استكمالاً لمقالنا السابق من سلسلة حلقات، حول قراءة كتاب "الجاسوس النبيل" للصحفي والمؤرخ الأمريكي كاي بيرد، كنا قد وصلنا لتحذيرات لسلامة من محاولة اغتياله عن طريق رسائل مفخخة، واليوم نواصل مع سرد قصتنا في ثاني مقالاتنا حولها.
رداً على عمليات منظمة أيلول الأسود، قامت إسرائيل باغتيال عشرة من قيادات الفلسطينيين، معظمهم لا صلة لهم بالحركة، ولكنهم كانوا أهدافاً سهلة، وكان علي حسين سلامة على رأس قائمة الاغتيالات الصهيونية.
نصح الضابط إيميز سلامة بتغيير شقته في شارع فردان إلى مكان آمن، وتأكدت مصداقية تحذيراته، بعد اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين يسكنون شارع فردان، ثم اغتال الموساد عاملاً مغربياً ظناً أنه سلامة، وكذلك اغتالت أديباً جزائرياً بدعوى علاقته بالفرقة 17.
وحينها ردت القوة 17 باغتيال أحد موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن.
وقد أرسل الضابط الأمريكي إيميز مستنكراً وصول عمليات منظمة أيلول الأسود إلى الأراضي الأمريكية؛ ثم زادت الاتصالات بين الطرفين.
أوصل سلامة رسالة إلى إيميز بأن حركة فتح لم تعد تؤمن بسياسة الاغتيالات، وأن عرفات لم يوافق إلا مكرهاً على إنشاء منظمة أيلول الأسود، وأن هذه المنظمة قد استوفت غاياتها، وأن فتح لن تلجأ للاغتيالات مرة أخرى، وطلب سلامة إجابات عن أسئلة قدمها الرئيس الراحل ياسر عرفات عن مقاصد أمريكا بالمصالح الفلسطينية.
من جهته، أكد إيميز لرؤسائه أن المنظمة باتت مقتنعة بأن إسرائيل قامت لتبقى. رد الأمريكان برسالة نُسبت إلى وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر في وثيقة لا تحمل توقيعاً، مفادها أن الولايات المتحدة مستعدة للمساهمة بشكل فعال لصالح الفلسطينيين لكي يعيشوا حياة طبيعية.
وفي الحقيقة، فقد كان كيسنجر يغري الفلسطينيين بالجلوس على طاولة المفاوضات.
أما الرئيس الراحل ياسر عرفات فقد برهن على جديته في المفاوضات، بإرسال رسائل عن طريق ملك المغرب، وتلت ذلك مجموعة من اللقاءات بين مدير مكتب الوكالة في المغرب والأخوين هاني وخالد الحسن.
أبلغ كيسنجر إسرائيل بهذه المحادثات السرية، وعمَّ الغضب حينها الدوائر الإسرائيلية، بسبب أن أمريكا تتعامل مع علي سلامة، مدبِّر عملية ميونيخ. خصوصا أن هذه اللقاءات تمخضت عن اتفاق بين أمريكا والمنظمة، يمكن أن نسميه اتفاق عدم اعتداء، حينما أكد لأمريكا أن سلامة هو من أحبط محاولة اغتيال كيسنجر، عندما وصل إلى بيروت خلال جولاته المكوكية، إثر حرب رمضان، ورغم أن كيسنجر لم يشعر بالامتنان، فإن الدبلوماسيين الأمريكيين في بيروت أصبحوا يعتمدون على سلامة وفريقه لحمايتهم الشخصية.
يرى مؤلف الكتاب أن هذه المحادثات كانت عاملاً مهماً، فقد أخذت المنظمة تبتعد بسرعة عن استراتيجية الكفاح المسلح، وبدأت تتحول إلى حركة سياسية.
وصل سلامة ورجاله إلى واشنطن لترتيب زيارة عرفات إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، واجتمع سلامة مع مسؤول الوكالة الجديد في لبنان، واتفق الطرفان على تفاهمات أمنية.
وفي تلك الأيام نُقل إيميز إلى مكاتب الوكالة الرئيسية في أمريكا، وهناك واصل إدارة العلاقة مع سلامة، ولكن عن طريق موظفين في مكتب بيروت. واجه إيميز نقداً شديداً من أحد رؤسائه الذي اعتبر أن قناة التواصل بهذه الطريقة مع سلامة قد بولغ في أهميتها.
وعلق مرة قائلاً: إذا كان إيميز لا يشرب الكحول مع أصدقائه فكيف يمكنه تجنيدهم.
لم يكفّ إيميز عن محاولاته مع سلامة، فقد كان يشجعه على أن يدلي بتحليلاته المستقلة عن تحليلات عرفات، أملاً في أن يقود ذلك إلى خلاف مع الرئيس الراحل، لكن سلامة أجاد اللعبة.
تطورت الأمور في بيروت سريعاً تجاه الحرب الأهلية؛ مما زاد من أهمية سلامة عند الأمريكان، فقد حصل إيميز من سلامة على تعهد بحماية أمن السفارة الأمريكية الواقعة في المنطقة التي تسيطر عليها المنظمة في رأس بيروت.
وكجزء من الاتفاق بين الجانبين وافقت الوكالة على تدريب بعض رجال الحراسة الخاصة بالسيد عرفات!
من الأحداث البارزة آنذاك مقتل السفير الأمريكي وأحد مساعديه خلال تفجير السفارة الأمريكية في 18 أبريل/نيسان 1983، وكان ذلك في المنطقة المسيحية التي لا يصل إليها نفوذ سلامة، وقد أمَّن سلامة أمر استعادة جثة السفير، وترحيلها إلى واشنطن، كما أمَّن إجلاء 263 من منتسبي السفارة الأمريكية.
معلومات الاستخبارات الأمريكية حينها كانت تفيد بأن سلامة يحتفظ بعلاقات متميزة مع كل أطراف الحرب في لبنان، حتى مع بشير الجميل الذي كان عميلاً مدفوع الأجر لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية – كما يقول الكتاب-.
وحين عُقد الاجتماع الشهير بين بشير والإسرائيليين في هرتسيليا بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وافق بشير على تزويد الموساد بمعلومات عن نشاطات سلامة وتنقلاته في بيروت.
يقول الكتاب إن بشير لم يفعل ذلك!
فمن المعروف أن سلامة كان مع ألا ينحاز الفلسطينيون إلى أي طرف لبناني. ودلل على مصداقية كلامه، عندما تدخل للإفراج عن داني شمعون قائد منظمة النمور الذي أسرته قوة من رجال منظمة التحرير.
كان ضباط الوكالة الأمريكية يلاحظون أن نجم سلامة آخذ في الارتفاع في سماء منظمة التحرير؛ بل كانوا يتوقعون أن يكون وريث عرفات، حين حاولت الوكالة وضع سلامة تحت الرقابة الإلكترونية، وسجلوا عليه بعض خلواته الغرامية، واعتبروا ذلك أمراً مشروعاً.
على إثر ذلك، نصح الأمريكان سلامة بأن يأخذ جانب الحذر، وذكروا له أنه مستهدف من قِبل الإسرائيليين، وانتقدوا إفراطه في عدم المبالاة، خاصة أنه تعرض لثلاث محاولات اغتيال من قبل.
في أواخر عام 1976 إثر فشل الرئيس الأمريكي جيرالد فورد في انتخابات الرئاسة، أقنع إيميز مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية آنذاك جورج بوش بأن يدعو سلامة لزيارة واشنطن.
ورغم اعتراض كيسنجر، فإن بوش أقنع الرئيس المنتخب كارتر، ووزير خارجيته فانس بأن هذه الزيارة تصب في خدمة المصالح الوطنية الأمريكية، اعترافاً بدوره في إخراج الأمريكيين بسلام من بيروت.
شعرت منظمة التحرير بفخر عظيم لهذه الدعوة، واعتبرتها دعوة رسمية، وأبدى سلامة رغبته في اصطحاب جورجينا رزق، ملكة جمال العالم اللبنانية -التي ستصبح زوجته- إلى هاواي وديزني لاند الأمريكيتين، وقد ذهبوا جميعاً حينها بأسماء مستعارة، وقد اجتمع سلامة لخمس ساعات مع مسؤولي المخابرات الأمريكية.
(يُتبَع)
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.