في سنغافورة والصين.. التجارب الاقتصادية الناجحة تتحدث عن نفسها

عربي بوست
تم النشر: 2023/06/04 الساعة 09:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/04 الساعة 09:39 بتوقيت غرينتش
iStock/ سنغافورة

لقد كان اختيار نموذج الصين وسنغافورة للمقارنة والمقاربة حول أهم معضلات المجتمعات الحديثة في ملف السكن، وفق نظرة فاحصة، لما يتمتع به البلدان من تناقض واضح في تعداد السكان الهائل في الصين وصغر مساحة سنغافورة، وانعدام الموارد على أراضيها، وقدرة الصين على تنظيم وتنسيق تعداد السكان الهائل بتلك الفعالية والإحكام المبهرة، مع تنامي مستوى التقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي في الصين المعاصرة بشكل شبه رأسمالي، فيما حوّلت سنغافورة ضيق أفق مساحتها إلى انتصار إنساني كبير في بلد معروف بالغلاء العقاري الفاحش، ووفرت لكل الطبقات سكناً يضمن لهم رعاية اجتماعية في مستوى حجم تقدم البلاد دون إخلال أو إغفال لكل مواطن.

لقد نجحت سنغافورة، الدولة المدينة التي تتربع على مساحة 728.6 كلم مربع، في توفير 90% من حاجات السكن لشعبها بصيغة التمليك، والبالغ عددهم وفق تقديرات الأمم المتحدة عام 2021، نحو 5.81 مليون نسمة، بنسبة 0.08% من سكان العالم في بلد صغير، استطاع بشكل مميز وباهر توفير السكن لأفراد شعبه كافة ومكَّنه ذلك من توفير سكنات جاهزة بشكل مُباشر للشباب المقبل على الزواج رغم الارتفاع المذهل لقيمة السكن في البلد الصغير جغرافياً الكبير بإنجازاته المشهودة.

في النسق ذاته مثَّل التحول الاقتصادي الكبير في الصين منعرجاً حاسماً في تنامي تعداد سكان المدن وحركة البناء والتشييد التي سارت بوتيرة سنوية تمكنت من خلالها الصين من توفير منازل لنحو 14 مليون صيني بنسبة 1% قبل 2010، ليرتفع ذلك بنسبة 1.9 % أي نحو 26 مليون صيني من المواطنين الذين ينتقلون للسكن في المدينة والاندماج في النمط الاقتصادي الحديث للبلاد الذي صممه مشروع "الإصلاح والانفتاح" لقائد نهضة الصين المعاصرة دينج شياو بينج. ويبلغ تعداد سكان الصين وفق بيانات رسمية أوردتها وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" في شهر مايو/أيار 2021، نحو 1.41 مليار نسمة، بنسبة 18% من سكان العالم، يشغلون مساحة تمتد على 9.6 مليون كيلومتر مربع.

مُدن أشباح 

تُشكل مشكلة السكن والحصول على منزل أو شقة مناسبة هاجساً كبيراً لكل البشر، لكن الأمر يختلف في الصين الدولة الأكبر سكانياً في العالم، وقد نجحت الصين في توفير السكن بشكل كثيف لشعبها، وسط نمو التشييد والبناء في القطاع الخاص، الذي بنى 50 مدينة جديدة منذ 2006، حيث وفرت مدن "الأشباح" التي سميت كذلك تعبيراً عن خلوها من السكان، 65 مليون وحدة سكنية شاغرة لتبدأ تدريجياً في مراحل الإسكان مع توسع النمو الاقتصادي للصين وامتداد شبكات النقل والمناطق الصناعية في ربوع البلاد.

رؤية جديدة في إصلاح المدن

بعد تأسيس الصين الحديثة عام 1949 وجراء المبادئ الشيوعية الاشتراكية، لم يكن المواطن الصيني في المدينة التي كان يسكنها 10.6% من السكان، يفكر في أن يمتلك بيتاً، حيث لم تكن الحكومة تسمح بالملكية الخاصة، بحكم أن كل شيء مملوك للدولة، إضافة إلى أنه حتى ولو سُمح بامتلاك عقار سكني، لم يكن لدى المواطن الصيني القدرة المادية التي تمكنه من شراء مسكن، بينما كان كل من يعمل في الحكومة والقطاع العام يحصل من جهة عمله على مسكن بإيجار رمزي.

الصين
الرئيس الصيني تشي جين بينغ – رويترز

وخلال تلك الفترة طرح الرئيس ماو تسي تونغ رؤية جديدة لبناء المدن، من خلال بذل جهود كبيرة في تعلم كيفية إدارة وبناء المدينة، فيما كانت معظم المدن التي بنيت وتوسعت في العهد الإقطاعي الإمبراطوري ذات نمط استهلاكي، لا تملك القدرة على الإنتاج، فيما كانت هاته المدن متخلفة من ناحية البنية التحتية، والصناعات والأساليب المعمارية، حيث أطلقت الصين الحديثة إصلاحات لتزويد المناطق الحضرية بالبنية التحتية مع تحويل المدن من استهلاكية إلى منتجة، وبناء عدد من المدن الصناعية. 

عهد التحول الكبير 

وبعد نهاية عهد الماوية انطلقت الصين في رحلة الإصلاح والانفتاح بداية من ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت تنتشر مظاهر الفقر والبؤس الاجتماعي في البلاد مع حركية حثيثة للاقتصاد، وتخلت الدولة عن الخدمات الاجتماعية من علاج وسكن ورعاية، وبات على الفرد أن يجد بنفسه المسكن الذي يريده، عبر الشراء أو الاستئجار بأسعار السوق، بعد أن قررت الصين في عام 1998 إلغاء نظام توزيع المساكن على العاملين وتقديم معونة إسكان للموظف عوضاً عن ذلك، واتبعت الصين سياسة تحوّل حضري ذات خصائص صينية، حيث حرصت على تنظيم العلاقة بين الحكومة والسوق والحكومة المركزية والحكومات المحلية، من حيث تصميم المستوى الأعلى لـ"المدينة الذكية"، ونظام تسجيل الأسر وإصلاح الأراضي، وإدارة الفضاء العمراني.

وفتحت الوضعية الجديدة التي غذاها الازدهار الاقتصادي نهم الصينيين للتملك الذي حُرموا منه لعقود، وأضحت نسبة التملك الفردية للصينيين بالمدن 82%، من إجمالي المساكن وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الرسمية "شينخوا"، لترتفع أسعار العقارات ارتفاعاً جنونياً في الصين بشكل كبير، خاصة في المدن الكبرى للبلاد مثل بكين وشنغهاي وقوانغتشو، ليصل متوسط سعر تمليك المتر المربع الواحد في العاصمة بكين إلى 2000 دولار.

ووفق أرقام مصلحة الإحصاء الصينية، فقد وصل متوسط المتر المربع بالبلاد في شهر يونيو/حزيران الماضي، إلى 326.5 دولار، ودفع ارتفاع المنازل في الصين إلى ظهور أفكار جديدة في توفير السكن من خلال "بناء البيوت جماعياً" بواسطة تعاونيات عقارية، من خلال شراء قطعة أرضية وبنائها من الألف إلى الياء، للحصول على منزل بمعايير خاصة ووفق رؤية المساهم، بثمن أقل بكثير من سعر السوق.

نمو مُتسارع للتمدين

لقد انتقلت النسبة الحضرية لسكان الصين من 10.6% عام 1949، ونحو 90% من باقي السكان في الأرياف، لتصل إلى 17.92 عام 1978، لكن القفزة العظمى للتحول الحضري بالصين شهدتها البلاد في السنوات الأربعين المقبلة، حيث وصل سكان المدن عام 2018 إلى 59.58%، أي نحو 800 مليون وفق ما ذكره ليو باو كوي، وهو باحث مساعد بمعهد التخطيط المكاني والاقتصاد الإقليمي للجنة الوطنية الصينية للتنمية والإصلاح لموقع الصين اليوم، المتخصص في الشؤون الصينية، حيث عرفت البلاد معدل زيادة حضرية سنوية بلغت 1% من تعداد السكان فيما ارتفعت بـ1.9% سنوياً في بداية 2010، فيما تتوقع إحصائيات رسمية وصول عدد سكان المدن الصينية عام 2030 إلى 75% من التعداد الكلي للسكان.

يتناول البروفيسور تشانغ وي وي الذي كان أحد المقربين من قائد نهضة الصين الحديثة، "الإصلاح والانفتاح"، ديانج شياو بينج، في كتابه "الزلزال الصيني: نهضة دولة متحضرة"، قدرة الصين في توفير السكن لشعبها قائلاً: "هل نهضة الصين حقيقية إذا كانت أسعار السكن عالية بصورة هائلة، لدرجة ألا يستطيع خريجو الكليات أن يدفعوا ثمن شقة أو حتى بيت زوجية؟ ولكن أي شخص لديه معرفة بسيطة بأوضاع السكن في أي مكان آخر بالعالم، سيعرف أن الصين من الدول القليلة جداً التي يستطيع فيها خريجو الكليات وهم في منتصف العشرينيات، أن يفكروا في شراء منزل، وبإمكان أي فتاة أن تشترط بشكل علني امتلاك منزل كشرط مسبق. بصراحة، لم تصل أي دولة متقدمة إلى هذا المستوى.

فيما تبلغ نسبة امتلاك المنازل في سويسرا 36%، وغير واقعي تماماً لأغلب السويسريين أن يمتلكوا منزلاً في أوائل الثلاثين، ويتزوج أغلب الأزواج في الدول المتقدمة بمنازل الإيجار، وفي الحقيقة يبدو أن الطلب على السكن في الصين يفوق الطلب في الدول المتقدمة، توضح هذه الحقيقة الخطوات السريعة التي تلحق بها الصين الدول المتقدمة، وحتى إنها تتخطاها في مجالات متعددة". 

"السكن للجميع" 

وتقوم الصين ببناء مساكن جديدة صالحة للسكن وفق رؤية "السكن للجميع"، وهي تجري بنسق منظم لتدفق السكان من الأرياف للمدن، لمواجهة الرغبة المتزايدة للناس في تحسين ظروفهم السكنية بالمناطق الريفية، حيث جرى إلى غاية نهاية عام 2019 انتقال 62 مليون أسرة من منازل متداعية للسقوط إلى منازل آمنة بدعم كامل من الحكومة المركزية، ووصلت وفق ما ذكرته صحيفة الشعب الصينية، نسبة تمليك المساكن إلى 82%.

وأفادت الصحيفة ذاتها بأنه تقرر سنة 2020، إعادة تشكيل المنازل القديمة التي يقطنها 7 ملايين أسرة بمظهر جديد في القرى والبلدات القديمة، وسيشمل التحول المستقبلي للمجمعات الحضرية القديمة مئات الملايين من السكان، واستفاد أكثر من 38 مليون شخص محتاج بالصين من مساكن عامة للإيجار، وحصل ما يقرب من 22 مليون شخص محتاج على إعانات عامة لتأجير المساكن، وقد تم تحسين ظروف الإسكان للأسر ذات الدخل المتوسط ​​المنخفض، وتم التخفيف بشكل فعال من صعوبات الإسكان للعمال المُعينين حديثاً والذين ليس لهم سكن والعمال المهاجرين في وظائف مستقرة بالمناطق الحضرية.

لقد أدركت الصين منذ بداية عهدها الجديد، أهمية بعث تصور حداثي للمدينة وتوفير السكن لشعبها وفق خصائص الاشتراكية الصينية، تفادت فيها الأخطاء الهيكلية للتنظيم العمراني التي انتشرت بدول العالم الثالث وأدت إلى تفشي مظاهر الفوضى الحضرية وبروز مدن الصفيح والعشوائيات، كما استوعبت أخطاء تجارب الدول المتقدمة، مثل بريطانيا واليابان، والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، لتؤسس لنمط عمراني صيني محض يستجيب لحاجاتها العمرانية المتنامية، حيث نجحت في تغطية الحاجة السكانية المتسارعة في المدن والوفاء بالطلب لمختلف الشرائح الاجتماعية، كما وفرت وفق منظومة السوق سكناً بالفائض لشعبها.

سنغافورة.. الأعلى في معدل ملكية منازل بالعالم

ليست بلداً كبيراً، شاسع المساحة مترامي الأطراف، ولا تملك مناجم حديد ولا مصانع إسمنت، كانت فقيرة معزولة، تبحث عن روابط في محيطها الإقليمي الذي لفظها عام 1965 (من الوحدة مع ماليزيا)، لتقود منفردة عملية إصلاحية ذاتية، كانت وفق الرؤية البريطانية شبه مستحيلة، لكن سنغافورة المعرفة والتحدي نجحت في شق طريقها نحو العالم الأول في جميع المجالات، ولم يبنِ البلد الرأسمالي الناشئ الذي يعتمد منهج اقتصاد السوق فوارقَ اجتماعية كبرى بين أفراد الشعب، كما يحصل في الدول الرأسمالية الكبرى، حيث توجد نخبة اقتصادية فاحشة الثراء، وطبقات دنيا تغرق في أوحال التشرد والفوضى وانعدام الرعاية الاجتماعية، مثلما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، في مفارقة اقتصادية واجتماعية عكسية.

أين يعيش الأثرياء
سنغافورة/ istock

وفّرت سنغافورة لشعبها مطالبَ اجتماعية تُعتبر من بين الملفات الأهم والأبرز في المجتمعات الحديثة، وعلى رأسها السكن، حيث نجح البلد الصغير شديد الكثافة السكانية في تمليك 90% من المساكن لشعبه، بل إن بلد المليونيرات أضحى يمنح منزلاً للمتزوجين الجدد في بلد الغلاء العقاري، في مفارقة صارخة تكشف عن عبقرية التخطيط السنغافوري في مواجهة أشد التحديات الاجتماعية إلحاحاً.

مجتمع العدالة الاجتماعية.. لا مجتمع الرعاية الاجتماعية

هكذا عَنوَن لي كوان يو، قائد نهضة سنغافورة الفصل السابع من كتابه الذي لخّص فيه عظمة التجربة السنغافورية "قصة سنغافورة.. من العالم الثالث إلى العالم الأول"، حيث ينطلق قائلاً "آمنّا بالاشتراكية منهجاً، وبحق الجميع في نصيب عادل من الثروة، لكن أدركنا فيما بعد أن الباعث الذاتي والمكافآت الفردية ضرورة حيوية للاقتصاد الإنتاجي، ولأن قدرات البشر وإمكاناتهم غير متساوية بطبعها، أدركنا أيضاً أننا لو تركنا للسوق الاقتصادي وحده حرية تقييم الأداء، وتحديد مردوده، فلَسوف تكون لدينا قلة قليلة من كبار الرابحين، والعديد من متوسطي الربح، وأعداد كبيرة من الخاسرين، الأمر الذي يخلق توترات وقلاقل اجتماعية، نتيجة الإساءة للمجتمع بالعدالة".

يضيف لي: "حاولنا إقامة نوع من التوازن عن طريق إعادة توزيع الدخل القومي، وكمنت الصعوبة التي واجهتنا في إقامة التوازن الصحيح"، ليؤكد: "كان هاجسي الشخصي يتركز بالدرجة الأولى في إعطاء كل مواطن حصة في الوطن ومستقبله، أردت مجتمعاً يملك كل فرد فيه مسكنه، فقد رأيت الفرق الشاسع بين الشقق الرخيصة في مجمعات طبقيّة رديئة الخدمات والصيانة، وبين بيوت يفخر أصحابها بامتلاكها، وكنت على قناعة بأن سنغافورة سوف تنعم بمزيد من الاستقرار إن امتلكت كل عائلةٍ منزلها.. راودني القلق حول تركيبة الناخبين الذين كانوا في مجملهم من سكان المدن، وكنت أعرف كيف ينزع المقترعون في العواصم إلى التصويت دائماً ضد حكومتهم، فصممت على تحويل ساكن البيت إلى مالكه وإلا افتقدت سنغافورة الاستقرار السياسي المطلوب. الباعث المهم الآخر كان إعطاء كل الآباء حصة في الدولة السنغافورية التي يتوجب على أبنائهم حمايتها وأداء الخدمة العسكرية فيها. وإن لم تمتلك أسرة الجندي منزلها فسرعان ما يستنتج أنه يدافع عن الأغنياء وحماية ممتلكاتهم".

مخطط للإسكان.. وآليات لخفض الأسعار

عانت سنغافورة بداية من عام 1959 أزمة سكن خانقة، بينما كان الموجود من سكنات آنذاك يعتبر غير مناسب للسكن، كأكواخ ومنازل متهاوية صغيرة الحجم لا توفر سكناً كريماً للسنغافوريين، بطابقين أو ثلاثة طوابق متجمعة حول نهر سنغافورة تنقسم إلى شقق قصيرة ذات غرفة واحدة، حيث تعيش أسر بأكملها لتتبنى الحكومة السنغافورية عام 1960 إنشاء مجلس سنغافورة للإسكان والتنمية، (Housing and Development Board Singapore)، المكلف بزيادة المعروض من المنازل، للفقراء من أجل استئجارها بسرعة، تكون عالية الجودة، من خلال سقف زمني محدد في الإنجاز، بتكلفة منخفضة.

البداية من الأرض

لضمان نجاح مخطط الإسكان السنغافوري جرى تطبيق سياسة عقارية جديدة للمساهمة في خفض التكلفة، من خلال تجميع الأراضي التي فرط فيها الاستعمار البريطاني، حيث وجدت حكومة سنغافورة نسبة 40% فقط قد بقيت مملوكة للدولة، وهي نسبة لم تكن كافية لتحقيق رؤيتها في التمليك الإسكاني، حيث تم إصدار قانون الأراضي عام 1966، وتدعيمه بصلاحيات أوسع عام 1973، من خلال إعطاء لجنة مجلس الإسكان، الحق القسري في نزع الملكية وشراء الأراضي الخاصة التي تراها اللجنة مناسبة لإقامة مساكن عامة، بسعر يصل إلى 20% من قيمتها السوقية، وبطرق تعطيها الحق في التفاوض من موقع أقوى، وبشكل يحضهم على بيع أراضيهم للحكومة، لتصل نسبة ملكية الحكومة إلى 90% من الأراضي، التي ساعدت وساهمت في تنفيذ سياسات الإسكان على المدى البعيد.

خطط للتمويل

وشرعت الحكومة السنغافورية في تنفيذ أساليب جديدة في تمويل الإسكان وجعل خطة التمليك جزءاً من حياة المواطن السنغافوري عن طريق الادخار، عبر إضافة برنامج الادخار المركزي الذي يُعد صندوقاً للتقاعد في سنغافورة، يسهم فيه المواطن ورب العمل بنسب متساوية تبلغ نحو 20%، حيث يتم جمعه كوديعة لتمويل السكن المدعوم من خلال إيجاد مقاربة تتمثل في امتلاك المواطنين منازلهم مع وجود مدخرات في صندوق الادخار والخروج من النمط التقليدي لصندوق التقاعد الذي يثقل الميزانية، مع توفير عروض وخصومات للحصول على الشقة، وبعد نجاح البرنامج الحكومي، قامت سنغافورة بإدماج القطاع الخاص في المشروع، وكان النموذج الباهر الذي أثبت فيه مجلس الإسكان فعاليته هو حريق في بلدة بوكيت هو سوي عام 1961، ما أدى إلى تجريف منطقة بحجم 8 ملاعب كرة قدم، ووفاة أربعة أشخاص وتشريد 16 ألف شخص آخر، حيث تمكن المجلس في غضون عام واحد من إعادة إسكان الناجين، وبحلول منتصف العقد كانت المشاريع الجديدة للسكن في البلدة تضم 400 ألف شخص، وهو ما عزز ثقة الناس بمجلس الإسكان والحكومة ككل.

نظم وقيود للإسكان

ومن بين القرارات التي حدت من التلاعب بالمساكن، وضع المساكن للإيجار مدة 99 عاماً تعود ملكيتها للدولة بعد ذلك، وإصدار قرار يمنع المواطنين من بيع الشقق مدة خمس سنوات على الأقل، وإذا تم البيع يكون بسعر التكلفة لصالح مجلس الإسكان والتنمية، وجرى بناء الشقق وفق مخططات لاستغلال أكبر قدر من المساحة وترك حرية التشطيب عالي الجودة لشاغل السكن من خلال الاستعانة بمصممي الديكور الداخلي المحترفين، وباستخدام أفضل المواد، كما تحافظ الدولة على البنايات بشكل جيد جداً، من خلال تركيب مصاعد جديدة، وتحديث شكل الممرات والواجهات وفق بلومبرغ، وتضخ سنغافورة سنوياً 1.8 مليار دولار لتوفير شقق جديدة لتلبية الطلب المتنامي.

وساهم توفير وسائل الترفيه والخدمات من ملاعب وأماكن للطعام، ومتاجر محلية، وعيادات صحية، مع وجود مختلف أنواع النقل والمراكز المجتمعية والمكتبات، في دعم الاستقرار السكني وانعدام النزوح إلى مناطق أخرى لخلق بؤر اكتظاظ أو تمايز في الأسعار ومستوى الرفاهية المعيشية، مع دمج جميع الأعراق (صينيين، هنود وملاويين، وأعراق أخرى)، بنسب عادلة في مشاريع السكن لدعم العدالة الاجتماعية والحفاظ على الانسجام العام.

ونجح مجلس تنمية الإسكان السنغافوري في تحقيق فائض إسكاني للبلاد من خلال تطبيق سياسة تصاميم عملية وغير مكلفة وأن يتم تنفيذها بسرعة،  عبر تحديد الحصص ومنع نشوء "جيتوهات" عرقية، بحيث وفر مليون شقة اجتماعية للطبقات الفقيرة والمتوسطة والأغنياء من مختلف الأعراق، في مساحة صغيرة جداً على أرض الدولة المدينة، ويسكن خمسة ملايين نسمة في سكنات راقية ومحدثة، ويجري توفير سكنات جديدة بالفائض للشباب المقبلين على الزواج والعائلات التي ترغب في تغيير منزلها، بحيث يعتبر سوق الإسكان في سنغافورة داعماً لكل الطبقات بدون تمييز، تصل فيه أسعار شقق الطبقات الدنيا والمتوسطة من نحو 200 ألف دولار إلى مليون دولار أمريكي، بينما تبلغ فيها شقق الطبقات الغنية إلى حدود 54 مليون دولار أمريكي في المواقع والأماكن الراقية جداً.

مفارقة النماذج

تكمن المفارقة في كل ما أنجز بالصين وسنغافورة في مقاربة التعداد السكاني الهائل في الصين، والمساحة الصغيرة لسنغافورة، حيث نجح كلا البلدين في تحقيق الإسكان بالفائض، رغم ما لديهما من تحديات ضخمة، فالصين مولت عدداً هائلاً من السكنات وهو ما مثّل تحدياً اقتصادياً وتمويلياً ضخماً على بلد صاعد، فيما تمكنت سنغافورة من توفير سكن راقٍ لكل السكان رغم غلاء العقار الفاحش في البلاد.

ويعود نجاح كلا البلدين في تحقيق هاته القفزة المُهمة من الرعاية الاجتماعية في مجال السكن، إلى بنائهما اقتصاداً تنافسياً ذا حركية تجارية متنامية ساهمت في توفير التمويل الحكومي لإنجاز السكنات، وهو ما انعكس إيجاباً على قدرة المواطنين على التسديد والشراء، خاصة مع ازدهار القطاع الصناعي وتنامي مستوى التجارة الخارجية، فهل يمكن أن نستفيد؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيف الدين قداش
صحفي جزائري
صحفي جزائري متخصص في الاقتصاد والجيوبولتيك
تحميل المزيد