لا يسعنا ونحن نراقب عن كثب أزمة قطاع التعليم بالمغرب سوى أن نتساءل عن النتائج الكارثية التي لا بد لها أن تتمخّض عن هذه الأزمة، زد على ذلك تراكمات سنوات مديدة من الفشل الذريع للنظام الجامعي المغربي الذي فقد ثقة الأغلبية الساحقة من المواطنين. وبينما تتعالى الأصوات التي تدعو إلى التجديد والتغيير الجذري لنظام تعليمي لا يمثل رؤية الشعب المغربي وتصوراته، نظام يعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، تظل المجهودات المبذولة غير كافية لتحقيق تغيير جذري من شأنه أن يقوّي قطاع التعليم وينهض بهذا المجال.
ما هي إذاً مظاهر هذه الأزمة؟
تناولت عدة تقارير دولية ووطنية الحالة المزرية لقطاع التعليم في المغرب؛ إذ إن تقرير البنك الدولي يؤكد أن معدل فقر التعلم في المغرب يناهز نسبة 66%، وأن 67% من الأطفال المغاربة يفشلون في الإجابة عن سؤال واحد من أسئلة القراءة المتعلقة بالفهم بشكل صحيح. ولكننا كمغاربة لسنا بحاجة لكل هاته الأرقام والمعطيات لنعترف بالوضع الكارثي الذي يمر به قطاع التعليم، فنحن نرى الواقع بأم أعيننا ونعيشه كل يوم.
ما هي أسباب أزمة قطاع التعليم في المغرب؟
انطلاقاً من دراسة إحصائية قام بها معهد اليونسكو للإحصائيات سنة 2008، فإن من بين المعطيات التي قد تعتبر واحدة من الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة هي ندرة الموارد المالية التي تستثمرها الحكومة المغربية في التعليم؛ إذ تشير هذه الدراسة إلى أن ميزانية التعليم سنة 2006 بلغت 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة الذي بلغ آنذاك حوالي 69 مليون دولار أمريكي.
زد على ذلك أن المركزية الإدارية وتهميش القرى والمناطق النائية التي لا تتلقى ما يكفي من الدعم المادي لتوفير فرص متساوية في التعليم لشريحة مهمّشة من المجتمع في "المغرب العميق" هو ما يخلق فروقات كثيرة على مستوى التعليم تترتب عنها بشكل تدريجي فروقات أكثر على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. إضافة إلى أن الحكومة المغربية لا تملك خطة واضحة المعالم للنهوض بالمنظومة التعليمية، بل إنها تتخذ المماطلة كمنهج ثابت في تعاملها مع مطالب الأساتذة والمعلمين، وقد ظهرت لنا سياسة المماحكة هاته بشكل جلي من خلال الرقابة المستمرة التي تعرض لها عدد من المفكرين المغاربة من قبيل المهدي المنجرة الذين انتقدوا النظام التعليمي الذي كان ولا يزال مشبعاً بتبعية ساذجة للمستعمر السابق فرنسا. وعلى عكس خطط محاربة الأمية التي نجحت بشهادة منظمات دولية ومحلية، فإن عدداً كبيراً من المخططات الوطنية التي اقترحت في أكثر من مناسبة للتداول والمصادقة عليها في المجالس الحكومية لم تتم المصادقة عليها. إضافة على ذلك فإن إشكالية نظام التعاقد الذي أطلقته حكومة بنكيران لتلبية خصائص الموارد البشرية الذي عرفه قطاع التعليم بالمغرب قد تحولت في غضون أقل من سنة إلى ملف معقد وأزمة ترتبت عليها عدة إضرابات من جهة الموظفين أعضاء "التنسيقية الوطنية للأساتذة وأطر الدعم الذين فرض عليهم التعاقد"، وقد زاد الطين بلة مؤخراً أن وزارة التعليم اشترطت ألا تزيد سن المترشحين في مباريات التعليم عن 30 سنة عند تاريخ إجراء المباراة.
إن الحلول الترقيعية التي اعتمدتها الحكومة المغربية لسنوات، زيادة على فشلها في تفعيل شراكات مع القطاع الخاص في مجال التعليم، كلها عوامل قد ساهمت وبشكل كبير على مر السنين في خلق فجوات وفوارق طبقية على مستوى التكوين التربوي للمواطنين المغاربة، فمنذ استقلال المغرب، اعتمدت الدولة نماذج تنموية غير عادلة ومضرة بالطبقة الكادحة. هنا نجد أنفسنا أمام معضلة كبرى، خاصة أن عدداً من المفكرين المغاربة والمحللين السياسيين قد راهنوا على أن تجديد النخب السياسية بالمغرب هو تحدي القرن الذي لا بد أن ينجح المغرب في تحقيقه إذا أراد أن ينعم بمستقبل أكثر ازدهاراً من حاضره؛ إذ لا يمكن للمغرب أن يواكب العالم المعاصر في مختلف المجالات إذا لم يكن مواطنوه ينعمون بشيء من الاستقرار والعدالة الاجتماعية، وكيف لنا أن نحصل على هذه المطالب ونحن نعيش تحت نظام اقتصادي يضمن للطبقة المخملية مصالحها على حساب مصالح الأغلبية؟
من البديهي أن الأشخاص الذين يمتلكون سلطة اتخاذ أو اقتراح القرارات يفترض بهم أن يلعبوا دور الوساطة بين المواطن والنظام، وكيف لأبناء الطبقة المخملية من المجتمع المغربي الذين تمتعوا بتعليم خاص ذي جودة عالية أن يلعبوا دور الوساطة والنيابة عن شريحة من المجتمع لا صوت لها داخل مؤسسات إصلاحية حكومية والسبب في ذلك هو عدم تلقيهم تعليماً يجعلهم مؤهلين لتولي مناصب حكومية. هكذا تولد دائرة الفقر ويحافظ أبناء الطبقة الغنية على المكانة السوسيو اقتصادية التي حصلوا عليها بالوراثة عن آبائهم.
أية حلول عملية لهذه الأزمة؟
إن نضال المجتمع المدني لأجل إصلاح المنظومة التعليمية لا يكتمل إلا بإنصاف التلميذ والطالب الذي كان ولا يزال الحلقة الأضعف في الأكاديميا المغربية، ولذا فإن انتزاع حق الإضراب والاحتجاج من الطلبة لا بد له أن يخلق أفرادًا عاجزين عن الاندماج في الحياة السياسية مستقبلاً مما سينعكس سلباً على التنمية الاجتماعية للبلد ويساعد النخب السياسية على التمسك بكراسيها على طول الدهر. وعلى السادة المدراء والنواب والوزراء وكل من له صلة بالمجال التربوي أن يعي كون الإضراب وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، فهي أداة يسعى من خلالها الطالب لتحقيق مطالبه التي يكفلها له الدستور، وأن منعه من ممارسة حقه الدستوري هو إخلال واضح جلي بما ينص عليه القانون الدولي الذي تصادق عليه الدولة المغربية ويخرج عن إطار الفكر الديمقراطي الذي تتباهى مختلف الجهات السياسية المغربية بتبنيها له، إلا أن الواقع لا يرتفع وتبقى الشعارات هي كل ما تملك هاته الأحزاب التي لا تدافع عن حق المواطن والطالب بممارسة حقه الدستوري في الإضراب والاحتجاج. فالمواطن المغربي مدرك لكامل حقوقه ولا يقبل أن يتم ترهيبه وتخويفه لأن المطالب التي يسعى لانتزاعها هي مطالب أساسية وليست مظهراً من مظاهر الرفاهية، فالحق في الوظيفة وولوج المدارس العليا والإجازة المهنية هي حقوق بسيطة وليست بالمستعصية على الجهات المعنية.
باستطاعتنا أن نلقي اللوم على المؤسسات ونعلق فشلنا في إصلاح المنظومة التعليمية على مشجب الأطر التعليمية وأكذوبة ندرة الكفاءات التي يروّج لها المتقاعسون من المسؤولين والمتشائمون من المواطنين، ولكن أزمة قطاع التعليم في المغرب هي قصة فشل في التخطيط الاستراتيجي واحتكار لجودة التعليم لصالح الطبقة الحاكمة. وإذا فشل المغرب في تحقيق العدالة على مستوى القطاع التعليمي، فإنه بذلك سيفشل وبشكل تلقائي في تحقيق رهان تجديد النخب السياسية الذي بُنيت عليه تصورات عدد كبير من المغاربة الذين يطمحون للعيش في وطن تسود فيه العدالة الاجتماعية بدل الطبقية المتجذرة والفوارق الاقتصادية الساحقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.