لا توجهات للعقل السياسي الكردي صوب العمل البحثي في سوريا، أو استعداده للقطيعة مع الماضي من حيث طريقة العمل المعرفي والمضامين والظروف والمشاكل الذاتية والموضوعية التي كانت تعاني منها، وهي واحدة من أبرز المشاكل التي لا تزال تُحيط بالإعلام والأحزاب والحركة البحثية. صحيح أن بواكير النشاط الإعلامي تعود للأحزاب الكردية، وهذه تُحسب لها، لكن ما يُحسب عليها هو عدّم التجديد في الأدوات والوسائل وآليات العمل الصحفي والبحثي، لتجد نفسها خارج إطار الصحافة والإعلام وكافة حقول النشر والمعرفة البحثية.
باحثون شباب خارج السرب الحزبي
ومع احتضان الجامعات في إقليم كردستان العراق، تركيا، أوروبا، أعداداً جيدة من طلبة العلم والدراسات العليا، شكلت المراكز البحثية السورية التي تأسست بعد عام 2011 ملاذاً وملجأً لغالبية النُّخب الشبابية الكردية، ممن يمتلكون الرغبة والإمكانيات للعمل البحثي الجاد والهادف. والواضح أن جميع الأوراق البحثية بمختلف مسمياتها وأجناسها، إنما نشرت خارج إطار الأحزاب الكردية، بل إن مُعرفات تلك الأحزاب لم تكن مستعدة لإعادة نشر تلك النتاجات، بحجة نشرها سابقاً، عدا أن آخر تحديث لتلك المعرفات رُبما يكون قبل أشهر. ثم يأتي من يقول لماذا ينشر الباحث الكردي خارج الأمكنة الخاصة بالكرد؟
ولم تتجاسر الحركة الكردية على نفسها لتتناقش مع الباحثين والكتّاب السوريين عامة والكرد خاصة، خارج سوريا وداخلها، ممن أخذوا خيار عدم السكوت عن كافة الانتهاكات التي تحصل ضدها أو بحق المجتمع الكردي ومن مختلف الأطراف. أو توفير جو من التشجيع لمنحهم مجالات بحثية دون قيود أو تدخلات، وحثهم على متابعة المستجدات من الموضوعات والمناهج وطرائق تحليل السياق والبيانات والمقاربات. خاصة أن النُّخب السياسية-الحزبية مشغولون بشؤون أحزابهم ومشاكلها… إلخ. لكن المؤسف أن لا يجد الكتّاب والباحثون الكرد رابطة/مظلة جامعة في المجال البحثي، يستفيد منها الباحثون معرفياً، مالياً، وأكاديمياً، والأكثر أهمية تشجيعهم على المزيد من العمل والبحث.
مجموعة وازنة من القضايا تحتاج لعمل بحثي
يفتقد الوسط السياسي والمعرفي الكردي جملة ضخمة من المشاريع البحثية ولا تهتم بها الأحزاب الكردية، مثل: مراهنة المجتمع الكردي ومعاناته من السياسات المتبعة ضده، وأثر الهجرة عليه، والتحولات التي تعرض لها، وتصوراته حول مستقبل الدولة السورية. وقضايا العنف والإرهاب والعسكرة. ومرحلة ما بعد النزاع، وكيفية إعادة هندسة المجتمع الكردي، والاستفادة من القوانين الدولية في ذلك. ودور المرأة الكردية في الوسط الحزبي، المدني، المجتمعي، إدارة المنطقة الكردية، وسوريا. بجانب الهويّة الكردية، والهويّة السورية الجامعة، ما هي أبرز العوامل الجديدة التي أثرت فيها، وكيف تغيرت الظروف ومحددات المؤثرة في تنشئة تلك الهويّة. المواطنة والمواطنية والهويّة السورية، وقضايا اللامركزية بأنواعها والحوكمة… إلخ.
المنصات السورية والعربية ملاذ آمن للباحثين الكرد
هذه المواضيع جزء صغير لعدد ضخم من القضايا التي لم تلتفت لها الحركة السياسية الكردية، وما الأوراق المنشورة على قلتها، سوى نتاجات لاجتهادات شخصية، ما كانت لها أن ترى النور، ويتم البحث والنقاش حولها لولا المنصات السورية البديلة، والتي لا علاقة لكرد سوريا بها تأسيسياً أو دعماً. بل لا أحد من الأطراف السياسية اجتهد على نفسه وأمن تشبيكاً مع الجهات المانحة والممولة للمشاريع البحثية. لنتخيل أن لا "داتا" بيانات للباحثين والصحفيين والكتّاب الكرد السوريين سواء بشكل فوضوي، أو تخصصي: فلسفي، اجتماعي، فكري، سياسي، اقتصادي، آثار وبيئة، جغرافيا تاريخ، أدب وفن، فلكلور وغناء. وغياب التشبيك بينهم يعني غياب تقاطع الشواغل الجمعية بين بعضهم بعضاً، في ظل الانفتاح المعرفي عبر وسائل التواصل الاجتماعي على مختلف أنحاء العالم، والمطلوب اليوم وبشدة إعادة الروح والشغف للانتماء القومي للكرد السوريين، في ظل مختلف العمليات والأحداث والمشاريع السياسية والخلافات التي تسببت بابتعاد شرائح عديدة، خاصة الشباب، عن مواضيع تخص وتهم القضية الكردية في سوريا، وأسباب عزوفهم عن العمل السياسي ضمن الأحزاب. وبعد بداية التحولات الاجتماعية والسياسية منذ 2011 في سوريا، بات واضحاً تعقد مهام الأحزاب الكردية أكثر، وتداخل وتشبيك مختلف جوانب القضية الكردية ضمن الوسط الكردي، والملف السوري ككل. لذا فإن الدور البحثي يتعاظم أهميته باطراد، ليس فقط للبحث في أصل وتاريخ الهويّة والقضية الكردية في سوريا، ونبش حقيقة المظلومية التي تعرض لها الكرد. بل أيضاً في مستقبل الكرد في سوريا، سواء ضمن إطار الدولة الواحدة، أو طبيعة علاقة الكرد وباقي شركائه في الأطراف/الأقاليم، وطبيعة ونوعية العلاقة بين الكرد والكرد، والمشاريع المطلوب الاشتغال عليها، وأيُّ دور ينتظر الكرد، وينتظرونه خاصة في ظل موجات الهجرة واللجوء والتغيرات الاجتماعية، وتغيير دور الأسرة، والأخطر غياب وسحق الطبقة الوسطى.
جيلان متباينان للمنخرطين في الشأن العام
حالياً يوجد جيلان من المهتمين بمتابعة شؤون المستقبل الكردي في سوريا، لكن المؤسف والخطير أن غالبيتهم مستقرون خارج البلاد. الجيل الأول: خريجو الجامعات السورية وقلة ممن أكملوا دراساتهم العليا قبل 2011، كان لهم دور محوري في التوعية والتعليم، لكن يكاد يكون معدوم النتاج البحثي لأسباب وظروف تتعلق بالقبضة الأمنية والملاحقات وضعف الموارد المالية، إضافة إلى عدم تنامي فكرة العمل البحثي ضمن الوسط الكردي، مع التأكيد على وجود المطبوعات من كُتب ومجلات وجرائد ورقية بالرغم من ضعفها في جانبي الإخراج والمحتوى، لكنها قياساً بتلك الفترة، كانت مقبولة إلى حد جيد. وهم ينقسمون إلى شريحتين: شريحة تشعر بالضياع؛ نتيجة فقدان الفرص وعدّم وجود جهة تتبنى أفكارهم نتيجة عدم مواكبة التطورات البحثية وضعف اللغة الأجنبية، وتأثير دور العمر، وشريحة أكاديمية هاجرت، وتنتظر اللحظة التي يعودون فيها إلى جامعات البلاد والعمل ضمنها مجدداً. الجيل الثاني: الشباب الذين أكملوا الماستر والدكتوراه خلال العشر سنوات الأخيرة حيث مكان إقامتهم، واشتغلوا على أنفسهم وتنمية تجربتهم وتمكنوا من كسر تابوهات عديدة، ودخلوا ميادين بحثية مهمة، بل أصبحوا رسلاً لقضيتهم ضمن منابر إعلامية وبحثية رصينة تمكنوا من إيصال الصوت الكردي بعيداً، بل تغيير العديد من الأفكار والقناعات والتوجهات المسبقة عن عدالة القضية الكردية، لكنهم مهمشون ومبعدون عن المشهد العام.
لا تزال الفرصة سانحة
لذا أمام الحركة السياسية الكردية ورجال الأعمال اليوم وعلى اختلاف التوجهات، فرصة لم تتح في تاريخ الدولة السورية منذ استقلالها عن فرنسا. فهامش الحرية البحثية وتزايد أعداد الباحثين الشباب الكرد داخل وخارج البلاد، وانفتاح الباحثين السوريين العرب على القضية الكردية، وتوافر المراجع البحثية عبر مختلف المنصات والمواقع الإلكترونية، واهتمام الجامعات والمراكز البحثية الغربية بالقضية السورية والكردية، خاصة مع كثافة المواد المطروحة للمزيد من التعرف على ديناميات المجتمع والسياسات والشخصية الكردية وسوريا كلها، يُحدد الخيارات ما بين الانخراط؛ وهو ما يتطلب دعماً سياسياً ومعنوياً ومادياً، أو أنها ستبقى تتلقى المواد المنشورة وتكتفي بالقراءة.
إن السعي لتأسيس جمعية كردية سورية للعلوم الاجتماعية والسياسية كمثال، وإفساح المجال أمام جميع المهتمين، خاصة من مختلف المناطق السورية، سيكون نموذجاً مثالياً لعمل بحثي كردي سوري مستدام. ويمكن استخدام "واحة الحرية البحثية" في إقليم كردستان مقراً لها، أو التمركز في أيّ مدنية من المنطقة الكردية في سوريا بعد الحصول على ضمانات من التحالف الدولي بعدم المساس بها من قبل أيّ سلطة حاكمة، خاصة أن الضرورة القصوى تتطلب إنجاز الدراسات الميدانية عبر المعايشة والمقابلات مع العينات المستهدفة مباشرة، أو حتّى العمل online وإقامة الندوات في إقليم كردستان.
لا فكاك من العمل المشترك بين الكرد والعرب
لقاء الباحثين السوريين كرداً وعرباً بعد عقود من التشتت والضياع والصراع والخلافات، يحتوي على جوانب إيجابية كثيرة، بل لحظة تاريخية، خاصة مع تقديم الباحثين لأوراقهم ورؤاهم وتوجهاتهم، ويمكن التأسيس عليها لتكون واحدة من المصادر العديدة لاتخاذ القرار والعمل ضمن سوريا المستقبل. وتشمل أهمية المؤتمرات ما تشهده من نقاشات وحوارات وتبادل المعرفة، ونواتجها إنسانياً وبحثياً وتحفيزياً، وفرصة لبلورة مشاريع معرفية، وحتى على صعيد الموسيقى والتراث وما تعرض له الفن والفلكلور الكردي من تشويه وتحريف، يُمكن أن تقدم للجامعات الدولية والأجنبية ومراكز الأبحاث المتعطشة للمواد البحثية الرصينة من جهات معتمدة. تلك المراكز هي المأمول والأحلام المشتركة بين الشباب الأكاديمي والدوافع البحثية، والمتابعة العالمية، والتنوع وخبرة الجيل السابق.
قُصارى القول: يحتاج الكرد في سوريا إلى إنضاج استراتيجية بحثية واضحة المعالم، ويمكن توفير التمويل عبر مختلف الوسائل والمانحين الدوليين، الرساميل الكردية، إقليم كردستان العراق، خاصة أن الكادر البشري، وعينات الدراسات ومواد البحث كلها موجودة، لا يحتاج الأمر إلا للإرادة السياسية والمعرفية واعتراف الجيل السابق بأن الحياة والمعادلات المعرفية تغيرت، والشروع ببناء استراتيجية كردية إقليمية وسورية بحثية، والبحث عن تمويل يأتي في المرحلة اللاحقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.