التصريحات التي أدلى بها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، خلال زياراته المتعددة إلى القيادات والوحدات العسكرية مؤخراً، تثير الكثير من الجدل، وتطرح العديد من التساؤلات حول مغزاها.
فسياق هذا الخطاب ليس سجالاً بشأن مستقبل العلاقات المدنية والعسكرية، كما يُفترض في إطار عمليات انتقال سياسي، حاسمة، تمر بها البلاد حالياً، ولكنها تأتي في خضم صراع سياسي تقع في القلب منه المؤسسة العسكرية، وقيادتها الحالية، وعلى رأسهم البرهان.
خطاب البرهان
خلال جولاته على مواقع عسكرية بالعاصمة الخرطوم، أدلى البرهان بتصريحات "ساخنة"، وفي جميع المناسبات، كان الفريق أول البرهان أكثر وضوحاً في طموحاته، وأجندته السياسية مقارنة مع المراحل الماضية.
ففي قاعدة حطّاب العسكرية حرص البرهان في خطابه على نفي وجود أي تسوية "ثنائية"، والمقصود هنا عدم وجود أي تسوية بين المكون العسكري ومجموعات ائتلاف "قوى إعلان الحرية والتغيير" والتي تمثل المكون المدني، والتي ربما تعيدها التسوية إلى ما قبل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وهذه التسوية التي يدعمها غريمه، وربما يكون أحد الذين يقفون وراءها، قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) وربما تمهّد لتدشين تحالف بينه وبين مجموعات مدنية قد يكون ذلك خصماً على البرهان، بينما تتحفظ عليها القوات المسلحة، أو الجيش، بحسب الدارج في الخطاب السياسي السوداني على بعض بنود هذه التسوية.
البرهان يهاجم الإسلاميين
هاجم البرهان التيار الإسلامي ممثلاً في "حركة الإسلاميين، والمؤتمر الوطني"، في ذات الخطاب، وحذرهم من مغبة "الاختفاء وراء الجيش"، وهو هنا يريد تعزيز أسهمه أمام "الخارج" بأنه الطرف الذي يمكن الرهان عليه لمنع عودة الإسلاميين ونظامهم.
وخشية البرهان من الإسلاميين ليست من امتداداتهم المفترضة داخل المؤسسة العسكرية، كما غيرهم من الأحزاب، ولكن كونهم أكثر المنظومات السياسية تماسكاً في البلاد بعد المؤسسة العسكرية.
وبالتالي يشكلون خطراً كامناً على طموحاته ومشروعه السياسي، لا سيما مواجهة التسوية التي تختمر حالياً، وما الحراك الجماهيري الذي انخرط فيه الإسلاميون بتشكيلاتهم المختلفة ما هو إلا دليلٌ على ذلك.
هجوم البرهان على الأحزاب السياسية
وأما في خطابه عند زيارته إلى منطقة "المرخيات" العسكرية، فوسّع البرهان من دائرة هجومه على الأحزاب السياسية -بجانب الإسلاميين، الذين هاجمهم في خطابه الأول- وشمل هجومه هذه المرة البعثيين والشيوعيين.
وهذان التياران، بالنسبة للفريق البرهان، لا يسعيان للعودة للسلطة، كما هو الشأن مع الإسلاميين الذين افتتح بهم موسم خطبه السياسية "النارية" لنفي اتهام له بإعادتهم للحياة العامة مجدداً، لكن لأنهما إما في طليعة القوى التي تستهدف القوات المسلحة وقيادته (الحزب الشيوعي)، أو تهاجم المؤسسة العسكرية للتكسب السياسي (البعث).
وهنا سار خطاب البرهان أمام الشرطة على ذات النهج بمهاجمة القوى السياسية التي تحرض على الشرطة وتسعى لإحداث وقيعة "بين الشرطة والشعب".
السياق السياسي الذي يتحدث فيه البرهان
بناءً على ما سبق، لا يُخفي قناع المؤسسة العسكرية حقيقة السياق السياسي الذي يتكلم عنه الجنرال البرهان؛ فالبرهان وهو يتحدث ويوجه خطاباته يمنة ويسرة مع اقتراب تسوية تقف وراءها الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية).
وهو سياق أيضاً تشكل وثيقة اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين أساساً له. وهنا يكمن أحد أهم العوامل الخفية وراء هذه الخطاب توقيتاً ومضموناً.
وفي ضوء هذا التطور، يريد البرهان إظهار تماسك ووحدة المؤسسة العسكرية تحت قيادته، ومع ذلك هناك انقسام واضح حيال هذه التسوية داخل مكونيْ المؤسسة العسكرية: قوات الشعب المسلحة، وقوات الدعم السريع التي يقودها نائبه -بالأمر الواقع- الفريق "حميدتي".
ويرى حميدتي هذه التسوية بمثابة "حصانة" للإبقاء على قواته في ظل ارتفاع المطالبات من داخل المؤسسة العسكرية ومن خارجها، بإدماج هذه القوات في قوات الشعب المسلحة.
وأيضاً -بالنسبة لحميدتي- كرافعة في تحقيق طموحاته السياسية بتوسيع قاعدته السياسية وراء التحالف مع حركات التمرد السابقة، خاصة في دارفور، والتي هي شريك في السلطة حالياً على قاعدة اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر/تشرين الأول).
مغزى خطابات البرهان
إجمالاً، يمكن قراءة مغزى هذه الخطابات بأن الجنرال البرهان يريد أولاً، وقبل كل شيء، تأكيد قيادته للمؤسسة العسكرية وتشكيلاتها التقليدية (القوات المسلحة، الشرطة، جهاز المخابرات العامة)، حيث يواجه انتقادات وتحديات جمة.
فالانتقادات لهشاشة قيادته للمؤسسة العسكرية وللبلاد، والتي عرّضت المؤسسات العسكرية للإذلال السياسي في سبيل استمراره مستخدماً في ذلك التراتبية العسكرية الصارمة، وكذلك تجيير المؤسسة لطموحاته السياسية.
وأما التحديات، فإنها تكمن في الحفاظ على مكاسب المؤسسة العسكرية التقليدية في ظل تحولات سياسية جذرية تضع المؤسسة العسكرية في موضع الاتهام والاستهداف.
بدا واضحاً، كذلك، أن أكثر ما يقلق الفريق أول البرهان هو عدم اليقين السياسي في حالة تمت تسوية جديدة تكون "بداية فترة انتقالية جديدة" بحسب بيان ممثلي الآلية الثلاثية (التي تضم الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي والإيقاد).
وذلك في بيانهم في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري حول تسلم الآلية تعليقات وملاحظات القيادة العسكرية على وثيقة اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، والذي حمل عنوان (السودان: بارقة أمل سياسي)، تمهيداً للإعلان عن تسوية جديدة.
وفي ضوء تسوية سياسية وعملية انتقالية جديدة مرتقبة بالبلاد، من المحتمل أن تكون المؤسسة العسكرية محل صراع حتى بين المدنيين أنفسهم.
وبالتالي يهدف قائد الجيش إزاء تلك التسوية المرتقبة إلى تكريس قيادته للمؤسسة العسكرية من جهة، وضمان مكاسبه السياسية ولكن الاستناد إلى المؤسسة العسكرية كقاعدة سياسية في مواجهة خصومه الذين يستندون على "حواضن" سياسية، كما أنهم ينافسونه أيضاً على الدعم الخارجي بجانب حراك داخلي لا يُستهان به قطعاً سيكون في مواجهته.
كذلك، وفي ظل الحديث المتواتر عن صراع، وانقسام محتمل داخل المكونات العسكرية، ربما يبرز إلى السطح أكثر فأكثر مع مخرجات المشاورات السياسية الجارية، شدد ممثلو الآلية الثلاثية أنه "ينبغي على المكون العسكري أن يكون موحداً في تبنيه ودعمه الكاملين للاتفاق المبرم مع المدنيين".
علاوة على ذلك، يستبق البرهان تلك التسوية المرتقبة، والتي يتوقع أن تكون "فوضوية"، ومضطربة نتيجة الصراعات بين المكونات المدنية حول "كيكة" السلطة والثروة، لتحذير القوى السياسية من مغبة التدخل شؤون المؤسسة العسكرية.
كما أنه يقدح في شرعية المدنيين لكونهم غير منتخبين، وأن الشرعية الثورية المدعاة يمتلكها هو نفسه بنفس القدر وأكثر!
وبحسب بيان ممثلي الآلية الثلاثية أيضاً "لا يريد المكون العسكري أن يتدخّل مدنيون غير منتخبين في شؤون الجيش خلال المرحلة الانتقالية".
ومن زاوية أخرى، يهدف البرهان إلى إرسال رسائل إلى الداخل كما الخارج، بأنه لن يسمح بانكشاف المؤسسة العسكرية لأي تأثيرات من خارجها يمكن أن تهز من قبضته كقائد عام للقوات المسلحة، أو تعمل على "تفكيك" المؤسسة العسكرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.