قبل انفجار الحرب في السودان، غاصت أغلب الوسائط الإعلامية في وحل الأكاذيب والتضليل الممنهج بنشر محتويات إخبارية -مقروءة أم مصورة- لا تمتُّ إلى الواقع بِصلة، هدفها تعميق الهوة، وعدم خلق تقارب بتاتاً بين الأجسام الثورية التي أهدت، بقصر نظرتها، أطباقاً ذهبيةً لخصومها السياسيين الذين تمكنوا من تشريح الكتلة الثورية الموحدة إلى شرائح جعلتها تتحمل بدورها الوزر الأكبر من هذه الكارثة الإنسانية، وضياع فرص خلق انتقال آمن يقي البلاد شر الاحتراب.
وفي خضم هذه الحرب السودانية، بلغ التضليل الإعلامي ذروته، بينما توارت الحقيقة في أسراب الأكاذيب التي يصطنعها ويطلقها الناشطون الذين لا تتعدى أهدافهم سوى الظهور في "الميديا" ونيل أكبر قدر من الإعجاب والمتابعة، أو لا يتجاوز ذاك الهدف سوى صب الزيت على النار للقضاء على مزيد من البشرية !
هذه الوضعية سحبت الثقة من الجمهور المتابع للأحداث الدائرة الآن في بلاد السودان، عمَّا ينقل عبر الروابط الإخبارية، حتى على مستوى القنوات الفضائية الكبرى، والمواقع الإلكترونية المحلية والعالمية على حدٍ سواء، فكل ما ينشر أصبح خاضعاً للتحقق، وعدم هضمه وتصديقه كما هو معهود مسبقاً. وما إن ينشر خبرٌ عن "حادثة ما"حتى تسارع مكاتب الإعلام والعلاقات العامة بالمؤسسات المعنية إلى نفي الخبر الذي قد نجده غذّى ملايين العقول بتلك المعلومة المتداولة.
في هذا الصباح طالعت بأحد المواقع الإلكترونية، خبراً عن إعلان مجلس السيادة السوداني استعداده للحوار مع قوات "الدعم السريع" على لسان نائب الرئيس مالك عقار، الذي أكد بحسب الموقع الإخباري: "كل الحروب تنتهي بالحوار عبر طاولة التفاوض، وفي النهاية لا بد من تقديم تنازلات خلال المفاوضات، ونحن منفتحون على ذلك". وسرعان ما توجهت إلى الموقع الرسمي لمجلس السيادة للتثبت والتأكد من صحة الخبر، لكن فوجئت حتى لحظة هذا المقال بعدم نشر الخبر، وتفسير ذلك إما أن يكون الخبر غير صحيح، وإما أن يكون هنالك قصور من إعلام المجلس في نشر الخبر المنسوب إلى النائب في وقت مبكر.
أكاديمياً، إن الممارسات التي تجرى الآن باسم الإعلام والصحافة، تضليل وكذبة أيضاً، فهي أقرب إلى بروباغندا أو الدعاية التي يعلمها الإعلاميون المختصون في هذا المجال، ويجيدون التفرقة بين الدعاية التي دائماً ما تكون ذات هدف محدد، وهو خدمة مصلحة المرسل وليس المستقبل، بينما الإعلام هدفه تكوين وتنوير شخصية الإنسان ومخاطبة العقل والعاطفة.
نشر الأخبار المضللة والزائفة بقصدٍ غالباً ما يبثها الناشطون السياسيون، وأحياناً يقع في فخ الأخبار الكاذبة حتى الصحفيون المحترفون لأسباب تعود إلى عدم إجراء التحقيق الكامل لصحة الخبر من المصادر المتعددة ذات الصلة بالحادثة، أو الموضوع، أو الاعتماد على بعض المواقع الإخبارية المجهولة الهوية التي تنشط بصورة غير مسبوقة هذه الأيام لإحداث حروبات نفسية، وربكة في أوساط المتلقين.
المؤسسات الإعلامية خصوصاً في القطاع العام بالسودان، تعد من المؤسسات الطليعة التي أصابتها مقذوفات الإهمال في البنية التحتية، بجانب رداءة وانعدام الأجهزة التقنية الحديثة والذكية بها، فضلاً عن إغراق هذه المؤسسات بقوى عاملة غير مؤهلة، أومتحمِّسة لوضع إضافات جديدة في المنتوجات والمحتويات التي يتوق إليها الجمهور المتابع لهذه الوسائل الإعلامية، أضف إلى ذلك تشريد الطواقم الإعلامية المقتدرة إلى مخيمات الفصل، أو الإهمال.
سياسات الدولة تجاه الإعلام -على مسيرة الفترات الساحقة- أنتجت هذه الوضعية المائلة، وبإسناد هذه الوزارات والمؤسسات الإعلامية أمر إدارتها إلى أشخاص باعتبارات أخرى غير معيار الكفاءة والاقتدار، فكيف يفسر إنشاء مجالس عليا للإعلام بالولايات وهي لا تملك حتى صفحة رسمية في أقل التقديرات لمخاطبة الرأي العام المحلي والدولي وتنويره بالكوارث الإنسانية التي حلت بمناطقهم من حروبات، ونزوح، وتشريد، وفقاً للضوابط الخبرية لتجنب تلك الإشاعات والأكاذيب التي تتناقلها تلك الوسائط والقنوات؟ بل ما هي الإنجازات التي حققنها هذه المجالس المعنية بالإعلام، خصوصاً في إقليم دارفور الذي يعد أكثر المناطق اشتعالاً للحروب الدائرة بالبلاد؟
هذا الفراغ الإعلامي الاحترافي لا يملؤه سوى آليات الدعاية القائمة على فلسفة الغاية تبرر الوسيلة، وانتهاج أسلوب تقديم الوعود والبعد عن الحقائق، عكس الإعلام المرتكز على مرتكزات الصدق، والأمانة، والأخلاق، ويعتمد في أسلوبه على نهج التحليل، والنقد، والاقتراحات. كما أن للإعلام الأجنبي إمكانيات هائلة تتيح له استغلال هذا الفراغ الواسع لتشكيل رأي عام عالمي يحقق مصالح الدول الكبرى سياسياً واقتصادياً. فلا بد من إلقاء نظرة ولو عابرة، على الواقع الإعلامي بالبلاد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.