جارة القمر.. ماذا لو لم تقع فيروز في أسر “الرحابنة”؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/16 الساعة 10:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/16 الساعة 10:50 بتوقيت غرينتش

لم أشهد في حياتي صوتاً تبدد هباءً كالدخان، مثلما حصل مع صوت فيروز الملائكي، فقد كتبت من قبل عن الفرصة الضائعة والخسارة الكبيرة التي نتجت عنها لعدم تمكن الموسيقار بليغ حمدي من التلحين لفيروز بعضاً من روائعه. الذي جعل هذه الخسارة أخف وطأة، نجاح الموسيقار محمد عبد الوهاب في تجاوز الحصار الرحباني، ولو لفترة قصيرة، مما سمح له بتلحين 3 أغانٍ رائعة لفيروز، وهي: "سهار بعد سهار"، و"سكن الليل"، و"مُرّ بي". هذا التطور جاء تدريجياً، فقد صرّح الأخوان رحباني في حديثٍ صحفي بأنهما كانا منذ الصغر من أشد المعجبين بموسيقار الأجيال، فقد كانا يستمعان لأغانيه من فونوغراف أبيهما، واقترحا عليه عند لقائهما به بعد فترة طويلة، بأن يقوم بإعادة تسجيل عملين قديمين له بتوزيعٍ جديد وغناء فيروز، وبالتالي خرجت إلى النور أغنية "خايف أقول اللي في قلبي"، و"يا جارة الوادي". لم يقتنع محمد عبد الوهاب، ولم يكتفِ بإعادة تسجيل أغانيه القديمة بصوت فيروز، فقدّم لها الروائع الثلاث المذكورة سابقاً، ويكفي فيروز فخراً أنها أدت الثلاثية الوهَّابية بامتياز، وسَمَتْ فيها إلى مراتب عليا أثيرية مألوفة لدى الملائكة فقط.      

عند مشاهدتي للمقابلات النادرة معها أحسست بأن شخصيتها هشَّة ورقيقة وقابلة للكسر مثل الكريستال، ولكنها بنفس الوقت، صارمة وحاسمة، سيطرتها كاملة على مشاعر حب الذات والأنا، وصُعقت تماماً من مدى تواضعها وبساطتها، وشعرت بالاشمئزاز عند مقارنتي سلوك هذه الأسطورة بالمهازل التي نراها يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي من قِبل المشاهير من الفنانين في بلادنا العربية، وحتى عامَّة الناس عن طريق تطبيقات التيك توك وغيرها.

أحبَّت طفولتها كثيراً مع أنها كانت تعيش مع عائلتها في بيتٍ صغيرٍ بسيط في حارة "زقاق البلاط"، في إحدى ضواحي بيروت البعيدة، وكانت شديدة التعلق بجدتها وتمضي العطلة الصيفية معها في منطقة "الشوف" الجبلية. لم تلعب هناك مع بقية الأطفال، لأنها كانت فتاة صغيرة خجولة، كذلك، لانشغالها معظم الوقت بالأعمال المنزلية، كجلب الماء من العَيْن، فكانت تسمع في طريق الذهاب والإياب، أغاني أسمهان وفريد الأطرش وليلى مراد، وهي تصدح من شبابيك منازل الجيران، فتضطر إلى حفظها مباشرة؛ لأن جدتها لا تملك جهاز راديو.

بدأ إعجابي بفن فيروز وعمري لا يتجاوز الخمس سنين، وبالذات ولعي بأغنيتها "قمرة يا قمرة"، فقد كانت تجذبني فوراً عند سماعي لمقدمتها المثيرة، وكنت أشعر بأجواء العيد فوراً في غير حينها، وعندما ينساب صوت فيروز الناعم، قائلةً: قمرة يا قمرة، كنت أترك ما في يديَّ من ألعاب، وأنصت بإجلال لتلك التجربة الموسيقية العجيبة، وأحتار إذا كانت "القمرة" التي تغني لها فيروز، هو نفسه القمر الذي أراه في بعض الليالي مضيئاً وجميلاً في السماء، وأتساءل: كيف ينزل هذا القمر البعيد إلى الشجرة؟ وكانت تنتهي الأغنية وأنا ضائعة في أفكاري الطفولية الساذجة. أريد أن أوضِّح هنا أني أتذكر هذه الأحداث بكل دقة، مع أنها حصلت في فترة الطفولة، لأن لديَّ ذاكرة انتقائية، وأستطيع استرجاع بعض الأحداث التي يعتبرها دماغي مهمة منذ سن الرابعة، ولا أعلم كيف، ولماذا؟!

انفردت فيروز بين أهل الطرب بأنها لم تُغَنِّ للحكام، بل للأوطان، وعلى مر الأزمان. كانت هناك علاقة خاصة بين فيروز والأردن، فقد كبرت وأنا أسمع روائعها عن بلدي الأردن، مثل، أردن أرض العَزْم، عمان هذا الضحى، قصتنا الكبيرة، ولكن الأغنية الوطنية الفيروزية التي تعبّر فعلياً عن مشاعري المتضاربة لبعض ما أشهد في وطني، وعندما أسمعها يرتجف قلبي خوفاً عليه، وأقاوم دمعةً تُعبّر عن مدى حبي له، هي "عمان في القلب". كنت دائماً أنتقد الأخوين رحباني، بأن ألحانهما لفيروز تفتقر إلى الطرب والشَّجن، مع أنه لا يحق لي أو لغيري فعل ذلك. الذي يُحَّيرني أنهم أثبتوا خطأ تقديري من خلال تلحين قصيدة للشاعر العظيم "سعيد عقل" يعبّر فيها عن حقيقة العشق الأردني "غريب الأطوار" لعاصمتهم "عمّان" بقوله في مطلعها: (عَمّانُ في القلب أنتِ الجمرُ والْجَاهُ)، هذه القصيدة بالنسبة لي إحدى 3 قصائد يستعصي عليَّ للآن فهم معانيها بالكامل، ولكني أستلذ معرفة مكنونات كلماتها بعد كل قراءةٍ جديدة، والقصيدتان الأخريان، هما، الأطلال، وأنا وليلى. هذه الأغنية تفوّق فيها الأخوان رحباني بدمج الكلمات المعقدة البليغة باللحن الكلاسيكي الوطني والذي ينقلب فجأة إلى لحن طربٍ عربي، ثم يتناوب صوت الأسطورة فيروز والجوقة المرافقة لها بتلاوة شعر سعيد عقل، ولكن بتناغم وانسياب لا مثيل له. أقع في الحيرة عندما أتساءل كيف استطاع شاعر لبناني أن يعبر بدقةٍ عجيبة عن مكنونات قلوب الأردنيين ومشاعرهم الجياشة حيال وطنهم، الذي هو في حجم بعض الورد، وكيف أن الرحابنة كتبوا ذلك اللحن العجيب الذي يجمع بين أكثر من مدرسة موسيقية، واستطاعت فيروز بصوتها أن تدمج جميع تلك المتغيرات والمتناقضات في أداءٍ نادرٍ تتجلى عظمته في النهاية عندما يرتقي صوتها العذب تدريجياً قائلةً: (مُشَبَّهٌ لِيَ يا عمّان… يا وَجَعي… وُجِدْتِ أنتِ… فَلا جُرحٌ ولا آهُ). 

 هناك أمر آخر عن فيروز حيَّرني كثيراً، وهو انقيادها وقبولها لاحتكار صوتها من قبل الأخوين عاصي ومنصور، وبعدهما ابنها زياد، ووضعهم العراقيل حتى أمام الملحنين اللبنانيين. اكتشفت مؤخراً أن أكثر الأغاني الفيروزية التي تعجبني وتطربني هي لشيخ الملحنين "فيلمون وهبي"، كما يسمونه في لبنان، والذي ظلمناه ولم ننصفه ليومنا هذا، ربما لجهلنا أنه صاحب روائع عديدة ومنها: جايبلي سلام وصَيِّفْ يا صَيْف وكتبنا وما كتبنا وعالطاحونة شفتك عالطاحونة وليلية بترجع يا ليل وفايق يا هوى ومن عز النوم. أشعر عند سماعي للأغاني التي لحنها العظيم فيلمون وهبي لمطربتنا فيروز، بأنه نجح في صياغة وتطوير ألحان فلكلورية لبنانية أصيلة من العتابا والميجانا والزجل، والتي كان يرددها اللبنانيون في أفراحهم وسهراتهم، بحيث تجذب السامع فوراً لجمالها وسلاستها. أفكر كثيراً في البحث عن هذا العبقري المَنْسيّ في تاريخ الغناء والطرب العربي، ولكني أخاف ألا أجد ما أتوق إلى اكتشافه؛ لأننا ظلمنا مبدعينا بعدم توثيق إرثهم للأجيال القادمة.

عندما سألت مرة والدي: لماذا قام بتسمية إحدى أخواتي، فيروز، أجابني: لأنه يحب أغاني فيروز وصوتها. المشكلة أن أختي فيروز لا تحب سماع أغاني المطربة فيروز، فهي تقول إنها حزينة وتبعث على اليأس، ونهاياتها غير سعيدة. أظن أن وجهة نظرها صائبة فيما يتعلق ببعض أغاني فيروز، فمثلاً، في أغنيتها "قديش كان في ناس" تقول فيروز: 

قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس
وتشتِّي الدنيا ويحملوا شمسية
وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني

صار لي شي مِيِّة سنة مشلوحه بهالدكان
ضجرت مني الحيطان ومستحية تقول

أما أغنية "شادي"، فهي فعلاً درامية وكئيبة، نعم إن معانيها رمزية، وظننت للوهلة الأولى أنها تتحدث عن الحرب الأهلية في لبنان ومآسيها، ولكني اكتشفت أن تاريخ إصدارها كان في عام 1970، والحرب الأهلية اللبنانية حدثت خلال الفترة (1975-1990). تقول فيها فيروز:

وعلقت ع  أطراف الوادي
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت انده له
وينك رايح يا شادي
انده له وما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي
ومن يومتها ما عدت شفته
ضاع شادي

عندما كنت أسمعها في صغري، كنت أظن أن شادي لم يرجع لأنه ضاع في الوادي، ولكني عندما كبرت، استوعبت حقيقة مقتله خلال الصراع الذي كان يدور بين جماعتين في الوادي، ولكن المقطع الذي ليومنا هذا يبعث القشعريرة في جسدي، وأحس عند سماعي له أني أشاهد مقطعاً من أفلام ستيفن كينج (ٍStephen King) المرعبة، فهو:

 والثلج إجا وراح الثلج
عشرين مرة إجا وراح الثلج
وانا صرت أكبر وشادي بعده صغير
عم يلعب عالثلج…عالثلج

عموماً، أنا أتجنب سماع أغانيها الحزينة، لأن معانيها تصل إلى أخفض بقعة في القلب- وليس شرطاً أن يكون وحيداً- ثم تسحق بقايا الأمل فيه، وأتساءل دائماً، هل عانى عاصي ومنصور من آلام العزلة ليكتبا مثل هذه الكلمات والألحان الحزينة، فمعروف أن المبدعين والعباقرة يلاقون صعوبة في الاندماج مع أمثالنا من البشر العاديين، وأذكر أن فيروز قالت في أحد لقاءاتها الصحفية النادرة، إن الفجر كان يطلع دون أن يشعر الثلاثي بذلك لانشغالهم التام في الاستوديو في خلق الروائع الغنائية.

 عندما أتكلم عن علاقة زياد الرحباني بفيروز، أشعر دائماً بأن رأيي فيه بعيد عن الموضوعية، لتحاملي عليه كثيراً لأني أعتقد أنه لم يستغل صوت فيروز كما يجب، ولم يعط الفرصة لغيره للتعاون معها. أنا لا أنكر أنه الوحيد الذي ورث الجينات الفنية بين بنات وأبناء فيروز وعاصي، والأدلة كثيرة، فقد تجمعت لدى زياد مواهب عديدة، منها كتابة الشعر والموسيقى والعزف، وعلى مستوى رفيع، وتَجَلَّتْ خصوصاً في إنتاجه القديم الذي كان قريباً من القلب والوجدان مع بعض الاقتباسات البسيطة، وكان عمره لا يتجاوز الـ17 عندما لحَّن لأول مرة لوالدته الأغنية الرائعة "سألوني الناس". بعد ذلك توالت الألحان المخصصة لفيروز طيلة عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكانت المفضلة لديَّ، قديش كان في ناس ويا جبل الشيخ وعهدير البوسطة، أما الأغاني التي لحنها زياد لفيروز ما بعد الألفين، فأجد أنه استغل فيها صوتها فقط؛ ليشبع شغفه وحبه لموسيقى الجاز. 

فاجأت فيروز جمهورها العريض الوفِيّ في شهر أيلول من عام 2017، وبعد انقطاعٍ طويل، بإطلاق ألبوم جديد بعنوان "ببالي"، وكان يتضمن 10 أغنيات مقتبسة ألحانها وكلماتها عن أغنيات غربية من ستينيات القرن الماضي، وبإشراف ابنتها المخرجة ريما الرحباني. جمهور فيروز والنقاد اعتبروا الألبوم خيبة أمل، واستغربوا كيف قبلت فيروز المُضي في هذه التجربة الغنائية التي لا تليق بمستواها وإرثها. نسي الجمهور والنقاد أن عمر فيروز قد تجاوز الثمانين، وأنه ممكن تسمية زياد بالحاضر الغائب، وأن ساحة الغناء العربي تخلو حرفياً من الملحنين المبدعين.أظن أن هذه الانتكاسة لن تؤثر بتاتاً على إنجازات فيروز بمنحها المستمعين لسنواتٍ طويلة خالص المتعة الفنية الرفيعة، فكما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش: (فيروز هي الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر)، وأنا أقول إن صوتها المخملي الساحر سيظل في ذاكرتنا، وستحافظ على القمة التي تربّعت عليها لأجيال قادمة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

جنارا مراد
كاتبة مهتمة بالثقافة والفن والسياسة
كاتبة مهتمة بالثقافة والفن والسياسة
تحميل المزيد