في عام 1909 نشر الفيلسوف الفرنسي أرنولد فان جينيب كتابه "طقوس العبور"، ويرى فان جينيب أن الطقوس التي تمارسها المجتمعات البشرية، كحفل الزفاف مثلاً، ليست سوى غطاء للتحولات الكبرى في حياة الإنسان كالولادة، الزواج أو الموت.
ويراد بتلك الطقوس مساعدة الفرد، بتخفيف حدة الأزمات التي تصاحب التحولات الكبرى في حياته أو حياة أسرته عادة.
والتحولات في حياة الإنسان حتمية لا مفر منها، كما يرى فان جينيب، وهي انتقال الإنسان من مرحلة ثابتة لها عالمها، شرائطها، وقيمها الخاصة بها إلى مرحلة أخرى أيضاً ثابتة لها عالمها.
ولعل أوضح مثال على ذلك هو انتقال الفرد من عالم الطفولة إلى عالم النضج، وكل مرحلة من هاتين المرحلتين ثابتة بعالمها، وشرائطها الخاصة، ويستقر عليها الفرد لفترة من الزمن حتى تصبح نمطية، ويسير كل حدث فيها بشكل رتيب تقريباً.
كما أن كل ما يحدث خلال هاتين الفترتين له علل مفهومة، إلا أن الأزمة تحدث خلال فترة العبور من مرحلة إلى أخرى، فالتحول عن عالم الطفولة إلى عالم النضج لا يتم إلا بالعبور من خلال عالم المراهقة.
ومرحلة العبور هذه مؤقتة غير مستقرة، مليئة بالفوضى، وكثير من أحداثها لا يسهل فهمها، هي مرحلة أزمة ينفصل فيها الفرد عن عالم المرحلة الأولى الذي استقر عليه لفترة من الزمن.
فينسل من خصائصها شيئاً فشيئاً ويتجرد من قيمها، كي يتمكن من الاندماج بعالم المرحلة الثانية، والتكيف مع خصائصها وتبني قيمها، فالعبور من هذا المنطلق هو مرحلة تدمير من أجل البناء.
ويؤكد عالم الأنثروبولوجيا الاسكتلندي فيكتور تورنر ما طرحه فان جينيب سابقاً بأن الطقوس التي تمارسها الجماعات ما هي إلا وسيلة لتخفيف حدة الأزمات التي تنشأ عن مرحلة العبور، فحفل الزفاف هو طقس اجتماعي يساعد العريسين على العبور بشكل سلس من عالم العزوبية إلى عالم الزوجية والمسؤولية الأسرية.
إذا اتفقنا مع فان جينيب بأن الفرد يمر بأزمة حقيقة في مرحلة التحولات الكبرى في حياته، ما يستدعي تدخل المجتمع في كثير من الأحيان لتخفيف حدة هذه الأزمة ومساعدته في تجاوزها، إذن ما الذي يحدث عندما يمر مجتمع بأكمله أو بلد يكونه خليط من المجتمعات؟
أو أمة يتفاعل بداخلها بلدان، وأقاليم جغرافية، شاسعة بمرحلة تحول كبرى كما يحدث الآن في الربيع العربي!
أمة بكافة مكوناتها الدينية واللادينية، العشائرية، الإثنية، المدنية والريفية، بتياراتها السياسية، الحزبية، التقليدية، وتياراتها السياسية، الاجتماعية.
أمة بكافة تفاصيلها التي ليس بالإمكان حصرها، وبما تحمله من انسجامات وتناقضات تشهد تحولاً تاريخياً مفصلياً لابد من أن تعاني من أزمات عبور في مرحلتها الانتقالية.
وبما أننا نتحدث عن أزمة عبور الربيع العربي، فلابد من الإشارة إلى أننا نشهد صراعاً، محموماً، وتزاحماً بين عالم المرحلة الأولى، وخصائصها وقيمها مع عالم المرحلة الثانية وخصائصها وقيمها.
صراع بين تيار من المحافظين المتشبثين بموروثات، وقيم عالم الماضي مجازفين بإعادة إنتاج تجارب قديمة أثبتت فشلها، وتيار من المجددين الساعين لاستيراد تجارب وقيم أمم أخرى حتى وإن كان ذلك سيجلب معه أزمات ومشاكل الأمم المستورد عنها بالضرورة.
الربيع العربي هو التحول التاريخي الكبير في مسار الأمة العربية والإسلامية، وكل ما يحدث اليوم هنا من فوضى، وأزمات إنما ينتمي إلى مرحلة العبور هذه والتي تفصل بين ماضٍ لن يعاد، ومستقبل لم تتضح معالمه بعد.
والطريق لا يزال طويلاً، فما زلنا في بداية مرحلة العبور، ولا أبالغ إن تصورت أن ذلك يحتاج أجيالاً عدة قبل أن نصل ذروة الإشباع من مرحلة العبور، قبل أن نصبح جاهزين لدخول المستقبل الذي يعبر عنه بالمرحلة الثانية.
وكل المحاولات الحثيثة والجادة التي يقوم بها مختلف التيارات الفكرية، السياسية والدينية وغيرهما سواء لإعادة إنتاج الماضي أو لاستيراد تجارب أمم أخرى، وذلك بهدف إيجاد حلول سريعة للخروج من الأزمات ليست سوى محاولات لاختزال مرحلة العبور والتي لن تنتهي ما لم تستكمل كل شرائطها التاريخية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.