تُوّجت إنجلترا بأول وآخر لقب لها لكأس العالم لكرة القدم، في صيف 1966، ولكن قبل أن ينتشي الجمهور الرياضي الإنجليزي بفرحة الفوز، فإنّه عاش، قبل انطلاق الدورة النهائية التي احتضنتها بلادهم، حالة من الرعب بعدما سرق أحد الأشخاص الكأس العالمية التي كانت معروضة بالعاصمة لندن، مطالباً بفدية مقابل "الإفراج" عنها.
جرت النسخة الثامنة من نهائيات كأس العالم لكرة القدم بإنجلترا من 11 إلى 30 يوليو/تموز 1966، وتُوّج بلقبها المنتخب المُضيف بعد فوزه في اللقاء النهائي على منتخب ألمانيا الغربية، بنتيجة 4-2، بعد الوقت الإضافي.
وتسلم قائد منتخب "الأسود الثلاثة"، بوبي مور كأس "جول ريميه" من يدي ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية، في صورة بقيت خالدة في الذاكرة الجماعية للإنجليز.
وقد كان من الممكن جداً ألا يحدث ذلك المشهد الخالد أبداً لو لم يعثر الكلب "بيكلز" بالصدفة على كأس "جول ريميه" التي سُرقت قبل نحو 3 أشهر ونصف عن بداية الحدث الرياضي العالمي الكبير.
سُرقت كأس "جول ريميه" في معرض كبير بلندن
تسلم الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم كأس "جول ريميه" من (فيفا) في شهر يناير/كانون الثاني 1966، وتم الاحتفاظ بها بعناية بمقره الموجود بـ"لانكستر غيت" بوسط العاصمة البريطانية لندن، وذلك قبل أن تطلب شركة مختصة في إقامة المعارض الكبيرة ترخيصاً بعرض الكأس الثمينة أمام الجمهور خلال معرض للطوابع البريدية الرياضية أقيم بـ"سنترال هول وستمنستر" بلندن في شهر مارس/آذار 1966.
وبعدما عرف اليوم الأول من عرض كأس "جول ريميه" إقبالاً جماهيرياً كبيراً، امتزجت خلاله مشاعر الإنجليز بين السعادة والفضول والحلم بالتتويج باللقب العالمي، انقبلت الأمور رأساً على عقب في اليوم الثاني من العرض الذي كان في الـ20 من الشهر نفسه، بحيث تحولت الفرحة إلى حزن، والحلم إلى كابوس.
فبسبب نقص احترافية مسؤولي الأمن المكلفين بالمعرض وربما أيضاً بسبب "سذاجتهم" اختفت الكأس العالمية فجأة من خزانتها الزجاجية في اليوم الثاني من الحدث المهم.
وقد أثبتت التحقيقات، التي جرت فيما بعد، أنّ عملية السرقة قد جرت في وقت استراحة رجال الأمن الخمسة المكلفين بحراسة كأس "جول ريميه"، بحسب ما جاء في كتاب "سارق كأس جول ريميه"، الذي صدر في سنة 2008 للمؤلف البريطاني مارتن أثيرتون، ما يؤكد عدم كفاءة مسؤولي أمن المعرض الذين لم يوفروا الحماية اللازمة والمستمرة لتلك التحفة الشهيرة.
فور العلم باختفاء الكأس، تكفلت شرطة "سكوتلاند يارد" البريطانية بعملية التحقيقات، ولكنها اصطدمت بعائق كبير، يتمثل في نقص فادح في المعلومات، وخاصة فيما يتعلق بالأشخاص المشتبه فيهم في ارتكاب السرقة.
فقد قدم الشهود وصفين مختلفين لشخصين مشبته فيهما، الأول طويل والآخر قصير، ما جعل الشرطة اللندنية تنشر صورة تقريبية تجمع بين الوصفين للرجل المبحوث عنه.
وبالموازاة مع تحقيقات الشرطة، وفي ظل عدم اليقين من العثور على كأس "جول ريميه" الأصلية، قام الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، وبشكلٍ سريٍ، بطلب نسخة طبق الأصل للكأس المفقودة من صائغ لندني معروف في ذلك الوقت، يُدعى جورج بيرد.
السارق طلب فدية مقابل "الإفراج "عن الكأس الثمينة
بعد أيام قليلة فقط من "الفاجعة"، تلقى رئيس اتحاد الكرة الإنجليزي، جو ميرز، رسالة من شخص أطلق على نفسه اسم "جاكسون"، يطلب من خلالها فدية بمبلغ 150 ألف جنيه إسترليني مقابل "الإفراج" عن كأس "جول ريميه"، مع تحذيره بتفادي إبلاغ الشرطة عن الاتفاق المحتمل بينهما.
ولكن جو ميرز رفض ذلك التهديد، وقام، بالمقابل، بالاتصال بشرطة "سكوتلاند يارد" واتفق معها على إيهام السارق المفترض أنه قد وافق على العرض، فاتفق معه على موعد ومكان التسليم بحديقة "باترسي" بلندن.
لم يذهب جو ميرز إلى الموعد المحدد بسبب إصابته بنوبة ربو، وذهب بدله شرطي بزي مدني، بعد اتفاق مع الرجل المُبتز، إثر اتصال هاتفي جديد من هذا الأخير.
وبعدما تسلم الرجل المبلغ المتفق عليه، والذي كان في الحقيقة عبارة عن نقود مزورة، ركب مع الشرطي المدني بسيارة الأخير ليقوده نحو مكان وجود كأس "جول ريميه" وتسليمه إياها، ولكنه طلب، في الطريق، التوقف بحجة قضاء حاجة طبيعية، ثم حاول الهروب قبل أن يقبض عليه الشرطي.
وتبين فيما بعد أنّ المقبوض عليه هو جندي سابق في الجيش البريطاني، ويُدعى إدوارد بيتشلي. وقد سعى جاهداً لإقناع المحققين أنّه ليس السارق الحقيقي للكأس العالمية، وأنه مجرد وسيط في عملية الابتزاز بطلب من رجل يعرفه باسم "ذا بول"، قدّم له مبلغ 500 جنيه إسترليني.
قصة العثور "صدفة" على كأس "جول ريميه"
وظلت الكأس العالمية مفقودة حتى يوم 27 مارس/آذار 1966، حيث تم العثور عليها بالصدفة من طرف شاب يدعى ديف كوربيت، أو بالأصح من طرف كلب هذا الأخير.
ففي ذلك اليوم الذي صادف عطلة نهاية الأسبوع، خرج ديف كوربيت من منزله الكائن بمنطقة نوروود بلندن لإجراء مكالمة هاتفية، والتنزه رفقة كلبه "بيكلز"، ولم يكن يعلم حينها أنّ حيوانه الأليف سيصبح عن قريب بطلاً قومياً في بريطانيا، وأنّ صورته ستتصدر الصفحات الأولى لكبرى الجرائد العالمية.
فمباشرة بعد خروج ديف كوربيت من بيته، لم يتوقف الكلب "بيكلز" من الجري نحو سيارة أحد الجيران، والتي كانت مركونة قرب سياج منزله، كما لم يتوقف عن شم كيس ملفوف بجريدة قديمة ومربوط جيداً، كان موجوداً تحت السياج، ما أدى بديف لفتح الكيس ليتفاجأ بظهور أسماء البرازيل وألمانيا الغربية والأوروغواي على صفيحة معدنية قبل أن تنكشف كأس "جول ريميه" بأكملها، حيث كاد قلبه أن يتوقف لسرعة خفقانه بسبب هول ما رأت عيناه، ومعرفته أنّ الأمر يتعلق بالكأس العالمية التي تمت سرقتها قبل أسبوع واحد.
وبعد اكتشافه المهم، ذهب كوربيت إلى أقرب مركز شرطة لتقديم الكأس، حيث تم استقباله في البداية بنوع من الريبة.
وقد روى ديف كوربيت، في أحد تصريحاته مع حديث له مع الشرطة، فأوضح: "وضعت الكأس على الطاولة أمام الرقيب. قلت له: 'أعتقد أنني وجدت كأس العالم'. أتذكر جوابه جيداً: 'إنها لا تشبه كأس العالم، يا بني".
وبعدها تم استدعاء أحد المحققين، وتم نقل ديف كوربيت إلى مقر سكوتلاند يارد للاستجواب، حيث أصبح هو المشتبه به الأول في عملية السرقة، ولكن وبعد ساعة من التحقيق تم التأكد من براءته وأخدته الشرطة إلى منزله بنوروود، حيث وجد بانتظاره أمام مبنى بيته مراسلي كل الصحف العالمية.
وتمت إدانة إدوارد بيتشلي بتهمة المطالبة بالمال، مع تهديدات بقصد السرقة، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين فقط، ثم توفي في سنة 1969 بمرض انتفاخ الرئة.
أما ديف كوربيت فقد كافأه الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم بدعوته، رفقة كلبه البطل، لحفل تكريم اللاعبين بالتتويج باللقب العالمي، كما نال مكافآت مالية من عدة ممولين ورعاة للمنتخب، بلغت قيمتها المالية نحو 5 آلاف جنيه إسترليني.
ومن جهته تحصل بيكلز على ميدالية من الرابطة الوطنية البريطانية للدفاع عن الكلاب.
الشهرة الكبيرة للكلب "بيكلز" جعلته يشارك في فيلم سينمائي
كما أصبح ديف كوربيت، وخاصة كلبه بيكلز الموضوع المفضل لوسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، وتم استضافة الثنائي في العديد من الحصص التلفزيونية البريطانية والأجنبية.
وقد بلغت شهرة الكلب بيكلز إلى درجة مشاركته في فيلم سينمائي للجاسوسية، من إخراج الكندي دانيال بيتري، بعنوان "الجاسوس ذو الأنف البارد"، والذي خرج لقاعات السينما في ديسمبر/كانون الأول 1966، أي قبل شهور قليلة فقط من وفاته (أي الكلب) في سنة 1967، حيث لا يزال مدفوناً بحديقة منزل مالكه ديف كوربيت، بنوروود، بعدما عاش حوالي 5 سنوات فقط.
وعن كأس "جول ريميه"، وبعد العثور عليها من طرف "بيكلز"، احتفظت بها شرطة "سكوتلاند يارد" كدليل مادي في التحقيقات حتى يوم 18 أبريل/نيسان 1966، حيث أعادتها إلى الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم قبل بداية المونديال.
تم سرقة الكأس مرة ثانية بالبرازيل ولم يُعثر عليها أبداً
وبقيت الكأس الثمينة بإنجلترا حتى سنة 1970 لما استعادها الاتحاد الدولي لكرة القدم بمناسبة نهائيات مونديال المكسيك، ثم احتفظت بها البرازيل نهائياً بفضل تتويجها بلقب المونديال ذاته، بحيث تنص لوائح الفيفا على حق البلد الاحتفاظ بالكأس العالمية للأبد في حال نيل لقبها في 3 مناسبات.
وتمت سرقة كأس "جول ريميه" مرة ثانية، وهذه المرة من مقر الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1983، وعلى الرغم من إلقاء القبض على 4 أشخاص والحكم عليهم بالسجن، إلّا أن الكأس لم يظهر لها أي أثر، ولا تزال مفقودة حتى الآن.
أما النسخة طبق الأصل لكأس "جول ريميه" التي صممتها إنجلترا في سنة 1966 عند سرقة النسخة الأصلية، فقد تم الاحتفال بها مع الجماهير، بعد التتويج باللقب العالمي على أنها أصلية، ثم اشتراها الاتحاد الدولي لكرة القدم في مزاد علني في سنة 1997، وهي معروضة حالياً في المتحف الوطني لكرة القدم بمدينة مانشستر الإنجليزية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.