هل يمكن لعلم التأويل أن يقوم بما يعجز عنه غيره، وتحديداً العلوم السياسية، والسوسيولوجية، في فهم طبيعة بعض الأحداث، أو الصراعات على الساحة الدولية أو في مكان ما على الخريطة؟
ولنكن أكثر تحديداً، ونخصص الحديث عن الحالة الإيرانية، التي شغلت ولا تزال الخبراء والمحللين، والمراقبين السياسيين، والاستراتيجيين خلال المائة عام الأخيرة؛ حيث يتابع كل هؤلاء، وغيرهم الملايين في كل دول العالم سواء المؤيدين أو المعارضين للنظام الحالي، المظاهرات التي اندلعت في بعض المدن والأقاليم في إيران منذ سبتمبر/أيلول الماضي وعلى فترات متقطعة.
ويطرحون العديد من الأسئلة على شاكلة: هل تكون هذه المظاهرات شرارة بداية لمظاهرات مليونية تسقط نظام الملالي -كما يفضل البعض تسميتهم- وتنضم إيران إلى غيرها من الدول التي سقطت في منطقة الشرق الأوسط والتي تلقب إعلامياً بدول الربيع العربي؟
هل الفتيات الإيرانيات اللواتي يعتبرن وقود ومحرك تلك المظاهرات الأخيرة قادرات على إلهاب حماس الشباب الإيراني، ودفعه من جديد، ليكرر نفس السيناريو الذي قام به في أواخر السبعينات من القرن الماضي وانتهى بإسقاط عرش الطاووس محمد رضا بهلوي؟
سأطرح سؤالاً آخر يساعدنا في الإجابة على تلك التساؤلات، ويزيد من عمق فهمنا للحالة الإيرانية وهو: هل الطريقة التي سقطت بها أنظمة دول الربيع العربي مناسبة مع إيران؟
علم التأويل والحالة الإيرانية!
يُسهّل علينا علم التأويل دون غيره فهم الحالة الإيرانية، لأنه قادر على الغوص في تاريخ إيران الحديث، والقديم، وربطه مع تاريخ الشيعة، والتشيع دينياً، وسياسياً، وأيديولوجياً ورصد وفهم عشرات الأحداث المهمة هناك خلال العقود الأخيرة.
كذلك يعيد قراءة ما بين سطور مئات الكتب، والمراجع، والأدبيات التي تشرح الوضع والتركيبة في إيران، وهي معقدة ومتداخلة، وإرجاعها إلى أصولها الدينية، والنفسية والاجتماعية، ثم السياسية، والديموغرافية، وهو ما لا يمكن لأي علم آخر القيام به.
أسباب خروج المظاهرات في إيران؟
ما يحدث في إيران من وقت لآخر، من خروج المظاهرات المعادية للنظام هناك، والتي تريد إسقاطه يكون لها أسباب مختلفة، وأغلبها، هو رد فعل لحوادث انتهاك لحقوق الإنسان أو قتل أشخاص على يد الشرطة أو الحرس الثوري، وهو ما حدث مؤخراً من مقتل فتاتين بسبب التعذيب؛ الأولى في سبتمبر/أيلول الماضي، وهي الفتاة الكردية مهسا أميني، ومؤخراً مقتل نسرين قادري.
حيث وجدت فيهما قوى المعارضة فرصة سانحة لتهييج الشارع وحشد المتظاهرين، فاستجاب القليل من الرجال، والكثير من الفتيات، والنساء اللاتي يردن التحرر من "القيود الصارمة" على الملبس، والسلوكيات العامة التي يفرضها النظام منذ إعلان الجمهورية الإسلامية على يد الإمام الخميني عام 1979.
وبالتالي يمكن وصف المحرك الرئيسي للشارع الإيراني هذه المرة بأنهم النساء رداً لمقتل اثنتين منهن.
لماذا لا يمكن أن يسقط النظام الإيراني؟
واقعياً وبحسب تأويل وفهم التاريخ الحديث لإيران، منذ قيام الثورة الإسلامية، وبمتابعة وتأمل تطور الأحداث السياسية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية هناك، يمكن لأي باحث موضوعي القطع بأن المظاهرات الأخيرة، وغيرها من سابقاتها لا يمكنها وحدها إسقاط إيران أو النظام الحاكم هناك.
صحيح أن المجتمع الإيراني تطور كغيره من المجتمعات خلال العقود الأخيرة، ويعاني من ضغوطات، ويواجه تحديات داخلية، وإقليمية، ودولية، لكنه ما زال متماسكاً ولو ظاهرياً ويصعب تفكيكه أو التوقع بانهياره بسهولة.
وذلك يرجع لأسباب عديدة، وخلفيات يعرفها، ويفهمها من عايش أو قرأ عن إيران في أواخر حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وإبان انطلاق "ثورة الخميني"، وسطوع نجمه، وكيف استطاع تأسيس نظام جمهوري إسلامي، فريد من نوعه مهما اختلفنا أو اتفقنا معه؟
وأتذكر مقولة عالم الاجتماع، وخبير الأمم المتحدة المصري الراحل الدكتور أحمد المجدوب في إحدى الجلسات التي جمعتني به، عندما كنت أسجل مذكراته، وهو يتحدث عن إيران الحديثة، وقد وصف الدستور الإيراني بأنه الأكمل على وجه الأرض، وأن الثورة الإسلامية التي قام بها الخميني كادت تصل لحد الكمال وأنها فريدة في التاريخ الإسلامي كله، وحققت ما لم يحققه غيرها.
وأنتهز الفرصة وأرشح للقارئ العربي، الذي يرغب في فهم ما يحدث في إيران كل فترة، ولماذا لا تستمر المظاهرات أو الاضطرابات هناك حتى يسقط النظام الحاكم، أن يقرأ كتابين غاية في الأهمية لقامتين كبيرتين؛ الأول "مدافع آية الله" للراحل الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، والثاني "إيران من الداخل" للمفكر الكبير الأستاذ فهمي هويدي، والكتابان فيهما من الأدلة القاطعة على أن شخصية الإمام الخميني شخصية فريدة من نوعها أسّست، ووضعت أسساً قوية لدولة عصرية لها مرجعية دينية، وهو الإسلام والمذهب الشيعي.
وقد استندت إلي هذين المرجعين الهامين في دراستي عن عقيدة الانتظار في الأديان الثلاثة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية.
وتوقفت عند عقيدة الانتظار الشيعية، والتي خلصت منها إلى أن شخصية الإمام الخميني دون غيرها تجتمع فيها معظم العلامات التي ذكرتها كتب التراث الإسلامية حول شخصية المهدي المنتظر.
بل إن الإيرانيين أنفسهم إبان انتصار الثورة، وازالة حكم الشاه رفعوا شعار "لقد وجدنا مهدينا ما دام المهدي لم يظهر أو حتى يظهر المهدي".
الشعب الإيراني الذي ثار على نظام الشاه، وضحى بالغالي، والنفيس حتى يسقطه، هو شعب متشبع بتراث كبير، وتاريخ طويل، وعميق، هو التاريخ الشيعي المليء بالمظلومية،
ومعروف عنه القدرة على التحمل، في سبيل تحقيق هدفه وهو في معظم تاريخه شعب ذو أصول، وأبعاد دينية، فهل نتخيل أن يحارب هذا الشعب أو يتخلى بسهولة عما حققه، وأنجزه بانتصار الثورة، وإقامة أول دولة إسلامية قوية يحسب لها ألف حساب في المنطقة والعالم؟
وبالطبع لا، ولكن ما يحدث هو استجابة جيل الشباب للمتغيرات، والمغريات من حوله، وينساق وراء "نعرات المعارضة" بضرورة التغيير لنيل مقدار أكبر من الحريات، سواء في الحياة الاجتماعية أو السياسية.
طموح المرأة الإيرانية
فالمرأة الإيرانية، خاصة الفتيات يتُقن ويتطلعن إلى تلك اللحظة التي يصبح لديهن الحق في الخروج إلى الشارع دون ارتداء حجاب، والحق في أن يتمتعن بحريتهن الشخصية، كأن يشابكن الأيدي في الشارع مع حبيب أو صديق، أو ربما المجاهرة بالتدخين أو السماح لهن بالمشاركة في الحفلات الغنائية التي تضج بها الساحات في كل دول المنطقة من حولهن.
هذا هو التغيير في أبسط ملامحه، والذي تطالب به بعض النساء الإيرانيات، ومن يناصر قضيتهن.
ولم لا، وقد بدأت السعودية والتي كان البعض يصنفها من بين أكثر دول الإسلام والمنطقة "تشدداً"، قد بدأت في النهل من معين هذا التغيير، ولعل علم التأويل يساعدنا في فهم العقلية النسوية، المعاصرة في إيران، خاصة الفتيات المتظاهرات عندما يصررن على الظهور برؤوسهن دون أي غطاء أو حجاب، في رسالة واضحة ندرك منها أن المظاهرات الأخيرة تطالب بالتحرر للنساء من القيود.
ولأننا نعرف أن التجربة الديمقراطية، وممارسة الحقوق السياسية في إيران، لا غبار عليها ومؤكدة بنتائج الانتخابات النزيهة التي تدهش العالم، وبذلك تغيب مطالب الحرية السياسية والتعبير عن الرأي عن أجندة المتظاهرين، إلا إذا اعتبرنا حرية نشر فيديوهات الرقص من الضروريات التي لا غنى عنها للفتاة الإيرانية!
ومن ثم نفهم من بين السطور وتطور الأحداث أن سقوط دولة بحجم إيران وعقيدتها الشيعية القوية ليس بالأمر السهل، حتى إذا لم يستجب النظام لمطالب التحرر تلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.