يعد الشيخ الغزالي، رحمه الله، من أشهر المفكرين وعلماء الإسلام الذين أنتجوا أفكاراً مخالفة للمعتاد، من حيث تناولها لقضايا سياسية واجتماعية وتساؤلات تخص الإنسان المسلم بشكل خاص والأمة الإسلامية جمعاء بشكل عام. ففي وقت سلط خلاله عدد من علماء المسلمين الأضواء على سفاسف الأمور، من شكليات وكماليات في الدين، عمد الشيخ محمد الغزالي إلى إعادة إحياء العقل المسلم من خلال انتقاده لبعض القراءات والتفاسير التي تنطوي على عدد من المغالطات المنطقية.
حمل الشيخ محمد الغزالي أفكاراً جديدة تنفي مزاعم بعض الشيوخ الذين افتروا على دين الإسلام، بأن ادعوا أن تعليم النساء حرام شرعاً، وقد شهد على هذه الافتراءات التي كانت سائدة بين شيوخ المسلمين عدة علماء معاصرين، من بينهم الشيخ طه جابر العلواني، الذي تتلمذ في طفولته على يد شيخ نهى عن تلقي المرأة للعلم ودفع بذلك تلاميذه إلى حرمان نساء أسرهن من حق التعليم، وقد تعرض الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، لسيل من السباب والاتهامات الباطلة بالكفر والزندقة بسبب مواقفه الفقهية التي تخص النساء وتنزع سلطة الدين من أيادي من يفترون على الله ورسوله لغاية لهم في أنفسهم. ﴿ فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [ سورة آل عمران: 94]
ورغم ما طاله من أذى، تمسّك الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، بموقفه مستدلاً ببراهين العقل وحجج القرآن والسنة، وتميّز عن غيره من الأئمة والدعاة بحثه الصريح على اتباع سنّة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في تناول مفكري العالم المسلم لعلاقة الرجل والمرأة، والتي لا بد أن يكون لها الاحترام المتبادل والشراكة التي من شأنها أن تقوي أواصر الارتباط، والذي يفترض فيها أنها بنيت على مودة واحترام، ليتمكن بذلك كل من الرجل المسلم والمرأة المسلمة – على حد سواء – من تحقيق الغايات الربانية والمقاصد الشرعية من العلاقة الزوجية. ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [ الروم: 21]
وإلى جانب ذلك، فإن علاقة المرأة المسلمة بالرجل المسلم لا تقتصر فقط على المودة التي تستوجبها العلاقة الزوجية السليمة، بل إن علاقة المرأة والرجل تكون في عديد من الأحيان وسيلة لتبادل المعارف والخبرات، وقد تكون المرأة على قدر من الإلمام بمجال معين من العلوم، فلا ضرر ولا ضرار إذن في تلقينها للرجل أصول ذلك العلم وأسسه ومساعدتها له على تحصيل ما شاء تعلمه من معارف، وهذا لا يتناقض في شيء ودأب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصحابته، رضوان الله عليهم.
وقد فرّق الشيخ محمد الغزالي بين الرأي الشخصي والتأصيل الشرعي لتولي المرأة لمجموعة من المناصب العامة، إذ بالرغم من أن كثيراً من الشيوخ والمفكرين الذين عاصروه قد عمدوا إلى تغليب حجج السلطة؛ ليستنكروا على النساء ولوجهن لبعض المجالات التي تبعدهن عن "الدائرة الفطرية" الخاصة بهن، واستشهدوا بأقوال لمفكرين راسخين في علم الشريعة، إلا أنهم بالمقابل فشلوا في الاستدلال بنصوص قرآنية أو أحاديث صحيحة تدعم مزاعمهم. وانطلاقاً من هذا المثال، أكد الشيخ محمد الغزالي على أهمية الفصل بين ما يصرح به العلماء من أقوال انطلاقاً من آرائهم وقناعاتهم الشخصية وبين الأحكام الشرعية التي يطلقونها والفتاوى التي يصدرونها، وذلك تفادياً لأي افتراء على الله، عز وجل، أو تضليل لعباده.
كان الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، يرى في تحصيل المرأة المسلمة للعلم والمعرفة، وفي نجاحاتها المستمرة، وحتى تفوقها الأكاديمي على الكثير من الرجال مبعثاً للفخر والاعتزاز، فقد كان يرى في ذلك انتصاراً للأمة الإسلامية جمعاء، ولرسالتها التوحيدية النبيلة. وذلك لأن العلم هو اللغة الوحيدة التي باستطاعة المؤمن أن يحاور بها العالم الذي لا يعرف من الإيمان شيئاً، فالعالم المؤمن يكتشف أسرار الكون، ويزداد بذلك تمسكاً بيقينه وإيمانه بوحدانية الله، سبحانه وتعالى، وعظمته بعد أن رأى عجائب قدرته، عز وجل، وهو بذلك يثير فضول العالم الذي لا يصدق بوجود الله لمعرفة الأسباب التي قد تجعل شخصاً مطلعاً على علم يفسر كل شيء يؤمن بفكرة لا دليل ملموس له على صحتها. ويكون الأمر أكثر إثارة للتساؤلات إذا كان هذا العالم امرأة مسلمة قد شقت طريقها في مجال العلم رغم تحفظات المجتمع.
ثم إن الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، قد حذّر من أزمة الأولويات التي تعيشها الأمة المسلمة، خاصة في الأوساط الفكرية، حيث يصب بعض الشيوخ جل اهتمامهم في نزوات المرأة المسلمة وأخطائها الصغرى التي توضع تحت المجهر لتشتت انتباهنا عن القضايا الكبرى والمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات المسلمة. فقد ترى في البيت الواحد قدراً هائلاً من الظلم والكذب والافتراء وارتكاب الموبقات والكبائر، ويبقى فيه سلوك نساء ذلك البيت الحديث الذي تمل الآذان من سماعه من كثرة التكرار.
تواجه الأمة المسلمة إذن، حسب ما ورد عن الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، أزمة أولويات تقود مفكريها ومثقفيها إلى التضييق على المرأة وانتزاع ما منحها دين الإسلام من حقوق عنوة منها. فبدل أن يحاول العالم المسلم معالجة مشاكل عويصة متعلقة بالهوية المسلمة في ظل متغيرات جيوسياسية على صعيد عالمي، فإنه يحول عجزه وكسله الفكري إلى طاقة وفيرة يستخدمها في اختراع أحكام جائرة في حق النساء المسلمات، وابتكار مزاعم لا أساس لها من الشرع والدين، كما لو كان يحاول استرجاع شيء من قوته وتفوقه، خاصة وهو يعيش حالة مزرية من الضعف والانحطاط. ما الحل إذن؟ لا يقدم الشيخ الغزالي حلولاً في دقيقة لإشكال بهذا القدر من التعقيد، وإنما يحثنا على التخلي عن الكسل الفكري، ويسعى من خلال أعماله الخالدة وإنتاجاته الغزيرة ومحاضراته الشيقة إلى إعادة إحياء عنصر التفكير النقدي لدى الشباب المسلم، والذي يُفترض به أن يحمل على عاتقه هموم الأمة ومتاعبها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.