الأخبار السيئة تطوّق العالم، البشرية محاصرة بأنباء الفساد والكساد والانقطاعات والتحركات العسكرية. هنا، في الشرق، اعتدنا على قبح الأخبار، لكن أصدقاءنا الشماليين ليسوا بخير، لم يعد هنالك ما يبعث الطمأنينة في الجبهة الغربية.
اليوم، أزيز الأخبار لا ينقطع عن اختراق أذن المواطن الغربي، أخبار مفزعة انقطعت عنه منذ عقود، لكنها تعود اليوم، وقد تعيد معها حلقة من أفظع حلقات التاريخ.
مفاهيم شديدة الوطأة مثل التقشف، الركود الاقتصادي، أزمة الغاز، نقص السلع، تسربت إلى مدن ألفت الرخاء، ما بث في النواحي الأوروبية عجزاً وإحباطاً، ما لبثا أن أنتجا غضباً أمام نازلات اليوم.
يخبرنا التاريخ أنه حين تتشبع "النفس البيضاء" بالعجز والغضب، فإنها ترى الكون عصيّاً على القسمة، وحينها تخرج رسل "اليمين المتطرف" من جحورها، لتبيع صكوك النجاة من الشقاء والفقر، تعدهم باستبدال الليبرالية وقيمها المائعة، بنوعٍ جديد من المبادئ المُكَرّسة لرعاية أُمةٍ موحدةٍ نقية محمية من أخطار فقر وهمجية أهل الجنوب.
يعتمد ساسة "اليمين المتطرف" على غضب وسخط الجماهير ليصلوا لسلطة أكثر من خططهم الاقتصادية، ما يفتح الطريق لإنتاج ديكتاتوريات يمينية تتشابه بعض سماتها مع الفاشية، تلك الأيديولوجية المشوشة التي تبنتها بعض أوروبا لفترة من زمن، وكان نتاجها اندلاع حربين عالميتين أودتا بحياة 60 مليون إنسان.
لكن ما هي الفاشية؟
كثر استعمال مصطلح "الفاشية" منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كذم وهجاء أو كأداة خطابية فعالة للهجوم على الخصم، فاعتمد عليه أغلب الساسة والمسؤولين المعاصرين لوصف منافسيهم بالتطرف والإرهاب. كثرة الاستعمال أفقدت المصطلح الكثير من دلالته المرعبة والخطيرة على مسامع المواطنين.
على الرغم من أن الفاشية في شكلها وتطبيقها اختلفت من دولةٍ إلى أخرى، إلى أنها مرتبطةٌ بشكلٍ وثيق بأوروبا، خاصة في حقبة الحربين العالميتين. يمكن وصف الفاشية بأنها كانت عبارة عن تيار أو تجربة سياسية خاضتها العديد من الدول في أوروبا في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.
استخدم مصطلح "الفاشية" لأول مرة في عام 1919 من قبل الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني للتعبير عن حركته السياسية، التي تُمجّد الدولة حدّ التقديس، وتنبذ نموذج الدولة الأوروبية، القائم على الليبرالية التقليدية والديمقراطية البرلمانية التعددية، مفضلاً الجمع بين التعصب القومي، والعداء لكل من الليبرالية والشيوعية.
ورغم أنه ليس هناك اتفاق أكاديمي على تعريف "الفاشية"، التي تحولت إلى مصطلح دارج للإساءة على اختلاف أشكالها، يمكن أن نعرفها على أنها "تيار سياسي، ذو نزعة عنيفة، رافض للديمقراطية البرلمانية والتعددية السياسية، معوضاً إياها بنظام شمولي استبدادي يُشكّل رئيس الدولة نواته الصلبة ومصدر السلطات فيه".
وتمتاز الدولة الفاشية بطابعها العنصري، المقدس للنزعة القومية داخلياً والنقاء العرقي، والهيمنة الإمبريالية خارجياً. كما أنها ترتكز على فكرة خلق عدو خارجي وآخر داخلي، وتعظيم خطرهم، لنشر الخوف في النفوس، ما يساعدها على تعبئة الشعب لتحقيق الوحدة الوطنية.
واستطاعت الفاشية الوصول للسلطة في عدة دول، كان أبرزها وأشدها تأثيراً على البشرية قاطبة إيطاليا وألمانيا. حيث نجحت الفاشية في كلا البلدين في ترسيخ نظام سياسي يقوم على صيغ قومية وعرقية، لا يقبل الاختلافات الثقافية ولا التعددية السياسية، ولا يتوقف عند أبواب الحكم فقط، بل يعمل على صنع مجتمع "نقي" مرشده هو الزعيم.
كالعديد من الأحزاب اليمينية اليوم، نشأت الفاشية في فترة انعدم فيها الأمن الاجتماعي والاقتصادي بدرجة كبيرة، حيث مرّت أوروبا بأزمة اقتصادية عصيبة، عُرفت باسم "الكساد الكبير". كما جلبت نهاية الحرب العالمية الأولى معضلات اجتماعية واقتصادية عصية على التجاهل.
ألمانيا النازية
ضرب التضخم ألمانيا بشكل أعنف من غيرها من الدول، نتيجة لخسارتها الحرب العالمية الأولى، ما أدخلها في أزمة معقدة، أغلقت على إثرها منافذ صناعية ضخمة كانت تنتج ثلث إنتاجها، ما أدى لانهيار الطلب الداخلي، لتتبنى الحكومة سياسة تقشفية، فقد خلالها ملايين الألمان وظائفهم، وأصبح حوالي 6 ملايين شخص عاطلين عن العمل، ووصل الانخفاض في الإنتاج الصناعي إلى نسبة %42. بالإضافة إلى إجبار الدولة بدفع تعويضات للحلفاء عن خسائرهم، ما أرهق ميزانية الدولة وقوّض الازدهار المؤقت الذي تمتعت به الديمقراطية الألمانية الناشئة، ما أدى لجرح الكبرياء الوطني للألمان.
مع استمرار عجز الدولة عن إيجاد حلول اقتصادية استغل حزب "العمال القومي الاشتراكي الألماني" الإحباط القومي، ليلهب حماس المواطنين بخطابات عن تفوق العرق الآري واستعادة مجد ألمانيا المنهوب. ودخلت البلاد في سلسلة طويلة من الاضطرابات والليالي العصيبة أنتجت في نهايتها "ألمانيا النازية".
دوتشي الفاشية
أدى الكساد العالمي لانتشار الفوضى في أنحاء إيطاليا لمدة لا تقل عن عامين جراء احتلال المصانع، والاستيلاء على الأراضي الزراعية من قبل المليشيات اليسارية واليمينية. لتشهد إيطاليا انخفاضاً حاداً في الإنتاج الفلاحي والصناعي بين 1914 و1919، ما اضطر الدولة إلى اللجوء للقروض الداخلية والخارجية لسد عجز ميزانيتها، ثم التجأت في الأخير إلى تخفيض قيمة العملة كحل لزيادة الكتلة النقدية.
تلك الأوضاع الاقتصادية، سهّلت ترويج أفكار حزب موسوليني الفاشي، الذي ارتكز على خطابات تستشهد بـ"أمجاد روما القديمة"، والوعد بإعادة بناء دولة موحدة قوية تحت قيادة زعيم واحد، ليجد نفسه في البرلمان ثم على رأس السلطة بعدما زحف من نابولي بمظاهرات شارك فيها الآلاف لينتزع السلطة في روما، وينصب نفسه "دوتشي الفاشية" الإيطالية.
صعود الفاشية
وعلى الرغم مما حصدته الفاشية من نفوذ إلا أنها عانت في بدايتها، ولم تحصد الكثير من الشعبية.
ففي إيطاليا، حصل الحزب الفاشي في الانتخابات البرلمانية لسنة 1921 على 35 مقعداً فقط من مجموع 535، وكانت محصلة الحزب النازي في ألمانيا لا تتعدى الـ 2.5% من إجمالي الأصوات في أولى انتخاباته.
لكن ومع مرور الوقت، وفي وظل استمرار تعثر الاقتصاد الأوروبي، تزلزل إيمان الكثير من الأوروبيين بالديمقراطية، ليجد المواطن الأوروبي نفسه أمام خيار وحيد، بعدما رفض البقية، ألا وهو دعم الأحزاب الفاشية، أملاً في أن تستعيد له بعض المكاسب الاقتصادية لتحسين وضعه المعيشي، أو يستعيد مجداً إمبراطورياً يرضي غروره ويضمد جراح الكبرياء الوطني.
الجماهير، في وقت الأزمات، لا تتصرف كالأفراد، بينما يميل الفرد للبحث عن الحقيقة بالأدلة والبراهين، تبحث الجماهير عن أسهل التفسيرات، وأكثرها حدية، وأقصر الطرق، لتسير نحو الهدف المنشود.
ذلك الهدف ما هو إلا إنتاج مجموعة، أو حزب أو زعيم، عرف كيف يحرك الجماهير ويلهب حماسها. وذلك تحديداً ما تحدث عنه عالم الاجتماع الفرنسي "غوستاف لوبون" في مغامرته الشيقة لفهم سيكولوجية الجماهير.
باختصار، فهمت النخبة الفاشية سيكولوجية الجماهير في الحقبة المأزومة، واستغلتها للوصول للحكم سواء عن طريق العنف كقوات المليشيات الفاشية "سكوادريستي" في إيطاليا، أو عن طريق الديمقراطية في ألمانيا عندما حصد الحزب النازي الأغلبية في البرلمان بنسبة 37%.
هل اليمين المتطرف بداية الفاشية؟
اليوم مع زيادة وتيرة الهجرة نحو أوروبا، وارتفاع معدل التضخم في القارة ذاتها إلى 8.9%، مع مخاوف من حلول شتاء قارس دون غاز كاف للتدفئة، نجد القارة الأوروبية من شمالها إلى جنوبها تهتز بانتصارات اليمين المتطرف.
في السويد فاز حزب "ديمقراطي السويد" ذي الجذور النازية، ثم تلاه حزب "إخوة إيطاليا" الذي تتزعمه جورجيا ميلوني، التي لم تبذل عناء إخفاء تعاطفها مع الاتجاه الفاشي وإعجابها بالزعيم موسوليني. ولا يختلف الوضع في فرنسا والمجر كثيراً، فالأحزاب اليمينية المتطرفة تحصد الانتصار تلو الآخر؛ ما يوحي باقتراب عودة الفاشية.
لكن لعالم الاجتماع والسياسة خوان لينتس رأي آخر، يرى لينتس أن الحركة والأيديولوجية الفاشية هي بنت حقبة تاريخية معينة نحن اليوم أبعد ما نكون عنها، نظراً للهيمنة الأيديولوجية للمفردات الليبرالية وحقوق الإنسان والترابط الاقتصادي العالمي الذي نشهده اليوم. لكن يؤكد لينز أيضاً على إمكانية ظهور بعض ملامح الفاشية عند بعض الأنظمة، لذا فقد يوجد نظام سياسي يحمل ملامح الفاشية ولا يكون فاشياً بالكامل، وهذا ما ينطبق على بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة التي بدأت في الانتشار في أوروبا منذ أكثر من عقد.
حقيقة اليمين المتطرف
كما الفاشية يصعب تحديد تعريف ثابت يشمل كل جوانب "اليمين المتطرف". فقد تحول مصطلح "اليمين" من وصف طيف سياسي يتبنى الأفكار المحافظة للحفاظ على التقاليد وحماية الأعراف داخل المجتمع، إلى تيار سياسي يتبنى نزعة متطرفة معادية للأقليات الدينية والعرقية، ولديه تمسك متطرف بنسخة واحدة من القيم والهوية القومية الرافضة لفكرة التعددية الثقافية.
لكن كيف ولماذا يتجاوب المواطن الأوروبي اليوم مجدداً بمزيجٍ من التسامح والرّضا مع الفاشية أو بعض من ملامحها كاليمين المتطرف؟
تشير أستاذة العلوم السياسية "شيري بيرمان" بجامعة كولومبيا الأمريكية في مقال لها، بأن العديد من الدول الأوروبية لم تنزلق إلى الفاشية بسبب سوء الأحوال الاقتصادية فقط، بل أيضاً بسبب تراجع اليسار عن تقديم خطابات قوية ترد على سلبيات الرأسمالية، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحزب المعارض في ألمانيا آنذاك، ظل صامتاً بخنوع، وظل يقدم بدائل لا تغني ولا تسمن من الجوع.
واليوم مع تراجع دور الدولة، أعادت السياسات النيو ليبرالية تشكيل المجتمعات الغربية بشكلٍ كبير، ودمرت المجتمعات التقليدية، والمهن، والمعايير الثقافية. بالإضافة إلى تماهي اليسار مع هذه السياسات إما بالصمت، أو بالاهتمام بقضايا أخرى كالهوية الجنسية والجندر، وهذا ما يتشابه مع رد فعل اليسار خلال فترة الكساد وصعود الفاشية.
بعيداً عن المقارنات غير المفيدة يدفع هذا التحليل بألا ننظر إلى هذه الحركات بعين معتنقيها، فالحقيقة وراء زيادة شعبية اليمين المتطرف هو تبادل الأدوار مع اليسار، حيث أصبح يتبنى المفردات والحجج الاشتراكية، فنجد أن أغلب الشعبويين الآن لديهم خطاب يحتوي على نقد عنيف للرأسمالية ولآثارها علينا فردياً وجماعياً، ثم يضعون، في مقابلها، مفهومهم الخاص عن الهوية، والدولة، والعائلة والدين.
ففي مقطعٍ متلفزٍ اشتهر لجورجيا ميلوني نجدها كزعيمة ثورية تستخدم المفردات الصائبة لتحريك الجماهير، "يريدون محو هويتكم وتقاليدكم وعلاقاتكم العضوية الأصلية الأساسية، كالوطن والدين والعائلة، حتى تتمكّن الرأسمالية منكم وتحوّلكم إلى أقنان منتجين مستهلكين لا أكثر". في الوقت ذاته نجد الأحزاب الليبرالية واليسارية أكثر تماهياً مع السلطة، وتتبنى سياسات ساهمت في إبقاء الوضع كما هو عليه، وهو ما يؤشر ربما إلى دخول الإمبراطورية الغربية الليبرالية إلى طورها الأخير.
بينما تكمن خطورة اليمين المتطرف بأنه لا يشبه هتلر أو موسوليني، ففي إيطاليا لا تقود ميلوني مشروعاً معادياً لشكل الدولة الحالي أو حتى الاتحاد الأوروبي، فلم تهدّد بالخروج من الاتحاد أو حتى الانفصال عن الناتو، أو استبدال الديمقراطية بحكم الحزب الواحد، بل تسعى لتعديل السياسات من الداخل ولتغيير أفكار المجتمع، لتبدأ أوروبا في التحول العظيم من الليبرالية إلى ما يسمى ديمقراطية لا ليبرالية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.