وجودية سارتر في الميزان.. ماذا تعني مقولة “الإنسان مدان بالحرية”؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/27 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/27 الساعة 08:56 بتوقيت غرينتش
رفض استعمار الجزائر وقاتل النازية.. ما لا تعرفه عن الفيلسوف جان بول سارتر/AFP

ساد التيار الوجودي في فرنسا ومعظم أنحاء أوروبا، في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وقد لفت هذا المذهب الفلسفي نظر الأجيال الصاعدة لِما فيه من فردانية، وإعلاء من قيمة الإنسان، بوصفه كائناً حراً ومستقلاً في أفكاره وخياراته عن المنظومات الشمولية وعن جميع الإكراهات الخارجية في الحياة. 

ظهرت الوجودية الحديثة في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من انهيارات نفسية وإحباطات أصابت الإنسان، ممّا جعله يفقد إيمانه بالمسلّمات العقلية والمركزية التي أنتجتها مرحلة الحداثة الأوروبية في عصر التنوير، والتي جعلت العقل مركزاً لفهم العالم ومشكلات الإنسان.

إن الوجودية الملحدة التي بدأت مع هايدغر واستمرت مع سارتر لتغزو العالم هي أحد إفرازات ما بعد الحداثة في تشظيّها وتفككها، وفي ثورتها على سلطة العقل، إذ توجهت إلى أعماق الإنسان وعاطفته للكشف عن الوجود ومعناه. وقد كان الحدس والمنهج الظاهراتي هما اللبنتين الأساسيتين اللتين ارتكزت عليهما الوجودية، لتعطي لعالم العبث قيمة يصنعها الإنسان بوصفه مبدعاً للقيم وخالقاً لها.

سارتر و الوجودية
جان بول سارتر وسيمون بولفوار

مع سارتر صارت الوجودية موضة ذلك العصر، وانتشرت كالنار في الهشيم بين أوساط المثقفين وفي المقاهي الباريسية، وامتدت إلى الفنانين والملصقات الإعلانية، وتبنّاها العديد من منحرفي السلوك والخارجين عن القانون بحجة انتمائهم للوجودية، وهناك من انتحر أو انعزل عن واقعه الاجتماعي والإنساني، ممّا حدا بالبعض أن يوجهوا أسلحة الاتهام إلى الوجودية بوصفها فلسفة انهزامية تشاؤمية، هدفها إشاعة الفوضى والانحلال الخلقي في ظل عدم وجود قيم عليا وتصورات حتمية يستند إليهما الإنسان، الأمر الذي دفع بسارتر أن ينبري للدفاع عنها في محاضرته التي أصبحت كتاباً شهيراً فيما بعد، وكان عنوانه "الوجودية مذهب إنساني".

الوجودية مذهب إنساني 

كان هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها سارتر في نادي مانتينا في باريس عام 1946.

إذ أراد أن يخلّص الوجودية من الأوهام والأخطاء التي علقت بأذهان البعض عن ذلك المذهب، وأراد أن يوضح أن الكثير من مدّعي الوجودية لا يمثلونها، وتحديداً أولئك الذين يعتبرون الحرية مجرد فوضى مطلقة، وعدم التزام، وتنصّل من المواقف والمسؤوليات.

الوجودية فلسفة تجعل الحياة ممكنة عندما يكون الفرد مواجهاً لذاته، حراً يختار لنفسه ما يشاء. 

 يشير سارتر إلى أن هناك مأخذين من الشيوعية والمسيحية حول تلك الفلسفة؛ إذ يرى الشيوعيون أن الوجودية قائمة على الذاتية الخالصة التي يدركها الإنسان في عزلته ووحدته، ومن ثم لا يستطيع أن يستعيد تضامنه مع الآخرين الذين يوجدون خارج ذاته، ويرى بعض الشيوعيين أن الوجودية هي نتاج الفكر البرجوازي، وفي كثير منها تشبه جوهر الليبرالية أو الاشتراكية الراديكالية، وأنها تناقض نفسها في بعض المفاهيم الملتبسة والغامضة التي تتحدث عن الحرية والالتزام والمسؤولية.

أمّا من الناحية المسيحية، فيرى المتدينون أن الوجودية تنكر وصايا الله وتلغي كل القيم الجدية في حياة البشر، والتي تعتبر قيم أبدية في الوجود الإنساني ومن ضمنها الأخلاق والشرائع.

 الوجودية في نظر سارتر هي فلسفة عمل والتزام وأخلاق بالدرجة الأولى، تضع مصير الإنسان بين يديه، وتدفعه للعمل الذي يجعله يستمر في الحياة، والوجودية هي التي تضفي الكرامة على الإنسان، ولا تعامله كشيء من الأشياء، أو تعتبره غاية أو وسيلة.

فلا واقع خارج العمل في الفلسفة الوجودية، والإنسان ليس إلا مشروع الوجود الذي يتصوره، ووجوده هو مجموع ما حققه، والإنسان مجموع أفعاله وحياته.

إن الوجودية صنفان؛ وجودية مؤمنة، ووجودية ملحدة، وكلا الصنفين يتفقان على أن الوجود يسبق الماهية، وهو المبدأ الأساس الذي ترتكز عليه الوجودية برمتها.

 في مبدأ الوجود السابق على الماهية

يرى سارتر أن هناك أشياء عينية تمتلك فكرة الماهية السابقة على وجودها، وهذه الأشياء في الوجود المادي؛ فعندما يقوم نجار مثلاً بصناعة منضدة أو طاولة، فإن هذا النجار يكون لديه فكرة صاغها عن المنضدة، وطبقاً لتجربة سابقة أكسبته جزءاً لا يتجزأ من الفكرة المسبقة لديه، وإنه يعرف غايتها المرجوة ولأي شيء ستستخدم، لذلك مجموعة الصفات الداخلة في تركيب هذه المنضدة من شكل وحجم وارتفاع وصلابة تشكل ماهيتها التي تسبق وجودها، وتمتلك تلك الأشياء وجوداً خاصاً يسميه سارتر بالوجود التكنيكي، وتكون نظرة الإنسان له تكنيكية.

وبناء عليه، فإن الله بوصفه صانعاً أعظم للإنسان، لا بد أن تجري إرادته مع الخلق، وأن يعرف تمام المعرفة ما يخلقه وفقاً للفكرة المسبقة لدى الله. 

ومن هذا المنطلق تعلن الوجودية؛ إذا لم يكن الله موجوداً فإنه على الأقل يوجد هذا الإنسان الذي يوجد أولاً ويتبدى له العالم كما يراه مباشرة في إدراكه الأولي وأحواله الشعورية، فتتشكل هويته ومعارفه طبقاً لهذا العالم الذي يتماهى معه.

فالإنسان بدأ من الصفر، ولم يكن شيئاً، والإنسان يوجد أولاً، ثم يريد أن يكون.

لذلك لا يكون للإنسانية شيء اسمه الطبيعة البشرية العامة، لأنه حسب سارتر لا يوجد الرب الذي يمثل وجود هذه الطبيعة ويحققها لكل فرد وفقاً للفكرة المسبقة لديه. 

إن فلسفات القرن الثامن عشر حتى المادية منها أو الملحدة حاولت أن تقولب الإنسان ضمن غايات وماهيات محددة وفقاً لتلك الطبيعة، أو في نسق فكري يتوجه به الإنسان إلى العالم، ومن هنا يأتي سارتر لتصويب المسار الإنساني في الفلسفة بنفي أي طبيعة إنسانية، فكل عصر من العصور كما يرى سارتر يتطور طبقاً لقوانين ديالكتيكية، والبشر يستندون في تكوينهم إلى العصر الذي يتواجدون فيه لا إلى الطبيعة الإنسانية، وهذا سيعيد للأذهان نظرية ماركس بأن الواقع الاجتماعي هو الذي يشكل فكر ووعي الإنسان وليس الذات، وهذه الذات هي التي تشكل هويتها و تصوغ أفكارها من ذلك الواقع المتمظهر أمامها.

يقول سارتر في الوجودية مذهب إنساني: "لقد كتب دوستويفسكي مرة: إن الله إذا لم يكن موجوداً فكل شيء مباح، وما كتبه دوستويفسكي هو النقطة التي تنطلق منها الوجودية، والتي نعتقد فيها أن إنكار وجود الله يعني أن كل شيء يصير فعلاً مباحاً".

 هنا يجد الإنسان نفسه وحيداً ومهجوراً، يتعذر تفسير أي سلوك له بإرجاعه إلى طبيعة بشرية مسبقة أو حتمية مفترضة، عندها يصبح الإنسان حراً؛ لأن وجوده يسبق ماهيته، وقد صار مسؤولاً منذ أن قُذف إلى هذا العالم.

إن وجود الله من عدمه لن يغير من آراء سارتر ولا مواقفه وهو ينطلق إلى الواقع الإنساني المحض وما يعانيه من بؤس وعذابات في عالمه المحتم أن يعيش فيه وأن يموت فيه ضمن دورات الكينونة المتعاقبة، فالوجودية ليست استعراضاً لعدم وجود الله، ولا تباهياً بالإلحاد، وبالتالي فإن سقوط فكرة الله بالنسبة للوجودية لا يعني أن يصبح المباح فعلاً متحققاً، بوصفه انحلالاً وفوضى.

إن الوجودي هو الذي يمنح لنفسه القيمة وهو الذي يحدد أفعاله بوصفه ذاتاً تتجه إلى الذوات الأخرى وتشترك معها في المصير، وفي ظل عدم وجود قاعدة أخلاقية يستند إليها، فإنه يكون أيضاً مبدعاً للأخلاق دون أن تشغله أي قيم مسبقة أو ماهيات قبلية تماماً مثلما يحدث مع الفنان عندما يرسم لوحته، فإن القيم الجمالية تظهر بعد الانتهاء من تلك اللوحة أو الأثر الفني. والفرد الذي يبدع أخلاقياته الخاصة عليه أن يسأل نفسه إلى أي مدى تتوافق تلك الأخلاقيات مع الإنسانية من حيث كونها التزاماً حراً ومسؤولية؟

القلق والسقوط والحرية 

إن الإنسان مسؤول دائماً عن قراراته وخياراته وعمّا سيكون عليه، وهذه المسؤولية ليست ذاتية، وإنما تشمل جميع الناس.

فالذاتية حسب تعبير سارتر هي حرية الفرد الواحد من جهة التزامه بذاته الإنسانية الأخرى التي يشترك فيها مع الجميع. والإنسان الذي يكون واقفاً في حرية الخيار، فإنه لن يختار لذاته فقط، وإنما يختار لبقية الناس أيضاً، وهو في سعيه إلى الحرية سوف يكتشف أن حريته تتوقف على حرية الآخرين، وغايته مندمجة بغايات الآخرين، لذا فالصورة التي ستشكل وجودنا ستشكل وجود وحقيقة كل ما يحيط بنا.وبذلك ستكون المسؤولية أكبر لأن الشيء الذي يخص وجودنا سيخص الناس جميعاً، بل الزمن الذي نعيش فيه، وهذا هو الموقف الأعمق للوجودية.

 يكابد الإنسان القلق في مشروع وجوده عندما تقع كينونته أمام مجموعة من الاختيارات التي سيكون مسؤولاً عنها وعن الإنسانية. ويقلق الإنسان من خوفه ألا يكون في المستقبل، يقلق الإنسان هنا، ويصيبه الرعب عندما يتصور عدم وجوده هناك، فالقلق رعب وآلام وجودية، لكنه الشرط الأسمى للحرية.

ولأن الإنسان محكوم بالحرية كما يذكر سارتر، فهو واقع في دوامة الاختيار، وحتى عدم الاختيار هو اختيار أيضاً.

 يرتبط السقوط عند سارتر بسوء النية دائماً من خلال تسويغ وجود وأفعال الإنسان إلى نظام سياسي أو عقيدة أو تقلبات الظروف والحياة، والسقوط هو تنصل من المسؤولية وعدم الاعتراف بالخطأ في اختيار قرارتنا الواعية، فسارتر يرى أن لا شيء يمكنه أن يحد من حرية الإنسان؛ فحرية الإنسان عند سارتر ليست صفة من صفات الإنسان، ولا مَلكة من مَلكات الروح، وإنما واقع عارض مجبر عليه الإنسان. والحرية اضطرارية يدفعها الوعي للاختيار، لذلك فالسقوط هو هروب من قلق الحرية ويقابله السقوط عند هايدغر الذي يتضمن الوجود المبتذل في هروب الإنسان من قلق الموت بالثرثرة والنميمة.

إن الإنسان هو مشروع وجود غير منتهٍ، وهو خلق مستمر للذات تفرضه الحرية عندما يتجاوز الإنسان نفسه خارج ذاته في حركة دائمة إلى المستقبل.

 من هنا يتبين لنا أن الوعي قادر على الانفصال من هذه اللحظة الراهنة وفي كل لحظة إلى المستقبل، ليقرر المعنى الذي يختاره الإنسان، وهنا تتولد الحرية المطلقة التي ينفصل بها الوعي ويختار الإنسان ماهيته، وبهذا يتوصل سارتر إلى فكرة الحرية الإنسانية بمعناها الشامل، فهي التي تضفي على الوجود قيمة ومعنى، لأن الوجود بلا قيمة ولا معنى دون هذا الاختيار الفردي.

إن الحرية هي حرية من أجل ذاتها، ولا تخضع لأي قانون أو إرادة عليا والهروب من الحرية حرية أيضاً. أو كما يقول سارتر "نحن مدانون بالحرية".

الأدب الوجودي 

إن الوجودية تفسر الإنسان وأحواله القلقة، الإنسان الذي يعاني من سقوط الحضارة والقيم، إن الأدب كما يصوغه لنا سارتر فيمينولوجياً، يهتم بالأشياء كما تتبدى للإنسان أول مرة وفقاً لعاطفته وإحساسه الأولي بوجوده الفردي، فأحياناً نعبر عن الأشياء الجامدة في العالم الخارجي ونسبغ عليها ما يعترينا من أحاسيس وإدراكات، فنصف تلك الأشياء كما نصف أعمق العذابات وأشدها إيلاماً في عالمنا الداخلي. إن التوجه صوب الأنا والتمرد ضد العقل هو من يجعل هذه الذاتية المتطرفة عماداً للأدب الوجودي؛ حيث الحياة العارية للفرد بلا تشويه أو تزويق لحقائقها البدائية وداوفعها الغريزية الأولى.

يتكلم سارتر عن الأدب الوجودي الذي يتناول شخصيات تتسم بالانحراف والجبن والجريمة، ويعزو سبب ذلك إلى أن الكاتب الوجودي يضع هذه الشخصية في مسؤولية أمام تلك الصفات، ولا يرجعها إلى ظروف الحياة أو الأسباب الوراثية.

وإن الناس يفزعهم هذا النوع من الأدب الذي يكون فيه الأبطال من الجبناء أو المجرمين أمام مسؤولية تعينها أفعالهم، فالناس تبحث عن الاستقرار في مجتمعاتهم، وهم يفضلون أن نرسم الأبطال إما جبناء أو أبطالاً، وأن يكون جبنهم أو بطولتهم لأنهم وُلدوا هكذا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أوس حسن
شاعر وكاتب عراقي
شاعر وكاتب عراقي
تحميل المزيد