كورونا ثم الأزمة الاقتصادية.. عن رقصة الرعب البشرية

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/10 الساعة 12:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/10 الساعة 12:15 بتوقيت غرينتش

منذ بداية جائحة كورونا شعرنا جميعاً بأن ثمة شيئاً مريباً في الأمر، وتوالت نظريات المؤامرة التي حمل بعضها نوعاً من المنطق ولكن عازها الدليل، فيما لم يعدُ البعض الآخر أن يكون إما ضرباً من الخيال العلمي أو توهمات المصابين بالبارانويا. لكن أحداً لم يقدم تفسيراً مقنعاً لذلك الشعور، وبالتأكيد لم يقدم أحدٌ دليلاً يدعم أياً من تلك النظريات وإلا لما كنا نتحدث هنا.

لن أخوض هنا في الجدل حول منشأ الفيروس، فما ذكره أساتذة جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة حول تسرب الفيروس بالخطأ من معمل صيني في مدينة ووهان له صلات بمؤسسات تمويل وأبحاث أمريكي، يكاد يخبرنا تقريباً بما نحتاج معرفته بهذا الشأن. لذا دعنا نتجاوز هذه النقطة في حديثنا اليوم، إذ في النهاية فإن الحوادث المؤسفة تقع رغم أنف الجميع بين الحين والآخر، وذلك بالتأكيد ما لم يقدم أحدهم في المستقبل دليلاً يثبت أنه قد تم نشر الفيروس عمداً وأنها لم تكن مجرد حادثة، فذاك حينها أمرٌ آخر.

ولكن قبل الدخول في صلب موضوعنا اليوم، نحتاج أولاً إلى أن نتفق بشأن مدى خطورة الفيروس فعلياً دون تهوين أو تهويل. وتجنباً للإطالة فلن أغوص في الأرقام والإحصاءات والدراسات المختلفة، فكلها متاحة على الإنترنت لمن يرغب في التدقيق والتمحيص، وسألخص الأمر قدر الإمكان قبل أن نستكمل حديثنا.

إن من المؤكد أن الفيروس شكل نوعاً من الخطورة الحقيقة على فئات مختلفة من الناس، وكان هناك عددٌ كبيرٌ نسبياً من الوفيات حول العالم. وهذا القدر من الخطورة مع سرعة انتشار نسبية جعلا من الضروري أن تكون هناك بشكل ما بعض الإجراءات الاحترازية مثل ارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي وخلافه.

 إلا أنه من المؤكد أيضاً أنه لم يكن فتاكاً بالمعنى التقليدي للكلمة، فعلى مقياس من واحد إلى عشرة للتهديد الذي تشكله الأوبئة والأمراض، يمكن بشكل منصف أن نمنحه تصنيفاً معتدلاً في مكان ما بين المستويين الرابع والخامس، مقارنة بأوبئة أخرى، وذلك بالنظر إلى كلٍ من سرعة الانتشار، ومعدل الوفيات، والأضرار طويلة الأمد على الناجين. ربما لا يبدو مثل هذا القياس دقيقاً من الناحية العلمية لأسباب عديدة، ولكنه بشكل أو بآخر هو الخلاصة المبسطة لكل ما قيل علمياً. فعلى سبيل المثال فمقارنةً بمعدلات وفيات تتراوح بين 10% إلى 75% لفيروسات مثل الإيبولا وسارس وأنفلونزا الطيور وميرس ونيباه، فإنها في أسوأ التقديرات لم تتجاوز 3% من إجمالي عدد الإصابات في حالة كوفيد-19. وبالمقابل فإنه رغم أن معدلات الانتشار والإصابة عموماً لم تقترب من أمراض أخرى سريعة الانتشار مثل الحصبة، فإن  معدلات الانتشار والإصابة لكوفيد-19 كانت عالية نسبياً، ما يعني ارتفاع أعداد المصابين إجمالاً، وبالتالي ارتفاع أعداد الوفيات ككل، وضغطاً أكبر على الأنظمة الصحية المتردية أصلاً بما يكفي لدفعها للانهيار، وهذا هو السبب الرئيسي وراء الارتفاع النسبي لتصنيف خطورة الفيروس. 

إن نظرة سريعة على الإحصاءات الرسمية للوفيات في الولايات المتحدة عام 2020 على سبيل المثال ستعطينا نفس المنظور تقريباً، إذ تظهر أن الفيروس تسبب في وفاة نحو 7 أضعاف من قتلتهم الأنفلونزا الموسمية، ولكن عدد قتلاه كان قريباً من نصف عدد الوفيات التي تسبب بها السرطان أو أمراض القلب كلٌ على حدة.

إن هذا يأخذنا بالضرورة إلى السؤال الأكثر إثارة للجدل منذ بداية الجائحة، وهو هل كانت هناك ضرورة لإجراءات الإغلاق الشامل التي تم فرضها؟ والحقيقة أن سرعة انتشار الفيروس وتردي الأنظمة الصحية وضعفها في جميع دول العالم تقريباً جعل الإجابة هي نعم، ولكن. فقد كانت هناك فعلياً حاجة لشكل من أشكال الإغلاق الجزئي أو الكلي لفترات مختلفة قد تقصُر أو تطول حسب ظروف كل منطقة جغرافية على حدة، والتي تشمل الكثافة السكانية، ومستوى النظام الصحي، والطبيعة السكانية أو الديموغرافية للمنطقة، والمناخ، إلى جانب عوامل الأخرى. ولكن لم يكن هناك مبررٌ في أغلب الأحوال للإغلاقات الطويلة جداً والتي بلغت عدة أشهر في بعض الأماكن. ومع ذلك يجادل بعض الخبراء أن فكرة الإغلاق كلها كانت استراتيجية خطأ منذ البداية، ويقدمون بعض الحجج التي تستحق النظر ويعوزها التدقيق والتمحيص. ولكن في النهاية فإن الأمر هنا كان أولاً وأخيراً يعتمد على تقدير واجتهاد القائمين على الأمر في كل مكان على حدة في ظل المعلومات المتوفرة لهم في حينه ولا عيب في ذلك.

وبعد أن قيل كل هذا، دعنا ننتقل الآن إلى مربط الفرس حيث تكمُن القصة التي تشكل محور حديثنا اليوم. فهل كانت ردة الفعل والاستجابة لظهور الفيروس مناسبة؟ هل كان هناك مبررٌ حقيقي لحالة الرعب التي انتشرت؟ وهل كان من الضروري أن يحدث الضرر الاقتصادي الذي حدث على مستوى العالم نتيجة انتشار الفيروس؟ أو بعبارة أخرى مختصرة، هل تمت إدارة الأزمة بالشكل الصحيح؟

إن الإجابة هنا هي: قطعاً لا.

فقد كانت هناك حاجة ماسة لطمأنة الناس وتوعيتهم بالإجراءات الاحترازية المطلوب اتخاذها، سواء على المستوى الفردي أم على المستوى القومي، وكان هناك المبرر الأكيد للحذر والتحوط المعقول، ولكن لم يكن هناك أي مبرر لحالة الهلع والرعب تلك. وكما قد يخبرك أي مختص، فإن أول أبجديات التعامل مع أي حالة طوارئ هو الحرص على منع حدوث الذعر أو انتشاره، أو قل الحرص على السيطرة على الشعور بالذعر والدفع باتجاه الهدوء والعقلانية في التعامل مع الموقف، وكلما ازدادت خطورة الموقف كان ذلك أكثر إلحاحاً. لكن الغريب أن ما حدث هو العكس تماماً، فقد بدا أن هناك نوعاً من التواطؤ العالمي غير المفهوم على نشر الذعر بشكل يبدو متعمداً وغير مبررٍ منذ اللحظات الأولى، واستمر المنوال على ذلك بشكل تصاعدي على مدى عدة أشهر، ووصل الأمر إلى حد الابتذال في بعض الأحيان.

وللتوضيح والتأكيد هنا، فأنا لا أتحدث عن مؤامرة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكني أرى أن الأمر كان أشبه بقطعة موسيقية عزفها أحدهم في البداية، ثم رقص عليها البقية حين رأى كل منهم أن ذلك يصبُ في مصلحته. فربما انطلقت الشرارة الأولى لذلك الرعب بحسن نية، ربما لأن أحدهم ظن أن الوسيلة الأفضل لإجبار الناس على التحوط هي إخافتهم حد الرعب، وإن كنت أظن أن مسألة حسن النية هنا مشكوك فيها لأسباب سنناقشها لاحقاً. 

لكن المؤكد هو أنه سواء كان عَزفُ تلك المقطوعة قد تم بحسن نية أم بسوئها، فإن من بدأ تلك الفوضى قد أدرك لاحقاً أن الأمر قد خرج عن السيطرة بعد أن بدأ الجميع بالرقص وترديد اللحن باستخدام جميع مكبرات الصوت الممكنة، حتى لم يعد يُشكل فارقاً إن توقف العازفُ أم استمر، فقد كانت الحفلة قد بدأت بالفعل. ولاحقاً، أدرك الجميع أن الأمر قد ذهب بعيداً، وأصبح الذعر من الفيروس مشكلة أكبر من الفيروس نفسه، وكبرت كرة الثلج وبدأت تكتسح كل شيء، من منظور اقتصادي على الأقل. ولذا لم تُعزف المقطوعة مرة أخرى مع الإعلان عن المتحور (XBB) الجديد، على الرغم من أنه تم الإبلاغ عن أنه أكثر خطورة، وأسرع انتشاراً ومراوغة، وأقل استجابة للقاحات والعلاج من النسخ السابقة من الفيروس؛ فقد هدأ الغبار أخيراً، ولا أحد يريد تلك الفوضى مرة أخرى. وفي الواقع، فقد تبين أن هذه التقارير خطأ، وأن الطفرة الجديدة لا تفرض خطراً أكبر من طفرة أوميكرون الأصلية، حتى وإن كانت أسرع قليلاً في الانتشار؛ لكن النقطة هنا هي أن أحداً لم يقرع الجرس لإخافة الناس مرة أخرى دون داعٍ، وأخذوا أولاً الوقت الكاف للتحقق من المعلومات وتقييم الموقف بهدوء قبل إصدار أية تصريحات.

في النهاية، فإن ذلك الإصرار على نشر الذعر بشكل ممنهج كانت له تداعياتٌ وآثار كثيرة، وربما سيحتاج الأمر بضع سنوات قبل أن نتمكن من الإحاطة بها جميعاً. لكن المؤكد أن بعض هذه التداعيات كانت فورية، وكان أولها وأخطرها أنها كانت السبب وراء انتشار ذلك الشعور الغامض بأن شيئاً ما مريباً يحدث، وتوفير أرضية خصبة لنظريات المؤامرة المتعددة، والنتيجة كانت أن الصدمة أو حالة الرعب لدى العامة انقلبت سريعاً إلى انقسام الناس بشكل عام إلى فئتين، إحداهما مرعوبة وتزدادُ رعباً كل يوم، وتستمر في تكرار نغمة الرعب ونشرها حتى يشاركها الآخرون فيها، وأخرى استفزها الأمر بشدة فاتخذت موقفاً مضاداً تماماً أدى لتهاونها بشكل كامل كانت نتيجته في النهاية ارتفاع وتيرة الإصابات والوفيات بشكل كبير، كان من الممكن تجنبه حتماً لو أن الأمور سارت بشكل مختلف منذ البداية. وستبقى هذه الدماء في أعناق أولئك الذين تعمدوا نشر ذلك الذعر شاؤوا أم أبوا.

أما أهم التداعيات الفورية الأخرى لحملة الرعب تلك فقد كانت الأثر الاقتصادي، فالحقيقة أن عمليات الإغلاق الشامل لم تكن هي السبب الرئيسي في الأزمة التي هزت الاقتصاد العالمي كما يحلو للبعض أن يتصور، بل يمكن القول إنها في الواقع ساهمت في ازدهار بعض القطاعات كما سنتطرق إلى ذلك في وقت لاحق. إن السبب الرئيسي للأزمة كان انتشار حالة الذعر واللايقين، وهما العدوان الأساسيان لأي اقتصاد.

دون شك، فإن الإغلاق كان من الحتمي أن يصاحبه بعض التباطؤ والركود في بعض القطاعات، وقدر من الارتباك والفوضى في بعض القطاعات الأخرى. ولكن بالقليل من الحنكة كان يمكن أن يتم امتصاص تلك الآثار وإدارتها للخروج بخسائر مقبولة وصغيرة نسبياً لا تمثل أكثر من حالة ركود بسيط عابرة سرعان ما يتم التعافي منها لاحقاً دون آثار سلبية على المدى الطويل، وذلك من خلال قيام الدول بالإنفاق على تدعيم البنية التحتية المتهالكة لأنظمتها الصحية، مع مزيج رشيد من برامج التحفيز والمساعدات المدروسة، والتشريعات التنظيمية المؤقتة، لخلق وضع مستقر نسبياً يرسل للجميع رسالة مفادها أن الأمور تحت السيطرة، وأننا نحمي ظهوركم، ودوركم أن تتخذوا الاحتياطات الكافية لسلامتكم وتخرجوا لتقاتلوا، لنعبر معاً الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.

ولكن مرة أخرى، بدا أن هناك من يصب الزيت على النار ويضاعف من حالة الذعر واللايقين بشأن ما هو آتٍ، من خلال إجراءات اقتصادية غير مفهومة من ناحية المنفعة المرجوة منها، ولا يبدو الآن بعد مضي الوقت إلا أنها كانت إما حماقة واضحة أو محاولة متعمدة لزيادة حالة الذعر تلك! لقد بدا أن معظم دول العالم بشكل أو بآخر تقرأ من كتيب الغباء الاقتصادي نفسه. إذ بدأت واحدة من أكبر عمليات طباعة النقود في التاريخ، وموجات من الاستدانة الحكومية من أجل تمويل حزم تحفيزية ومساعدات يمكن وصفها بالعشوائية أو غير المدروسة بشكل كاف في أحسن الأحوال، حيث لم تقدم أي حلول نافعة على المدى الطويل. 

ولكن الأسوأ كان ذلك الإخراج الدرامي لكل تلك الإجراءات، والذي لم يبعث سوى برسالة واحدة للجميع مفادها: نحن نفعل المستحيل كي لا نغرق صحياً واقتصادياً، وما عليكم إلا أن تبقوا في البيوت مذعورين كالفئران لأطول فترة ممكنة، تحلمون بعودة الحياة إلى طبيعتها، وسنرسل الطعام إلى أقفصاكم إلى أن ينقذنا أحدهم من الانقراض بإنتاج لقاح ما!

وكانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك موجة تضخمية بدأت معها دوامة الديون السيادية لتضاعف من حالة اللايقين، وتعمق جراح الاقتصاد العالمي، تبعها بالضرورة حالة الركود المستمرة منذ ذلك الوقت، والتي لا يبدو من الواضح الآن كيف ومتى ستنتهي بعد أن ألقت الحرب في أوكرانيا بظلالها على المشهد، لتزيده قتامةً وتبعثر رياحها ما تبقى من الشعور بالاستقرار الاقتصادي على مستوى العالم.

ولكن تبقى الأسئلة الحساسة هنا هي: من الذي أطلق صافرة البداية؟ ومن الذين تواطأوا لاحقاً؟ ولماذا؟ وهنا بيت القصيد.

ليس هناك شكٌ في أن صافرة البداية انطلقت من منظمة الصحة العالمية، ومما يُسمى بمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة. ورغم أن استجابتهما تبدو في الظاهر سليمة ومناسبة من حيث المبدأ ولا تشي بسوء النية، لكن التخبط والملابسات التي رافقت تلك الاستجابة في البداية تستثير الأسئلة، في الوقت الذي يصعب فيه صراحة تجاهل الروابط التي كانت مثار تساؤلات خلال الأعوام الماضية والتي تجمعها بشركات الدواء العالمية، والتي "يصدف" أنها المستفيد الأول من كل هذا بعد أن طورت تقنيات جديدة مناسبة لإنتاج لقاحات للفيروس الذي "توقعت" هذه الشركات احتمالية انتشاره بناءً على خبرات سابقة. كما أن هذه الشركات بدورها لم تدخر لاحقاً جهداً في الترويج بكل ثقلها ونفوذها المعروف في الأوساط الإعلامية والأكاديمية لضرورة اللقاحات وأهميتها، رغم اعتراف بعضها لاحقاً أيضاً أنها أُقرت ودخلت حيز الاستخدام دون التأكد من فعاليتها في وقف انتشار الوباء. 

وأياً ما كان، فمن الظلم تحميل هؤلاء وحدهم المسؤولية عن موجة الذعر تلك، فحتى إن صحت التكهنات عن دور متعمد لهم في إطلاقها، ففي الأغلب كان الهدف إثارة زوبعة محدودة تدفع الحكومات تحت الضغط إلى التعاقد على شراء تلك اللقاحات قبل إنتاجها ثم تهدأ الأمور تدريجياً وتستمر الحياة، وإن لم يترددوا بالتأكيد في دعم ما حدث لاحقاً والاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن.

إن ما حدث هو أن وسائل الإعلام وجدت مادة دسمة للدراما ورفع نسب المشاهدات في حادثة السفينة دايموند برنسيس، التي ربما تفاجأ بالحصيلة النهائية لضحاياها، وأيضاً في اضطرار إيطاليا لفرض حالة الإغلاق بعد أن أدارت أوروبا لها ظهرها بسبب الغموض حول طبيعة الفيروس وأوشك نظامها الصحي على الانهيار. ثم فجأة أدركت وسائل الإعلام ومشغلو منصات التواصل الاجتماعي طبيعة الفرصة السانحة أمامهم بعد أن أصبح خيار الإغلاق الشامل مطروحاً على الطاولة. فالناس ستكون في بيوتها على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، إما قلقة تتابع الجديد بلهفة، أو تشعر بالملل، فأي فرصة أفضل من ذلك لرفع نسب المشاهدات وتعظيم الأرباح. وبالتأكيد لم تجد وسيلة أفضل للضغط من أجل تحقيق ذلك من إضافة المزيد والمزيد من الدراما على المشهد وإثارة المزيد من الذعر، والمطالبة بالإغلاق الشامل وقائياً بغض النظر عن الحقائق على الأرض وظروف كل منطقة جغرافية على حدة، وهنا بدأ منحنى الذعر يتصاعد، حتى ظن الناس الفيروس وحشاً قابعاً أمام أبوابهم يترقب منتظراً أولى خطواتهم خارج منازلهم ليفتك بهم! وهنا أيضاً بدأت شرارة ردود الأفعال الرافضة لفكرة التحوط برمتها كردة فعل على سخافة اللحن المعزوف.

ولاحقاً أدركت المزيد والمزيد من الشركات العائد الضخم الذي يمكن لها تحقيقه في حال فرض الإغلاق الشامل، فانضمت للمشهد، وشارك كلٌ منها فيه بطريقتها، ومن بين هؤلاء مزودو خدمات التواصل والتعاون والتعليم عن بعد، منتجو المستحضرات والمعقمات الطبية، وشركات البيع بالتجزئة عبر الإنترنت.

لقد صار فرض الإغلاق الشامل واستمراره لأطول فترة ممكنة هدفاً لكل هؤلاء، والسبيل الوحيد لذلك كان بث المزيد من الذعر الذي صار يضخ ويوزع هنا وهناك دون رقيب أو حسيب، وفرض رقابة غير رسمية على كل رأي عقلاني لا يتراقص على أنغام معزوفة الرعب تلك. وذلك في الوقت الذي كان فيه عشرات الملايين حول العالم تحترق أعصابهم أينما التفتوا، فقد صار كورونا بالنسبة لهم حرفياً الشبح الذي يطاردهم مع كل نفس.

أما الحكومات فإنها رغم ترددها في البداية لإدراكها ما ستؤول إليه حالة الذعر المستمر تلك، ولكنها في النهاية رضخت وقررت استغلال الفرصة لتحقيق مصالحها الخاصة بدورها، فبعضها استغلت الوضع للتضييق على معارضيها، وبعضها رأتها فرصة لإحداث تغييرات اجتماعية (أغلبها سلبي للأسف) كانت تحلم بتحقيقها على مدى عقود، وها هي الفرصة لتسريع البداية على الأقل خلال بضعة شهور، وأغلب الحكومات وجدتها فرصة سانحة للسيطرة على التدفق النقدي والتحول إلى المدفوعات الإلكترونية لتعظيم إيراداتها الضريبية من جهة، وخنق شرايين التمويل على من تعدهم مارقين عن القانون، واستوى في ذلك الأخيار منهم والأشرار. أما الدول التي يسود فيها الصوت الإعلامي الواحد فقد كانت فرصة لها لترديد البروباغندا الحكومية على مسامع الناس ليل نهار وهم ملتصقون بالشاشات رغماً عنهم. 

أما السياسيون، فحدث ولا حرج. وهنا الكلام يشمل الأفراد والمجموعات السياسية على طول الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فالكل استغل الموقف لخدمة مصالحه وأهدافه وأجنداته دون النظر في العواقب المحتملة. فالبعض (وأغلبهم من اليمين) نصب نفسه قائداً لحملات اللامبالاة سعياً لكسب الشعبية وسط من استفزتهم نغمة الرعب تلك، فأسهموا في تزايد الإصابات والوفيات وتغذية دوامة الرعب. وفي المقابل لم يتوان اليسار السياسي عن إطعام نار الذعر بمزيد من الحطب لخدمة مصالحهم الانتخابية (الانتخابات الأمريكية كمثال)، وأجنداتهم السياسية والأيديولوجية، إذ كانت حالة الإغلاق الشامل فرصة للدفع بجرعة مركزة من أفكارهم وغمر الأجيال الجديدة بها على مدار الساعة عبر وسائل الإعلام التي يتمتعون بنفوذ واسع في أغلبها.

وغير بعيد، وقفت هناك النخبة الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا والمؤسسات الاقتصادية الدولية تتأمل الفرصة النادرة التي بين أيديهم، فلم يترددوا في رسم الخطوط العريضة لكل هذه الإجراءات الاقتصادية الفاشلة والمثيرة للجدل من أجل تأمين مصالحهم، والتي من بينها على سبيل المثال لا الحصر أن استمرار موجة الرعب تلك سيقود حتماً في النهاية إلى أزمات اقتصادية طاحنة في الدول النامية بالدرجة الأولى، ما يعني مزيداً من القروض لهذه الدول بمزيد من الشروط المجحفة بحق شعوبها، لتصل في النهاية إلى استحواذهم على أصول هذه الدول، أو على حق الانتفاع طويل الأجل بثرواتها بأثمان بخسة. ويكفي أن نعرف أن عدد الدول النامية التي حصلت على مثل هذه القروض من صندوق النقد الدولي خلال عام الوباء 2020 كان أكثر من 80 دولة في مقابل 9 دول فقط في عام 2019.

ومن بين الجميع تبقى مجموعة أخيرة ساهمت بنصيب وافر في حملة الرعب تلك، ولكنها الوحيدة المعذورة كل العذر ولا تلام، ولهؤلاء تحديداً نرفع القبعة احتراماً وتقديراً، إنهم الأطباء والعاملون في القطاع الصحي، والذين لم يسمح لهم تردي المنظومات الصحية بأن يروا إلا الجانب الأسوأ من الوباء على مدار الساعة، حتى انهار الكثير منهم سواء نفسياً أم جسدياً.

إن الخلاصة هنا، هي أنه إذا كان هناك ما نتعلمه من محنة كوفيد-19، فإنه قبل الحديث عن الاستعداد للوباء القادم بشكل أفضل، أو عن مواجهة المؤامرات هنا وهناك، فإن الدرس الحقيقي الذي يجب أن نتعلمه هو أنه قد آن الأوان لمكافحة وباء الفردية والأنانية الذي اجتاح العالم خلال العقود القليلة الماضية. هذا الوباء الذي حول الرعاية الصحية من خدمة للمجتمع إلى مجال تجاري خالص، وحولت مشكلة يمكن التعاطي معها ببعض الحكمة إلى مأساة عالمية على مختلف الأصعدة. كل أولئك الذين شاركوا في رقصة الذعر تلك أعطوا الأولوية للمصالح الفردية الضيقة على الصالح العام للبشرية كلها، ولو لم تكن التبعات لتطولهم في النهاية لما توقفوا حتى يعصروا آخر قرش في جيب آخر إنسان على وجه الأرض.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمار موسى
كاتب وباحث مصري
تحميل المزيد