غداة وصولِه إلى البلاد صبيحة الخميس الماضي ولقائه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"، إلى جانب لقاء قادة "قوى الحرية والتغيير" وما تعرف بالكتلة الديمقراطية برئاسة جبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، ووزير المالية في حكومة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر.
فجرت الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى الخرطوم مفاجأة مدوية للقاهرة، من حيث التوقيت، بعد التوتر الكبير الذي شهدته العلاقات بين البلدين منذ العام 2020، طوت هذه الزيارة الاستثنائية المستعجلة لآبي أحمد صفحة قديمة، وأجرت الكثير من المياه الراكدة، وأذابت الجليد، بعد أيام فقط من دخولِ القاهرة خط الأزمة في السودان.
هذا ما ذهبت إليه معظم تحليلات المراقبين، وأفادت به بعض التقارير موثوقة المصادر بأن القاهرة كانت على علمٍ بالزيارة؛ لكن يكمن قلقها اليوم ليس حيال كل تلك التصريحات الصحفية المشتركة، التي أدلى بها "البرهان" وضيفه، عقب انتهاء المحادثات المتعلقة بعودة العلاقات إلى طبيعتها، بعد توتر كبير كان قد شهدته الفترات السابقة وحسب؛ بل في اعتقادي الذي أثار استهجان الإخوة المصريين في وسائل الإعلام، التصريحات الصريحة حول قضية سد النهضة "مربط الفرس"، والتي كانت حاضرة في الخرطوم ضمن أجندة الزيارة غير الأمنية فقط لرئيس الوزراء الإثيوبي ووفده المكون من مدير المخابرات ووزير الدفاع ونائب وزير الخارجية والإتصال.
وهم الذين التقوا بطيف واسع من أطراف الأزمة السياسية والأمنية بالبلاد من مدنيين وعسكريين، وناقشوا معهم تطورات الوضع الراهن؛ لا سيما ما عرف بـ"الاتفاق الإطاري" الذي ترعاه الرباعية الدولية، متمثلة في الولايات المتحدة الأميركية، وبعثة "يونيتامس" التي توفر غطاء دولياً لتقريب وجهات نظر الفرقاء السودانيين، وقادتهم إلى توقيع الاتفاق الأخير رغم التباينات حوله.
السودان دولة ذات سيادة وحكم طبيعي، ومنطقي جداً أن تجتمع دولتان لمناقشة قضايا ثنائية بينهما ومعالجة القضايا العالقة بينهما وسد الثغرات دبلوماسياً وأمنياً، ولا مانع في ذلك.
قال آبي أحمد في تصريحات نقلتها وكالة السودان للأنباء (سونا): "إن الغرض من الزيارة هو إظهار التضامن مع السودان والوقوف معه في هذه المرحلة المهمة في مسيرته السياسية، وأن البلدين يزخران بكل عناصر التنمية والازدهار المتمثلة في المياه والأرض والموارد البشرية، مشدداً على ضرورة الاستفادة من تجربة (الحرب) في البلدين التي أدت إلى انفصال جنوب السودان والحرب في إقليم تيغراي. واللجوء للحوار في كافة القضايا الداخلية، مؤكداً أن سد النهضة لن يسبب أي ضرر للسودان، بل سيعود عليه بالنفع في مجال الكهرباء".
ولمَ لا نعزز من علاقاتنا مع الجارة إثيوبيا طالما تعود بالنفع على بلادنا، وعلاقاتنا مع إثيوبيا أزلية لا يمكن تجاوزها، وتكون نهايتها القطيعة والتحركات العسكرية. نعم الجميع يتفهم ذلك للحفاظ على مصالحه وأمنه القومي دون تفريط، وهذا متفق عليه.
من جانبه، قال البرهان: "إن السودان وإثيوبيا متفقان ومتوافقان حول كافة قضايا سد النهضة الإثيوبي". وشدد على "ضرورة تعزيز التعاون والتنسيق المشترك بين السودان وإثيوبيا في القضايا الثنائية إقليمياً ودولياً".
وبقي سؤال إخوتنا المصريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرسمية، الذين تساءلوا باستهجان: "السودان وإثيوبيا اتفقا حول كافة قضايا سد النهضة الإثيوبي.. لكن أين موقع مصر من هذه الاتفاقات؟".
يرى الكاتب الصحفي المهتم بالشأن الإفريقي محمد مصطفى جامع أن زيارة آبي أحمد في هذا التوقيت المقصود منها التصدي للتحركات المصرية في السودان، والملاحظ أن آبي أحمد أصطحب معه عدة مسؤولين كبار مثل وزير الخارجية ومدير المخابرات، والتقى بعدة كتل سياسية غير البرهان وحميدتي، على عكس النظام المصري الذي يتعامل مع السودان كملف أمني فقط ويكتفي بإرسال مدير المخابرات لدعم موقف البرهان ومحاولة صناعة كتلة موالية له من الحركات المسلحة والاتحادي الديمقراطي.
أما بشأن سد النهضة، فقال الكاتب نفسه: سد النهضة لا يزال أمامه مشوار طويل؛ نظراً لنقص التمويل وتضرر البلاد من الحرب التي انتهت باتفاقية "بريتوريا للسلام"، وزاد عموماً اعتبار الزيارة محاولة من آبي أحمد لاستعادة الثقل الدبلوماسي لإثيوبيا بعد أن تضررت مكانتها جراء الحرب والاتهامات التي وجهت لحكومته بارتكاب جرائم حرب في تيغراي.
وهنا الذي يجب أن تتفهمه الأوساط السياسية المصرية، فالوقت ليس في صالحها لاعتماد سياسة دعم أطراف على حساب أخرى. فإثيوبيا التي استفادت من تجربتها السابقة في دعم كافة الأطراف دون الميول لصنع أطراف أخرى كفيلة اليوم، بأن تنجح أيضاً في خلط الأوراق.
والشاهد على ذلك عندما توسطت في العام 2020 بين قوى "الحرية والتغيير" والعسكريين ونجحت وساطتها، وهي التي أدت إلى نجاح سياسي بموجبه تشكلت الحكومة المدنية قصيرة الأمد بقيادة عبدالله حمدوك رئيساً للوزراء، قبل أن ينقض عليها الانقلاب العسكري المدعوم من نظام مصر.
اليوم هنالك رؤية جديدة بين السودان وإثيوبيا اعتمدت على سياسة عدم التصعيد الإعلامي، وقد تكون هناك تنازلات أيضاً جرت خلال الزيارة التي قام بها البرهان إلى أثيوبيا خلال الفترة السابقة كما يقول مراقبون، وهي التي مهدت الطريق لكل هذا الشأن.
وأمام القوى السياسية في البلاد مشهد معقد يحتاج لتفاهمات مشتركة تنهي حالة "الانقلاب" واستعادة مسار التحول الديمقراطي دون تقاطعات ومطامع تسعى إليها بعض الدول لتعزيز ثقل تأثيرها على المشهد من جانب واحد.أقول: لا سبيل للسياسيين السودانيين غير المُضي نحو تعزيز كل قواهم لإنهاء الأزمة السياسية، وقطع الطريق أمام عودة الطامعين في السلطة، وتشكيل حكومة مدنية تُسير دولاب الدولة، وتنهي كافة الأزمات التي يعانيها المواطن، ولا تجد من يضع لها الأولوية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.