إذا كانت بدلة النقيب الفرنسي هنري دو بورنازيل قد استأثرت بالحظ الوافر من الروايات، حيث نُسجت حولها الأساطير ونُسبت إليها الخوارق والمعجزات من قبيل أنها مضادة للرصاص وأنها تحمل "البركة" وتدفع الموت والأذى عن صاحبها، فإن مقتل هذا الضابط الفرنسي المشهور في الذاكرة الجماعية للجنوب الشرقي باسم "بورنازيل" تتضارب بخصوصه هو الآخر روايات مثيرة.
قبل سرد إحدى أشهر هذه الروايات المتداولة عن مقتل بورنازيل، لا بأس من التذكير ببعض المعلومات عن هذا الجندي الفرنسي الذي اعتبرته الصحافة الفرنسية ذات زمان، أشهر جندي فرنسي مر بالمغرب.
وُلد هنري دو بورنازيل المشهور باسم "الرجل الأحمر"، في 21 فبراير/شباط 1898، بمدينة ليموج الفرنسية، وتطوع في الحرب العالمية الأولى ضمن الجيش الفرنسي، وفيها أبان عن قدرات قتالية هائلة، الأمر الذي عجَّل بإرساله إلى المغرب سنة 1921 ضمن ما كان يُعرف حينذاك بمكتب الشؤون الأهلية.
لم يكن تعيين دو بورنازيل في المغرب ذا طابع سياسي دبلوماسي، بل كانت الغاية من هذا التعيين حربية وعسكرية بالدرجة الأولى، إذ شارك حسب ما أورده الباحث ميمون أم العيد في مقال له بعنوان "بورنازيل..الرجل الأحمر الذي رصد الخطابي مكافاة مُقابل رأسه"، في قتال المغاربة بعدة مناطق ابتداء من 1923 بنواحي تازة وفاس ومنطقة تافيلالت سنتي 1931 و1932. وفي 1933 التحق بجبال صاغرو للمشاركة في معركة بوكافر التي خاضتها قبائل أيت عطا ضد الجيش الفرنسي، وهناك ستكون نهاية الرجل الأحمر الذي أشبع المغاربة قتلاً، وذلك يوم الجمعة 28 فبراير/شباط 1933.
تقول الرواية الأكثر تداولاً عن مقتل بورنازيل، إنه لما كانت بدلته مضادة للرصاص، ولما أعيت محاولات القضاء عليه أشهرَ قناصة أيت عطا، فإن هذا الأمر دفع مقاتلي بوكافر إلى التفكير في حل لهذه المعضلة والنجاح في وضع نهاية لهذا السفاح الفرنسي الذي أشبع المغاربة قتلاً.
تمضي والدتي- رحمها الله- في سرد هذه الرواية المشوقة نقلاً عن والدتها التي حضرت تلك الأحداث، قائلة إنه بعدما عجز مقاتلو أيت عطا وقبلهم مقاومو الريف في قتل بورنازيل، جاء الفرج في ذلك اليوم المشهود 28 فبراير/شباط من 1933، عندما اهتدى أحد مقاتلي أيت عيسى وبراهيم، وهي إحدى فخذات قبيلة أيت عطا، إلى حل وضع به خط النهاية لأسطورة مرعبة اسمها "بورنازيل".
لم يكن الحل غير رصاصة تصنع من الفضة، ولكن من أين لهذا المقاتل بها؟
لم يحتج صاحبنا إلى كثير من التفكير وهو الذي مرنته حياة الحاجة والترحال على تدبير أموره بأي طريقة، فاقترح على رفاقه جمع خواتمهم الفضية لصناعة رصاصة تضع حداً لهذا الشبح المرعب.
تمضي الرواية في سرد تلك الأحداث الدراماتيكية، موردةً أن نساء بوكافر اللواتي ساهمن ببسالة منقطعة النظير إلى جانب إخوانهن بطرق شتى في القتال، أسرعن عندما سمعن هذا المقترح إلى نزع دمالجهن وخواتمهن الفضية، لأن الرجال لم يكونوا يتوفرون عليها، ثم تم تسليمها للمقاوم صاحب الفكرة.
في تلك الأجواء المشحونة بالرعب والانتظار، لم تمر سوى لحظات قليلة حتى أحال مقاتل أيت عيسى وبراهيم أساور المقاتلات "العيساويات" إلى رصاصات فضية تسطع لمعاناً.
حشا بندقيته التقليدية بما استطاع جوفها حمله من الرصاصات الفضية، وفي غفلة من الجميع ومن بورنازيل المتعجرف والمغرور بسلهامه السحري، انطلقت واحدة منها بسرعة البرق لتخترق بطنه دون أن تترك له فرصة ولا بصيصاً ولو ضئيلاً من الأمل للنجاة.
تردف هذه الرواية أن الرجل "العيساوي" لم يكن بحاجة لأكثر من رصاصة واحدة لإقبار بورنازيل ومحوه من الوجود، حيث كان أول درس يتعلمه مقاتلو بوكافر هو الاقتصاد في الرصاص؛ نظراً إلى ندرته، فكان مبدأهم "كل رصاصة بقتيل فرنسي"، أما الرواية الفرنسية فتقول إن بورنازيل أصيب برصاصة أولى لكنه ظل صامداً ليتلقى ثانية نُقل على أثرها إلى خيمة طبية ليلفظ أنفاسه الأخيرة.
تعالت الزغاريد مترددة بين قمم بوكافر احتفاءً بمقتل الطاغية الأكبر، ولكن في مقابل ذلك فقد سبب مقتل بورنازيل هيجاناً فرنسياً، حيث جُنَّ جنون جنرالاتها الذين قرروا حرق الأرض واليابس في واحدة من أكبر جرائم القرن العشرين.
قد تبدو هذه الرواية سخيفة ولا يقبلها عقل، إذ سيتساءل سائل: كيف ينجح مقاتل من البدو الرحل لم يعرف الطريق إلى المدرسة يوماً ولم يدرس المعادن ولا مكوناتها في صنع رصاصة فضية من الدمالج، لا، بل كيف خطرت له هذه الفكرة الجهنمية على البال؟
لكن الحقيقة أن رواية "الرصاصة الفضية" ليست أسطورة ولا محض كذب، بل حقيقة اعترفت بها فرنسا نفسها، ففي هذا الصدد أورد الباحث باعلي إبراهيم في مقال له بعنوان "بوغافر المعلمة البارزة للمقاومة المغربية ضد الاستعمار.. الحدث والنتائج"، منشور من طرف المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير ضمن نشرة الذكرى الـ65 لمعركة بوكافر سنة 2001، (أورد) أن الرواية الفرنسية تقول إن القبطان بورنازيل مات بعد إصابته برصاصة فضية.
يبدو أن اللجوء إلى استعمال الرصاصة الفضية "كآخر دواء"، مرده إلى المعتقدات الشعبية السائدة عند كثير من الشعوب وضمنها الأمازيغ، حيث تعتبر طاقة الفضة ومفعولها السحري السلاح الوحيد القادر على القضاء بشكل نهائي على المغرورين والسحرة والمستئذبين وغيرهم من الوحوش المستعصية على القتل، غير أنه من الناحية العلمية يبقى سبب مقتل بورنازيل بتلك الرصاصة الفضية مفتوحاً على كل الاحتمالات، فربما كان بورنازيل يرتدي درعاً مصنوعة خصوصاً ضد الرصاص النحاسي وليس ضد الفضة، وربما أن مقتله لم تكن له علاقة لا بالفضة ولا بغيرها، إنما ببساطة لأن القناص الذي قتله نجح في إصابته في مكان لم يكن تشمله الدرع كالكتف مثلاً، وهذا ما رواه الطبيب الفرنسي الذي حضر حادث مقتل بورنازيل، حيث قال ما مفاده إن مقتل بورنازيل كان بسبب إصابة أولى في جانبه الأيمن فطلقة ثانية في ذراعه اليمنى، خرَّ لها صريعاً مضرجاً في دمائه ومعلنةً نهاية أسطورة اسمها بورنازيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.