إحدى زوايا النظر التي ينبغي لكل مهتم بالشأن المصري فهمها جيداً، أن الجنرال العسكري، الذي حمَّل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كلَّ مصائب التاريخ المصري الحديث تقريباً، والَّذي ما فتئ يُحذِّر الناس من مغبة تكرارها؛ هذا الجنرال قد وضع أمامه هدفاً عملياً تحت مسمى نبيل، هو "تثبيت أركان الدولة"، لكي يتلافى لا المسببات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى الثورة، وإنما الأخطاء العملياتية التي وقع فيها القائمون على الحكم حينَها، منعاً لتكرارها، وقطعاً للطريق على أيِّ يناير جديدة مستقبلاً.
هنا في هذا السياق الخطير، لا بد ألا ننسى أيضاً أن السيسي القادم من سلاح المشاة، والذي كان قائداً للمنطقة الشمالية العسكرية، ثم الاستخبارات الحربية، إلى أن صار وزيراً للدفاع، ورئيساً للجمهورية، كان شاهداً على تفاصيل فنية دقيقة تخص سرعة وكيفية انتشار القوات إبان مظاهرات يناير، كما رأى كيف يمكن أن تتدحرج كرة النّار من مدينة لأخرى- من السويس إلى القاهرة- إلى أن تفقد الدولة السيطرة على الأرض، كما عايش كيف يمكن لمدينة، أو منطقة، أن تسقط بعيداً عن الإدارة المركزية لساعات أو لأيام، تماماً كما حدث في كرداسة 2013، وفي بعض مناطق رفح والشيخ زويّد منتصف 2015.
وبناءً على تلك المعطيات، صاغ القائد الطموح خطته لإعادة تشكيل العمران والجغرافيا الأمنية ومراكز الحكم في البلاد، بحيث يستطيع أن يقول بملء الفمِّ، على الملأ، إن لديه خططاً لنشر الجيش بطول البلاد وعرضها، في أوقات الطوارئ، خلال 6 ساعات فقط؛ لقطع الطريق على أيِّ فوضى، والتي تساوي في معجمه السياسي حالات تمرد أهلي واسع النطاق.
قوّات التّدخُّل السريع
لبيان مدى طموح السيسي السابق على صعوده رئاسة الجمهورية، هناك أدلة كثيرة، على رأسها تصريحاته المتكررة عن أحلامه الشخصية لمستقبل مصر التي ينشدها في ذهنه، وتخطيطه لمشروعات بعينها، مثل مدينة الأثاث شمالاً، والمحطة النووية غرباً، منذ أن كان وزيراً للدفاع، ويدخل في نفس النطاق تدشينه لما يُعرف في القاموس العسكري المصري المعاصر بـ"قوات التدخل السريع ذات التشكيل الخاص المحمولة جواً".
صدرت الأوامر العليا بتشكيل هذه الوحدات غير النمطية في الجيش المصري إبان فترة ولاية السيسي على وزارة الدفاع، وقد حضر السيسي حفل التدشين قبل وقت قصير من خلع البدلة العسكرية وترشحه للرئاسة، لتكون ظهيراً عسكرياً لتصوراته وأحلامه، إلى جانب قوات النخبة التقليدية في الجيش المصري، من حرس جمهوري وصاعقة ومظلات وقوات خاصة بحريّة.
للتبسيط، فإنَّ هذه القوات بمثابة "جيش مصري صغير"، ولكنه أفضل تسليحاً وأكثر احترافية من وحدات الجيش التقليدي، وتتميز عن الجيش التقليدي بسرعة الانتقال إلى مسرح الأهداف المنشود، والعمل في بيئات غير نمطية، مثل مكافحة تمرد عسكري في منطقة معينة، أو التصدي العاجل لخروج إحدى النطاقات الجغرافية المحلية عن السيطرة.
تتبع هذه القوات النطاق العسكري القاهري (المنطقة المركزية العسكرية)، وتتألف من وحدات متنوعة خفيفة الحركة، كثيفة القدرة النيرانيّة، ووفقاً لكلمة السيسي التي ألقاها في حفل تدشين تلك الوحدات، فإنّ تلك القوات ستقوم بالتدخل، لا خلال أيام من اندلاع أي تهديدات، وإنما خلال ساعات، أو أقل من ذلك.
ولم يسبق لهذه القوات الانتشار الواسع جغرافياً في مصر، إلا في سياق التصدي للتمرد القبلي الإسلامي المسلح شرقي البلاد (مجموعات ولاية سيناء)، بعد أحداث يوليو/تموز 2013، ولكنّها تعزز القوّات غير النمطية في الجيش والداخلية على نحو غير مسبوق، والتي رأينا وحدات منها على مضض، خلال يناير/كانون الثاني 2011.
مراكز السيطرة
في الغرف المغلقة، وفي الاجتماعات الداخلية، يشير السيسي، ضمن تقدير الموقف الخاص بأحداث يناير، أنّ أحد أسباب انهيار نظام الحكم الموجود حينها سريعاً أمام المظاهرات كان ضعف الاستعداد الأمنيِّ للنخبة السياسية الحاكمة، وضعف التنسيق بين أجهزة الدولة الحساسة، وعدم وجود خطط حقيقية للطوارئ، ونشر القوَّات بسرعة لقطع الطريق على تلك التمرُّدات.
وبناءً على تلك الخلاصة شديدة الأهمية، عكف السيسي، خلال العقد الحالي، على تأسيس مراكز قيادة وسيطرة رئيسية ذات صبغة عسكرية في مناطق مختارة، وتدشين أفرع لها في المحافظات والأقاليم، لتتكون من خوادم عملاقة تضمّ بيانات محدّثة وخرائط عن كلّ شاردة وواردة في البلاد، يجلس أمامها موظفون مهندمون، لتعضيد تبادل البيانات المشفرة، وتوجيه صانع القرار في غرفة التحكم المركزية إلى أفضل القرارات لإدارة الأوضاع في الميدان. مراكز تشبه المقرات التي تظهر في الأفلام الأمريكية، حيث تكون بها وسائل إعاشة وتكنولوجيا متقدمة، ومخابئ تحت الأرض لإدارة العمليات المعقدة.
مفتاح تلك المقرات في العاصمة الإدارية الجديدة، بعيداً عن القاهرة القديمة باتجاه الشرق، حيث أسَّس السيسي ما يُعرف رسمياً بـ"مركز قيادة الدولة الاستراتيجي"، على مساحة 22 ألف فدان، كما جرى إنشاء غرف وروافد لتلك المراكز في الأقاليم الكبرى، أبرزها ما يُعرف بـ"مركز التحكم الرئيسي للشبكة الوطنية والطوارئ"، أعلى هضبة المقطم، وفي إقليم القناة وجنوب البلاد.
ويُشرف ذلك الأخير، الذي افتتحه السيسي قبل أيام قليلة، على فرضِ الطوق الأمني المُحكَم على مدينة شرم الشيخ بالاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي، جنوب سيناء، خلال قمة المناخ الأممية، من حيث تأمين الوفود الدولية على أعلى مستوى، وعزل المدينة مادياً ورمزياً عن باقي القُطر المصري، وإدارة سياق طارئ لحشد كافة أجهزة الدولة لتنظيم حدث حساس على هذا النحو.
وجدير بالذكر، أن السيسي تحدث- خلال الافتتاح- عن البعد السياسي لهذا المركز الذي تكلف تدشينه أكثر من 3 مليارات دولار، ويعمل ضمنه قمر الاتصالات المصري الأول من نوعه، والذي أطلق عام 2019 بخبرات فرنسيَّة، حيث تحدث عن "الأشرار" وأعمال التخريب، التي تعني في قاموسه التذكير بما جرى قبل عقد من الآن، والتي يفترض أن يساعد المركز وظيفياً في إجهاضها من المهد.
القطع من المنبع
ضخَّ السيسي عشرات المليارات من الجنيهات أيضاً للإشراف على خطة تفريغ القاهرة من البؤر الملتهبة (العشوائيات الخطرة)، وهي خطة لها أبعاد اقتصادية وأمنية ودعائية؛ فتلك المناطق المتواضعة التي تركها أهلها قسراً كانت قريبة من المناطق الحيوية في القاهرة القديمة، وبالتالي فإن القيمة السعرية لها عالية جداً، وهو ما أغرى النظام باتخاذ تلك القرارات الجذرية، التي لم يجرؤ نظام مبارك على تنفيذها، بهدف ضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ الترويج لدور النظام الإنمائي محلياً، ورفع العبء عن كاهل أجهزة الدولة الأمنية، التي تجد صعوبات في التعامل مع تلك المناطق وقت الأزمات الاجتماعية والسياسيّة، والاستفادة من قيمة الأراضي في تلك المناطق.
لأسباب أمنية وتوسعية أيضاً، نقل السيسي مقرّات الجيش والشرطة القديمة إلى قلاع أكثر تحصيناً وأكثر تطوراً، وفي ذهنه شبحُ تجرُّؤ المواطنين على الاقتراب من تلك المناطق، بمواقعها السابقة، حينما حاصر المعارضون مقرات وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والحرس الجمهوري وماسبيرو في مناسبات سابقة.
كما دشَّن السيسي، بعيداً عن الكتل السكانية، مجمعات السجون الأكبر في العالم، والأكثر تطوُّراً، بحيث يمكنه الزجّ بأكبر عدد ممكن من المعارضين والجنائيين في أوقات الطوارئ، بأقلِّ قدر من الانتقادات الحقوقية الدولية، نظراً لما اتسمت به تلك السجون الجديدة من سعة وإحكام في المراقبة التكنولوجية وتكثيف للتأمين، ليكتمل المشهد: مراكز قيادة وسيطرة من ضمن الأكبر في العالم، وقوات تدخل سريع، وسجون عملاقة!
وفي النهاية، فإننا لا نستحضر ذلك من أجل تثبيط همم الداعين إلى التغيير السياسي والاجتماعي المشروع في البلاد، وإنما للتذكير بأنّ الدولة العميقة في مصر قد قطعت أشواطاً هائلة لتفادي السيناريوهات السابقة، وهو ما يستدعي التفكير في حلول ميدانية أكثر نجاعة في التعامل مع تلك المستجدات، إلى جانب الوعي بضرورة إجهاض هذه الترتيبات الأمنية السلطوية قبل اكتمالها؛ لأن تكلفة تفكيكها- بعد اكتمالها- ستكون أفدح بشرياً ومادياً، فالسيسي يحلم بمأسسة حالة الاستثناء، وتدشين سلطوية شرق أوسطية يُشار إليها بالبنان في مركزيتها وهيمنتها وتقويضها للتنظيمات الاجتماعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.