أما وقد انتهى الاحتفال بعيد العشاق بكل هياج لونه الأحمر، ومشاعره المفرطة، ومنافساته في التباهي والظهور، وبعد أن امتلأت أعيننا بصور العاشقين وقُبلاتهم الملتهبة، فقد أتى أوان العاتبين على الحب لتكون لهم كلمة، الحاملين للندوب والخَيبات، المتعثرين في مشاعرهم، أوَلَيس لهم الحق في أن يُسمع لهم صوت مرافعة أمام محكمة عادلة، أمام الوسادة، فهي شاهدنا والحكم العدل، كم شهِدت من دموعٍ وأفراحٍ، وكم سمعت من أسرارٍ ونذور.
تقول أمي إن حديث الوسادة بين العاشقين هو أصدق حديث، حديث السكينة والاشتياق، حين تسرّ الشفاه للشفاه، ويلتصق الرأس بالرأس، والجسد بالجسد. ولذا لا تفرط في وسادتك ولو كانت خالية.
هذا عتاب
عتابنا يليق به أن يبدأ بأبيات لمجنون ليلى، ليعرف الحب أننا نعلم قدره ونُجلّه، يقول المجنون العاشق "يقولون ليلى عذّبتْكَ بحبِّها/ ألَا حبَّذا ذاكَ الحبيبُ المعذِّبُ"، عشق لا حدود لاحتمال الألم فيه، وهيام لا رجوع عنه يليق بعاشق ذهب بعض عقله حباً.
ويقول عمرو بن ربيعة "إذا أَنتَ لَم تَعشَق وَلَم تَدرِ مَا الهَوى/ فَكُن حَجَراً مِن يابِس الصَّخر جَلمَدا". وكم من القلوب كالحجارة أو أقسى.
لكن هذا التوق للعذابات ينتهي بمشهد من فيلم الوسادة الخالية، حكاية حب حزين عذري، عن قصة تحمل الاسم نفسه للكاتب إحسان عبد القدوس، يفتتحها بالحديث عن الوهم الكبير أو الحب الأول، رأينا الوسادة الخالية في أحضان عبد الحليم حافظ، أو صلاح، كانت تحمل صورة معذبته وحبيبته سميحة، الجميلة التي شكلت وهم الحب الأول لجيل بكامله، وربما وهم الحب نفسه، لماذا أحببنا عذوبة الحب البريء ونسينا لوعته.
يتحدث صلاح إلى وسادته الخالية، شاهده العدل، ويبثها لواعج قلبه، ثم ينوح ويبكينا معه "فين راح الشوق من قلبه، والرقة والحنية، اللي هيتهنى بحبه لو يعرف يبكي عليَّا".. كاد صلاح انسياقاً وراء وهمه أن يضيع حياته، وفرصته الأخيرة في الفرار من شَرَك الحب الأول، لكن القدر منحه فرصةً ثانيةً لينزع عن قلبه أغلال وهمه، ولنستمع في لحظة وجد بصوت عبد الحليم حافظ لنصيحة مأمون الشناوي "إوعى يا قلبي تحب تاني".
ما الحب؟ ولماذا الشعور بالذنب أو العار بسبب عدم نجاحه؟
سألت صديقي المقرب جوجل، فأخبرني بأن المشاعر التي يُحسّها المرء في المراحل الأولى من الحب الحقيقي قد تبدو عفوية، يعرفها من اكتوى بنار الحب حتى فقد لذة العيش من دون من يهوى، لكن الواقع أكثر تعقيداً، فوراء ذلك تداخلات فيسيولوجية معقدة، مع هرمونات تجعل هذه الأحاسيس أعجوبة صغيرة في هذا العالم.
يعرّفون العشق فيقولون إنّه "الميْل الدائم بالقلب الهائم، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب حضوراً وغياباً، وإيثار ما يريده المحبوب على ما عداه، والطواعية الكاملة، والذكر الدائم وعدم السلوان. ويترتّب عليه عمى القلب عن رؤية غير المحبوب، وصَمَمه عن سماع العذل فيه".
لعل في الحب شيئاً من القضاء والقدر، القرينة على ذلك هي أن نسأل أسئلة مثل: لماذا أحبَّ فلانٌ فلانة؟ لماذا هي بالذات؟ هل لأنها جميلة؟ هناك الكثير من الجميلات، هل لأنها ذكية؟ هنالك الكثير من الذكيات، إذاً هي المصادفة أو هو القضاء و القدر.
وذكر ابن القيم: "قد رُفع إلى ابن عباس وهو بيوم عرفة شابٌّ قد انتحل حتى عاد عظماً بلا لحم، فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق. فجعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق كل يومه".
وقال ابن القيم رحمه الله: "هذا مرض من أمراض القلب، مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه ، وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء دواؤه، وأعيى العليل داؤه".
الحب بحث دائم عن الاكتمال، فكل نقص فيه يبتلع بعضاً منا، ويشعرنا بالفراغ، بالبرودة، وكأن بعض أعضائنا مفقود من دون حرب. يلومك اللائمون، ويعذرك المجربون، لكن لا أحد ينقذك من لهيبك، أنت وحدك بقدميك الحافيتين، وقلبك العاري، تعرف ما حدث.
ماذا منحنا الحب لنتباكى عليه؟
الحب يمكن استدعاؤه كسلاح أمضى، فجأة بحضوره يحل السلام في الأنفس الغاضبة، وتعفو عمن ظلمك، وتستسلم أشرس القلوب وتستكين لسكرته، لكنها شذرة عطر تبتلعها الريح، أو نسمة باردة في يوم قيظ يذهب بها الهجير، منحنا الحب شهيقاً قصيراً حلواً، لم يعد كافياً ليصمد أمام وجه الحياة الكاسر.
أتذكّر شخصاً ما أهداني شيئاً يوماً ما، ذلك الشيء كان رمزاً يحمل معنى، الشيء هنا، والشخص هنا، لكن أين ذهب ذلك المعنى، ذاك الحب أمسى خبراً وحديثاً من أحاديث الجوى، كما في أطلال أم كلثوم.
كانت بين جبران ومي زيادة علاقة روحية، تحولت إلى حب بمرور الأيام عن طريق المراسلة، بقيت تُراسله 20 عاماً دون لقاء، وقد عُثر بين محفوظات مي على صورة لجبران، وكانت تلجأ اليها حين يشق عليها الوجد، وقد كتبت مي بخط يدها إلى جانب الصورة: "هذه مصيبتي منذ أعوام". ليتكِ يا مي ترين مصائب هذا الزمان؛ كي تهون عليكِ مصيبتك.
يسألونك عن الحب
هو اندفاع جسد إلى جسد، وروح إلى روح، فلئن سأل سائل: ما هي الروح؟ "قل الروح من أمر ربّي".
هكذا هدأت الروح إلى أن أمرها كله بيد الله، واستقرت، فليبق الحب كامناً في شقوق الوسادة أو يرحل عنّا في سلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.