"انظر إلى الأعلى وعلى عينيك أن تلازما الأرض".. مقولة تُستخدم في العادة في الثكنات العسكرية وعند التجنيد الإلزامي.
في بداية حديثنا عن هذا الموضوع يمكننا القول إن العراقيين، أبناء السنوات الممتدة من العام 1958، تاريخ تأسيس الجمهورية العراقية، وحتى آخر معركة قبلية أو دينية، أو صراع سلطة، أو مواجهة مع قوات الأمن في الوقت الراهن، قد تَعَسكروا طوعاً وقسراً، بكل زاوية من زوايا الحياة.
كلنا مسلحون بالفطرة فعلياً ومعنوياً.
يُخبركَ الخطيب الديني أن أفضل ميتة هي أن تموت بـ"حرب مقدسة"، أو أن تموت مظلوماً بحرب كبرى، أو تسقط قذيفة عشوائية على سقفك الذي لا يصد شيئاً.
ويخبرك أستاذ الجغرافيا بأن الحدود مقدسة، ويجب أن تموت في موضع عميق أو على تلة فيها، يجبرك الضابط على الموت مباشرة، ويوجهك بخطابات التضحية والشهادة، وما هو تأثير الدم على الأرض، وأن على الإنسان أن يموت ليربح شرفه، ولا أعلم شخصياً ماذا ستستفيد جثة من الشرف؟!
البرلمان العراقي يقترح قانون الخدمة الإلزامية
أقرت الحكومة المؤقتة السابقة، تحت قيادة مصطفى الكاظمي، قانون الخدمة الإلزامية، تحت ذريعة اللُّحمة الوطنية، وزرع القيم وغيرها من المرفقات، التي تعتبر من الدعايات المرافقة لتمرير هذا المشروع، والذي أدرجه البرلمان الجديد بعد تشكيل حكومة السوداني على جدول أعماله.
حاولت بعض وسائل الإعلام العراقية تأطير القصة، وتقديمها للمجتمع على أنها مهمة وطنية، حقيقية، واجبة، تنقذ جيل الشباب من الضياع، وبث الروح الوطنية فيه.
ورغم أن البرلمان العراقي قد أدرج المشروع فإنه واجه رفضاً عاماً من مجموعة برلمانيين جدد، والجيل الشاب الذي يشهد صراعاً مع جيل الآباء، وأدى ذلك إلى تأجيل البرلمان المشروع من جدول أعماله لإشعار آخر.
لماذا التجنيد الإلزامي؟
يعترف رجال النظام السياسي في العراق بأنه لا مفر من المواجهة مع هذا الجيل بفعل الانهيار المؤسسي للدولة العراقية على كافة الأصعدة، وكذلك تصاعد أعداد الشباب والجيل الحديث بصورة هائلة، دون أي مقومات للحياة، أو فرص لإدارة جزء من النظام السياسي.
والحقيقة المرة في العراق هي الاتفاق على ألّا مستقبل مع هذا النظام السياسي الذي لا ينفك عن تحميل مفاصل الدولة بالأعباء المستمرة من خلال الممارسات المتخلفة، بواسطة عملية التوظيف الحكومي، وحجم الترهل الوظيفي، وانخفاض مستوى الرفاهية وأزمة السكن.
يضاف لذلك انعدام الحلول لدى هذا السياسي بسبب الفساد المالي والإداري المستشري بكل مفصل من مفاصل الدولة، ناهيك عن انعدام الأمن كلياً، واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
ولم يجد هذا النظام فسحة للتوظيف بعد اندلاع أحداث تشرين 2019، بسبب امتلاء مؤسسات النظام بالموظفين، وحجم الترهل الوظيفي، وقد بدا اقتراح التجنيد الإلزامي الباب الواسع لعملية كبح جماح الجيل الشباب، الطامح لحياة كريمة أسوة بأولاد المسؤولين السياسيين وكبار موظفي الدولة.
يقابل ذلك عملية تطبيع إعلامي مع هذا الفصل من فصول الضياع، من قِبل شرائح اجتماعية أرهقها الفقر، والفاقة، رغم أن جزءاً من هذه الشرائح من خرّيجي الدراسات الأولية والعليا.
كذلك يتفق جزء من السياسيين على هذه القصة لسحب الضغط الذي يعانونه من عشرة أعوام، بسبب الغليان الاجتماعي، فيما يرفض معظمهم ممن يمتلكون ميليشيات، وفصائل هذه العملية لأسباب مستقبلية، تتعلق باستقرار المؤسسة الأمنية، ما يؤدي إلى حل تلك الفصائل والميليشيات أو مواجهتها.
ورغم ذلك لم يلقَ الموضوع رواجاً، وتم تأجيل المشروع بسبب الرأي العام العراقي، وفاعلية البرلمانيين الجدد داخل البرلمان إلى إشعار آخر.
كيف يعاملنا النظام العراقي؟
ينفرد النظام السياسي العراقي تاريخياً، بعد قيام الدولة العراقية الحديثة، بأنه نظام يجد في العسكرة العمليةَ المثلى للسيطرة على المجتمع، أو على الأقل سيطرة العسكر على جزء أكبر من المجتمع.
لم يكن هذا المنطلق الذي يستمد منه النظام خطوطه العامة خالياً من المد الفكري، كما لا يخلو النظام السياسي العراقي من النظرية الدينية.
كما يستمد هذا النظام خطوطه من أساسات اجتماعية، بوصف أساس المجتمع العراقي أساساً قبلياً، قائماً على التسلط الداخلي للقبيلة، والتناحر من أجل الأرض ومساحاتها الزراعية مع القبائل الأخرى.
وكذلك بصفته مجتمعاً ثورياً بوصفه مجتمعاً محتلاً لمئات السنين، ويحمل النزعة العنيفة تجاه الاستعمار، ومجتمعاً دينياً بوصفهِ مجتمعاً يدعو إلى التوسع الديني بواسطة الحرب كخيار مقدس للفرد المتدين.
ودائماً ما يقترح الذين يتداولون السلطة بطريقة عنيفة أن يكون الانضباط هو هدف النظام السياسي، وغايته، وذلك للمحافظة عليه من نفس آلية إسقاطه السابقة، ولذلك يَعتبر النظام السياسي العراقي بصورة عامة المواطنين عسكريين دائماً، متى ما دعت إليهم الحاجة.
حديثاً ومنذ عام 1958، لم يكن هناك تداول سلمي للسلطة في العراق، بين جهتين مختلفتين أو نظامين مختلفين بصورة طبيعية، دون عنف، فكانت هنالك مجموعة انقلابات بدأت باغتيال الملك فيصل الثاني في بغداد، وتسلسلت إلى إنهاء نظام صدام حسين بواسطة قوات التحالف الدولي بعملية عسكرية.
أما بعد عام 2003 فالبلد بصورة عامة تعسكر بصورة كاملة، سواء فعلياً بحمل السلاح أو مساندة ميليشيات وطوائف مسلحة، لكونه خاض معركة وجود طائفية أهلية.
لم يتقبل النظام السياسي الحديث عملية التمدن، واللحاق بالحضارة لأسباب كثيرة، ومنها منطلقات أشخاص النظام، وقياداته، والتي هي عبارة عن أزمة وجود تدعوهم إلى التسلح، والتأهب إلى القتال، والدفاع عن مواقعهم السياسية بكل لحظة.
كذلك يمكننا القول إن مجمل أفراد هذا النظام سنة، وشيعة، وكرد، لم تكن لديهم القدرة على التنظيم الاجتماعي، لأسباب فكرية تتعلق بنوع الفكرة المركزية المسيرة للنظام.
فلم يكن في هذا النظام من يؤمن بالحقوق الفردية، والتحرر، والتمدن، بل إن هناك طائفة ضخمة من رجالات هذا النظام، تدعو إلى التخندق الطائفي والقبلي والقومي، والسباق نحو من هو الأجدر بالبقاء تحت فوهات البنادق.
بناء الثكنات أسهل من بناء المصانع
بسبب الجو الذي صاغته العملية السياسية في العراق بصورة عامة نجد عملية إلغاء ممنهجة لكل الحلول الفردية، والخاصة للمواطن العراقي، بل يسعى النظام إلى ربط المواطن بالنظام كلياً من خلال الإعانات، والرواتب، وعدم فسح المجال للقطاع الخاص.
ولم يقم بتوفير فرص العمل من خلال رعاية مشتركة للسوق أو تنظيم الاستثمار لكي يكون الباب الأوسع للتشغيل، والرفاهية المعيشية، أسوة بكل دول العالم، بل تحول باب الاستثمار إلى عملية للسطو على مقدرات الدولة، وقد خلف هذا الإلغاء لسوق العمل الخاص، والفرص الاستثمارية، ملايين العاطلين عن العمل الذي يجدون في قطاع الحكومة الحل الأمثل للعيش.
في عام 2006 فما فوق كان التطوع للقوات الأمنية فرصة ذهبية لكل مواطن عراقي، متعلم وغير متعلم، بل وصلت الحالة إلى دفع مبالغ طائلة للتطوع بصفوف أي جهة أمنية لعدم وجود فرص العمل.
واستمر الموضوع إلى اعتبار أن عملية التطوع في صفوف القوات الأمنية هي عملية توظيف من أجل المادة بالدرجة الأولى، قبل أن تكون رغبة!
هذا كله ينحصر بعدم قدرة النظام السياسي على إنتاج فرص العمل أو خلق سوق للعمل أو فتح مساحات اقتصادية من بوابة الاستثمار وغيرها.
باعتقادي، فإن جيل الشباب العراقي بمعظمه لن يتعسكر بسهولة، ولن يسيطر عليه هذا النظام بأي شكل من الأشكال، خاصة بعد استيعاب الجيل الحديث لقيمة الدخول في المعترك السياسي، والتمثيل النيابي الذي حصل في تجربة الانتخابات الأخيرة.
تلك الانتخابات التي من خلالها الإيمان بإمكانية تغيير سلوكيات هذا النظام السياسي، وحتى لحظة إعلان تغييره كلياً وجذرياً، بما يتناسب مع الحضارة والتمدن، واللحاق بما وصل إليه النظام العالمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.