لم تكد تمضي بضعة أيام على انتشار مقطع فيديو لمحمد حسين جوجو، قائد جماعة "ثورة مظلوم" المعارضة التشادية، خلال قتاله بجوار قوات الدعم السريع في العاصمة السودانية الخرطوم، إلا وانتشر تسجيل صوتي للسفير التشادي السابق بالقاهرة، وأستاذ القانون الدستوري في جامعة أنجمينا الأمين الدودو الخاطري يعلن فيه دعمه لمحمد جوجو، ويتحدث خلاله عن وجوب الوقوف بجوار أولاد العم وأولاد الأخ ممن يقاتلون في السودان، مضيفاً أن ورقة الجنسية لن تفرق بين أبناء القبيلة الواحدة، فمثلما يوجد 15 ألف جندي سوداني ضمن الجيش التشادي، فمن حق التشاديين أن يقاتلوا في السودان، ومتحججاً بأن الاستعمار قسم المنطقة دون مراعاة للمكونات الاجتماعية والقبلية، وقد دفعت تلك التصريحات الحكومة التشادية لاعتقال الخاطري من منزله.
بجوار ما سبق، تصاعدت حدة القتال في دارفور على خلفية عرقية بين قوات الدعم السريع وأبناء القبائل الإفريقية، فيما تدور أحاديث عن مقتل 1000 شخص على الأقل في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، والتي تبعد عن الحدود التشادية 27 كيلومتراً فقط، وقد انتشرت صور تظهر جثامين الضحايا ملقاة في الشوارع، فيما تحدث أحد مقاتلي الدعم السريع في مقطع مصور عن طرد أبناء المساليت من المدينة قائلاً: "ما في دار مساليت مجدداً، يوجد دار عرب فقط". فيما انتقل قبل بضعة أسابيع ابن قبيلة الزغاوة ميني ميناوي حاكم إقليم دارفور، وزعيم جيش تحرير السودان المتمرد سابقاً، بقواته من الخرطوم إلى دارفور، ودعا أبناء إقليم دارفور بولاياته الخمس إلى التسلح لحماية أنفسهم.
تلقي التطورات المذكورة الضوء على قضية حساسة تتعلق باحتمالات تحول الصراع الحالي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى اقتتال قبلي وأهلي يتجاوز حدود الدولة القومية في منطقة تتسم بغياب سلطة الدولة، وبقوة الهويات العرقية والقبلية، وانتشار العديد من المجموعات الإثنية عبر الحدود.
التداخل القبلي في منطقة ملتهبة
تشير أحدث البيانات الواردة في كتاب الحقائق الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى أن عدد سكان السودان يبلغ 49.1 مليون نسمة، فيما يبلغ عدد سكان تشاد 18.5 مليون نسمة، من بينهم 9.7% من العرب، والذين ينتمون إلى قبائل تمتد من غرب السودان إلى مالي مروراً بتشاد والنيجر والكاميرون وإفريقيا الوسطى.
لقد عجّت تلك المنطقة بصراعات قبلية أججها تبني الرئيس الليبي معمر القذافي لمقاربة سعت لتدشين حزام عربي في القارة الإفريقية بحجة تفوق العرق العربي، وخاض القذافي خلالها حرباً ضارية في تشاد (1979- 1987)، ما دفع الرئيس التشادي السابق حسين حبري (1982-1990) إلى اضطهاد العرب في تشاد باعتبارهم وكلاء لليبيا، وهو ما أدى إلى موجات نزوح عربية من تشاد شملت بطن أولاد منصور من عشيرة الماهرية بقبيلة الرزيقات، بقيادة جمعة دقلو، والذي غادر رفقة أقاربه إلى جنوب دارفور عام 1987، ومن بينهم برز لاحقاً ابن شقيقه محمد حمدان الشهير بحميدتي.
لقد عجّت تلك المنطقة بصراعات قبلية أججها تبني الرئيس الليبي معمر القذافي لمقاربة سعت لتدشين حزام عربي في القارة الإفريقية بحجة تفوق العرق العربي، وخاض القذافي خلالها حرباً ضارية في تشاد (1979- 1987)، ما دفع الرئيس التشادي السابق حسين حبري (1982-1990) إلى اضطهاد العرب في تشاد باعتبارهم وكلاء لليبيا، وهو ما أدى إلى موجات نزوح عربية من تشاد شملت بطن أولاد منصور من عشيرة الماهرية بقبيلة الرزيقات، بقيادة جمعة دقلو، والذي غادر رفقة أقاربه إلى جنوب دارفور عام 1987، ومن بينهم برز لاحقاً ابن شقيقه محمد حمدان الشهير بحميدتي.
مع انتشار موجات الجفاف في الربع الأخير من القرن العشرين غرب السودان وتشاد، حدثت صراعات بين القبائل العربية التي تمتهن رعي الإبل، والقبائل الإفريقية التي تمتهن الزراعة، حيث اتهم المزارعون الرعاة بتدمير محاصيلهم، بينما طالب العرب الرحل بحقهم في ملكية الأراضي، ووصلت الأمور نقطة الانفجار في إقليم دارفور عام 2003، ليندلع قتال شرس بين الجانبين، فيما رأى نظام البشير أن ما يحدث هو مؤامرة يقف خلفها الجنوبيون لفتح جبهة جديدة في غرب السودان تستنزف الحكومة، فلجأت الخرطوم إلى تسليح القبائل العربية في مواجهة تمرد الجماعات المسلحة الدارفورية التي ينتمي معظم عناصرها إلى قبائل الفور والزغاوة والمساليت الإفريقية، والتي لديها امتدادات في تشاد، فالرئيس التشادي ديبي (1990-2021) ينتمي إلى قبيلة الزغاوة.
لقد دعم ديبي هجوم مقاتلي حركة العدل والمساواة الدارفورية المعارضة على مدينة أم درمان في عام 2008، والذي وصل إلى مشارف القصر الجمهوري للبشير، وذلك رداً على دعم الحكومة السودانية لهجوم المعارضة التشادية على العاصمة أنجمينا في عام 2006، والذي كاد يطيح بنظام ديبي، ثم توصلت الحكومتان التشادية والسودانية إلى تفاهم في 2010 تراجع بمقتضاه كل جانب عن دعم الحركات المعارضة للجانب الآخر.
انهيار النظام الإقليمي الأمني
خلال العقد الأخير انهارت الأضلاع الثلاثة للنظام الأمني الإقليمي في وسط القارة الإفريقية، فبدأ انفراط العقد مع مقتل القذافي في عام 2011 على يد الثوار في ليبيا، ثم انفرطت الحبة الثانية مع عزل البشير في عام 2019، ثم انفرطت الحبة الثالثة مع مقتل الرئيس التشادي ديبي في عام 2021 على يد مسلحين من جبهة التغيير والوفاق "فاكت" المتمردة، وذلك خلال هجوم شنوه انطلاقاً من جنوب ليبيا باتجاه العاصمة أنجمينا، وهو ما هدد بتقويض الدور التشادي الذي لعب فيه ديبي الحليف لفرنسا دور الضامن للأمن الإقليمي، حيث نشر قوات من الجيش التشادي في النيجر والكاميرون لقتال عناصر جماعة بوكو حرام، كما أرسل قواته إلى مالي، وشارك بقوة عسكرية في مجموعة دول الساحل الخمس G5 العاملة في المثلث الحدودي بين بوركينا فاسو ونيجيريا ومالي، كما قاد بنفسه القتال ضد بوكو حرام في "بحيرة تشاد" عقب مقتل مائة جندي تشادي على يد عناصرها عام 2020.
خريطة تشاد والسودان
لقد جاء الاقتتال الأخير في السودان بين الجيش والدعم السريع ليمثل نقلة نوعية في حجم الفوضى، وليلعب دور حلقة الوصل بين الحروب في القرن الإفريقي بالصومال وإثيوبيا، والصراعات في غرب ووسط إفريقيا في مالي وإفريقيا الوسطى وبوركينافاسو وشمال نيجيريا، وهو ما يفتح الباب لانخراط القبائل المحلية بقوة في تلك النزاعات التي تفتح الباب أمام تدخل الدول الكبرى المتنافسة على بسط النفوذ في إفريقيا.
إن تصاعد أعمال الفوضى والعنف في دارفور يثير قلق أنجمينا التي تتخوف من تحالف حميدتي مع المعارضة التشادية المسلحة بما يهدد النظام التشادي الذي يقدر حجم جيشه بنصف حجم قوات الدعم السريع، كما يشعل الغضب القبلي، بما فيه الصراع الدامي بين قبيلة الزغاوة الإفريقية التي تنتمي لها عائلة ديبي في مواجهة الرزيقات العرب الذين ينتمي لهم حميدتي، وهو ما يعني أن تداعيات الصراع في السودان ستبدأ في الظهور تباعاً مما يزيد من تعقيد الأزمة، ويدفع كل طرف للاستعانة بحلفائه من خارج السودان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.