب، الذي أشبعه وأشقاءه وأمه ضرباً، الذي تخلى عن مسؤولياته، وانخرط في زيجاته، وابتعد عنهم سنوات ليظهر فجأة، بعدما بنى كل منهم حياته بنفسه، ليحيل حياة الجميع في البيت إلى جحيم، في بيت لم يشارك في تأسيسه، ولم ينفق وقتاً أو جهداً في بنائه، رحل بخاطره وعاد بشروطه، وكانت الجملة الأكثر قسوة حين قال الفتى: "أنا عشت طول عمري من غير ضهر.. ولما رجع فضحني وكسرني تاني".
لم تفلح محاولات الشاب في توضيح مجهوداته لإنقاذ الأب العاق، ولم تفلح دموعه في استعطاف الجمهور الذي لم يحتَج أكثره لمواصلة الفيديو، حيث صدر الحكم جماعياً وقاطعاً: "أنت عاق!".
حين يخذلك ظهرك
على المستوى الشخصي أعلم على وجه اليقين كيف تكون الحياة من دون أب، كيف تكون حين يتركك بإرادته، ويراك من بعيد دون أن يعني وجودك الكثير بالنسبة له، المسألة أشبه يجرح عميق، ومؤلم، لا يندمل، فمع كل لقاء جديد، أو موقف تبدأ القصة من البداية ويبدأ السؤال المؤذي: "كل ده كان ليه؟".
كنت أعتقد أنني أبالغ في تأثري حتى رأيت الابتسامة الأشهر للشيف بوراك، صانع السعادة، تنقلب فجأة، إلى عبوس، ووجوم، وتجهم مؤلم، إثر خلافات بينه وبين أبيه وصلت لقاعات المحاكم.
هكذا الأمر إذاً، ينكسر الظهر وتبدو أبسط الأمور صعبة، حتى تلك التي كانت تميز المرء، كابتسامته، أو حتى قلب قدر ضخم من ورق العنب، كما اعتاد أن يفعل، ربما لهذا قال واسيني الأعرج في روايته طوق الياسمين: "إن الأب مثل الروح، عندما تخرج يتهاوى الجسد".
موتهم أفضل أم بُعدهم؟
أب طيب ميت أم أب قاسٍ على قيد الحياة؟ أفكر في الأمر كثيراً، وأنا أتأمل حالة الشوق العارم لكثيرين حولي يموتون شوقاً في كل يوم إلى آبائهم الطيبين الراحلين، هؤلاء الذين أدوا الأمانة، وقاموا بالمهمة كما يجب أن يكون، أبكي لبكائهم في العادة، وإن لم أعرفهم، فأنا في الواقع أعرف جيداً جداً معنى وجود الأب في حياة أبنائه، بالصورتين المادية والمعنوية، هذا أمر عظيم، حق على من ناله أن يبكيه للأبد.. نعمة لا يعرفها إلا من فقدها حقاً!
بدا مصطلح عقوق الآباء غريباً للكثيرين، حين انتشر بقوة مؤخراً، فراح العلماء يشرحونه ويذكرون موقف سيدنا عمر بن الخطاب حين طرد أباً جاء يشكو عقوق ابنه، فإذا بالحقيقة أنه هو من عق ابنه وليس العكس، هكذا راحت الهالة المقدسة تنسحب شيئاً فشيئاً من حول عدد غير قليل من الآباء الذين يشكون عقوق أبنائهم، فإذا بالسامع ينتظر أن يعرف القصة من طرفها الآخر ويبقى السؤال: "وهل كنت أباً جيداً؟" لذا أعتقد أن إجابة سؤالي، هي أب ميت أفضل من أب حي ظالم، فعلى الأقل يمكن طلب الرحمة للأول والتماس العذر له أما الثاني فما عذره وأي رحمة يستحق؟
الحقيقة المرة
لعل الحقيقة المرة، والتي لا يعلمها كثيرون أن فعل العقوق صعب، وأن من عاناه لا يذيقه لغيره أبداً، ما زلت أذكر ذلك الابن الذي تركه والده طفلاً، سافر الأب وتزوج وأنجب، ونسي ذلك الابن من خلفه، وحين تقدم به العمر ومرض، عاد وطلب أن يراه، كانت أيام الأب الأخيرة صعبة جداً على المستوى الصحي، ولم يحمله فيها سوى ابنه الذي لم يسبق له أن أنفق عليه قرشاً، كنت أتابع البر الغريب الذي يعامل به الابن والده العاق، وأنا أرى بعيني من جديد أنا فاقد الشيء هو أفضل من يعطيه، ولم تكن تلك هي القصة الوحيدة بذلك الصدد، فكم من حكايات لأبناء تفانوا في العناية بآباء لم يتكلفوا عناء السؤال عنهم، لكن المسألة -برأيي- تشبه محاولة اللحاق بما تبقى من "أب" حتى لو كانت مجرد "أيام أخيرة".
أتأمل بكاء بوراك، وأعلم أن بادرة واحدة طيبة من والده، سوف تعيد بوراك تحت قدميه، وتمحو كل ما جرى في ثانية، أتأمل بوراك وأعلم أن الأبناء الغاضبين من آبائهم كالأطفال، يكفيهم فعل واحد طيب ليمحو أفعالاً عديدة شريرة قبله، أتأمل بوراك مرة بعد أخرى، وهو يعاني ألم الخيانة، وألم فقدان الأب، وهو لا يزال حياً، تلك غصة لن يعرفها إلا من عاشها، أنت تراه، تعلم أنه هناك، تتأمل أفعاله، تنتظر بادرة واحدة طيبة لا تأتي أبداً، تكسر ظهرك خيانته لك، تبكي ويظهر ضعفك للعالم كله، يتهمك البعض أنه مجرد "شو" وأنه لم يحدث شيء على أرض الواقع، بينما أنت تحاول مرة بعد أخرى أن تحتفظ بما تبقى من رباطة جأشك، فالأمر ليس هيناً، إن ثرت كنت عاقاً، وإن كتمت مت كمداً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.