في تاريخ الإسلام رأيتُ اهتماماً لافتاً بتربية الأطفال وتنشئتهم؛ هذه التربية أو البيداغوجيا كانت تُسمّى عندهم "التأديب"، وكان القائم بهذه المهنة يُسمّى "مؤدِّباً"، وقد حرص المسلمون منذ العصر النبوي على تربية أبنائهم على كتاب الله وسُنة رسوله.
ولكنهم اتخذوا في سبيل ذلك أدوات تطورت مع مرور الأزمان من حيث التطبيق، وفوق ذلك سرعان ما اهتم العلماء المسلمون بالتأطير النظري، وتناول المناهج العلمية التي يجب أن يتخذها المؤدّبون والمعلمون أثناء تعليمهم للأطفال.
وقد تسابق المسلمون في مشارق الأرض للإسهام في تطوير التربية والتأديب، وكان لعلماء وفقهاء المغرب والأندلس إسهام لافت في هذه المسألة في المجال التربوي والتعليمي.
الحق أن الحياة العامة والخاصة أفرزت لنا نماذج بديعة في التأصيل التربوي، ولما كان الفقهاء والمحدّثون هم الطبقة العليا في كثير من ربوع العالم الإسلامي والحضارة الإسلامية، فقد تناول هؤلاء العلماء الآليات والوسائل الناجعة والشرعية في التعامل مع أبناء وبنات الأمة.
فمن أوائل من كتبوا رسائل ومؤلفات خاصة تتعلق بالتربية والتثقيف في المغرب العلامة المالكي التونسي ابن سحنون، واسمه محمد بن عبد السلام بن سعيد (ولد سنة 203هـ وتوفي سنة 256هـ)، وكتابه الذي جعل عنوانه "آداب المعلمين".
عكف على تحقيقه وإخراجه مجموعة من الأساتذة، منهم الدكتور محمد عبد المولى، ومن أجود هذه التحقيقات ما قام به العلامة التونسي حسن حسني عبد الوهاب، رحمه الله، فكانت مقدمته في غاية الظرف، والدقة كعادته.
وقد جاء الكتاب أو الرسالة في صورة مجموعة من النصائح العامة، والطرائق الواجب اتخاذها في التعليم والتربية من خلال فصول جاءت كما يلي: "ما جاء في تعليم القرآن العزيز، ما جاء في العدل بين الصبيان، باب ما يُكره محوه من ذكر الله، ما جاء في الأدب وما يجوز في ذلك وما لا يجوز، ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلم، ما يجب للمعلم من لزوم الصبيان، ما جاء في إجازة المعلم ومتى تجب، ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه".
وأيضاً ممن ألفوا في كتابة المناهج التربوية في المغرب الإسلامي أحد علمائها في القرن الرابع الهجري، وهو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي القيرواني (ولد 324هـ – توفي 403هـ)، وقد أخرج كتابه "الرسالة المفصّلة لأحوال المعلمين والمتعلمين" الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهواني في كتابه "التربية في الإسلام"، وهو كتاب يشرح ويفصل رسالة القابسي الآنفة.
يقول الدكتور الأهواني عن كتاب القابسي وبيان أهميته: عنوان كتاب القابسي يُرشدنا إلى الاتجاه الذي سلكه في معالجة مشكلة تعليم الصبيان، فهي الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين، والأحوال والأحكام كلاهما مستمد من الواقع لا من المثال.
فقد ينصرف الذهن إلى أن هذه الصورة المذكورة عن الصبيان وما يتلقون من مواد مختلفة، وعن طريقة تعليمهم وتأديبهم وسلوكهم، وعن صلة المعلم بهم، ليست منتزعة من الواقع، بل هي المثل الأعلى الذي ينشده القابسي في التعليم.
وليس غريباً أن يسلك بعض المفكرين والفلاسفة طريقة مثالية في كتابتهم عن التربية؛ في الزمن القديم كتب أفلاطون عن التربية في الجمهورية، وفي العصر الحديث أخرج روسو كتاب "أميل" في تربية الطفل، وكلاهما مثالي لم يصف حقيقة الحال، ولم يأخذ الناس بجميع آرائهما بعدهما.
كثيراً ما يخرج المفكرون في مُثُلهم عن حدود القوانين الطبيعية والاجتماعية، ما يجعل تطبيق نظرياتهم العقلية ضرباً من المستحيل، فقد أراد روسو أن يعود بالإنسان إلى نوع من المعيشة البدائية الفطرية لا يستقيم مع حال الحضارة، ولا يتفق مع طبيعة العمران، ولم يكن القابسي مثالياً من طراز هؤلاء المربين، وإنما كان يصف الواقع لا ما ينبغي أن يكون، ثم هو لا يتعدى في أحكامه القوانين الاجتماعية.
والحق أن مرحلة التأليف المتخصص في مجال التربية كانت محل اهتمام جل الفقهاء، ولم يكن يشغلهم الاهتمام بكُبريات القضايا في عصرهم عن هذه المسألة المهمة؛ لكونهم رأوها إحدى المسائل الملحة التي تُكوِّن الضمير والوعي العام للمجتمع الإسلامي، ولهذا السبب بدأ التأليف فيها منذ عصور مبكرة، نراها قبل 1100 عام من الآن.
وإن لنا في ابن التبان المالكي التونسي (ت374هـ) الذي عاصر القابسي أبرز الدليل وأبينه؛ فلقد حكى تجربته هو الشخصية وأثرها في والده، يقول بعض المؤرخين في ترجمته: "كان من العلماء الراسخين، والفقهاء المبرزين. ضُربت له أكباد الإبل من الأمصار، لعلمه بالذب عن مذهب أهل الحجاز ومصر، ومذهب مالك، وكان من أحفظ الناس بالقرآن والتفنن في علومه، والكلام على أصول التوحيد، مع فصاحة اللسان، وكان عالماً بالفقه والنحو والحساب والنجوم".
لقد كان لرأي ابن التبان في مسألة تعليم وتربية الأطفال سابق تجربة، وكان رأيه على سبيل المثال في مسألة اختيار المؤدبين أثرٌ من تجربته هو الشخصية في مجال التربية والتأديب، وهو بهذا ينحو منحى القابسي في واقعية العلم، أو تجريبية التربية والتأديب.
قبل ذكر رأيه في مسألة اختيار المؤدبين علينا أن نعايش تجربته الشخصية التي تُبين لنا مثابرته في التحصيل والتأديب، ثم الاجتهاد والتأليف وأثرها في تغيير رأي والده، قال: "كنتُ أول ابتدائي أدرسُ الليل كله، فكانت أمي تنهاني عن القراءة بالليل، فكنتُ آخذ المصباح فأجعله تحت الجفنة، وأتعمد النوم، فإذا رقَدَتْ أخرجتُ المصباح وأقبلتُ على الدرس".
كان كثير الدرس، ذكر أنه درس كتاباً ألف مرة إلى أن قال لي أبي ذات يوم: يا بني ما يكونُ منك؟ لا تعرف صنعةً، واشتغلت بالعلم ولا شيء عندك. فلما كان ذات ليلة سمعته يقول لوالدتي: عرفت أني عُرّفت اليوم بابني؟ وذلك أني حضرت إملاكاً (عقد زواج) في مسجد سماه فوجدته ممتلئاً بالناس، ولم أجد مجلساً، فقام لي رجل من موضعه وأجلسني فيه، فسأله إنسان عني، فقال له اسكت، هذا والد الشيخ أبي محمد.
وقال آخر: خرج والدي محمد بن التبان يوماً من مسجد المسند، فزلق في طين، فبادر رجل وأخذ بيده، وقال لصاحبه: هذا والد الشيخ أبي محمد الفقيه. قال: فرجع وحرّض ابنه على طلب العلم، والتزم القيام بشأنه من يومئذ.
هذه التنشئة التي اهتم بها والده لما رأى إقبال الناس على ولده وهو لا يزال شاباً صغير السن وُسِم بالفقه والعلم، جعلته يحرّض الناس على ضرورة اختيار الأصلح والأفضل من المربين لأطفالهم.
فقد أُثر عنه قوله: "لا تعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين، فدينُ الصبي على دين معلمه، فلقد عرفتُ معلماً كان يخفي القول بخلق القرآن، ففطن له، فلما علم أنه يُطرد وقف بين يدي مكتبه (كُتّابه).
وقال لصبيانه: ما تقولون في القرآن؟ قالوا: لا علم لنا. فقال: هو مخلوق، ولا تُزالون عن هذا القول لو قُتلتم. فماتوا كلهم على هذا الاعتقاد. قال: وبلغنا عن معلم عفيف، رُئي وهو يدعو حول الكعبة ويقول: اللهم أيما غلام علمته، فاجعله في عبادك الصالحين، فبلغني أنه خرج على يديه نحو من 90 عالماً وصالحاً.
وكان يتعلّم عنده جماعة من أولاد الكتاميين (من قبائل المغرب الكبيرة)، ولا يأخذ منهم شيئاً، ولا يعلمهم يكتبون، يقول: لم يصلحوا بعد لذلك، حتى يصلح. فخرج كل كتامي علّمه على الكتاب والسنّة. وكان يعلّم اليتامى والفقراء لوجه الله عزّ وجلّ.
وكان صبيان الكُتاب يأتونه، بدجاج وفراخ وطير، يعطونه إياه، ويقولون صِدناه، لم يقبله منهم. فإذا قالوا له وجهه إليك آباؤنا قَبِلَه؛ لأن عطيّتهم لا تجوز.
وهو بهذين النموذجين يؤكد على واقعية التربية عموماً، أي التربية بالمواقف العملية التجريبية وبيان أثرها في نفوس المتعلمين من الأولاد الصغار؛ لأنها من العلوم والأساليب التي ينظر إلى الثمرة المرجوة منها في أبناء المجتمع.
كما ضرب مثلاً بالمعلم الصالح الذي خرج من تحت يديه 90 عالماً، وبالآخر الطالح الذي أثّر في عقائد الأطفال حتى مماتهم!
وحتى في العصور المتأخرة سار المغاربة على الدرب ذاته في الاستقصاء والتحري عن المعلم الجيد الذي يُرجى من ورائه الخير للأولاد، وقد ربط ابن الحاج العبدري محمد بن محمد (ت737هـ) في كتابه الماتع "المدخل" الصلة بين إتقان المربي وجودة الصبي الذي يتخرج على يديه، قائلاً: "وينبغي لآباء الصبيان أن يتخيروا لأولادهم أفضل ما يمكنهم في وقتهم ذلك من المؤدّبين، وإن كان موضعاً بعيداً فيختارون لهم أولاً أهل الدين والتقوى.
فإن كان مع ذلك عنده علم من العربية فهو أحسن، فإن زاد على ذلك بالفقه فهو أولى، فإن زاد عليه بكبر السن فهو أجلّ، فإن زاد عليه بورع وزهد فهو أوجب، إلى غير ذلك؛ إذ إنه كيفما زادت الخصال المحمودة في المؤدب زاد الصبي به تجملاً ورفعة.
تلك بعض لمحات من تاريخ التربية ومناهجها وطرائقها العملية المبكرة في تاريخ بلاد المغرب وتونس في العصر الإسلامي المبكر، ولعلنا نتبع هذه المقالة بأخرى تُبين ما وصلت إليه مناهجهم التعليمية والتربوية فيما بعد.
فقد أدركوا أن صلاح المجتمع، ومصدر إخراج العلماء الكبار إنما يكمن في متانة علم وأخلاق المؤدّب، وغرسه لأخلاقه وعلومه في الأطفال الصغار، لذا كانوا دائمي الحرص على اختيار المؤدّب الصالح لهذه المهمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.