تعاني الأسواق المصرية من نقص الدولار منذ شهر مارس/آذار الماضي وحتى الآن، نتيجة خروج معظم الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين الحكومية المصرية، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة بالعالم والتي زادت حدتها بعد الحرب الروسية الأوكرانية، واتجاه الحكومة لترشيد الواردات التي تمثل المكون الأكبر للمدفوعات للخارج لتخفيف الضغط على الدولار.
مما نجم عنه تكدس البضائع بالموانئ في انتظار تدبير البنوك للعملات الأجنبية للاعتمادات المستندية للإفراج عنها، الأمر الذي أدى لنقص المواد الخام ومستلزمات الإنتاج بالشركات، مما قلل الطاقات العاملة، وتضرر العديد من القطاعات مثل قطاع "الثروة الداجنة" الذي يعتمد على استيراد الذرة وفول الصويا كمكون رئيسي للأعلاف، وقطاع السيارات، في ضوء صعوبات الإفراج عن السيارات المستوردة الموجودة بالموانئ، وغيرها من القطاعات الاقتصادية.
وعادة ما يتخذ الطلب على الدولار بالأسواق المصرية ثلاثة أشكال هي: (1) الطلب المعتاد و(2) الطلب للاحتياط و(3) المضاربة والطلب للأغراض غير الشرعية.
يختص النوع الأول، الطلب المعتاد، بشراء الواردات السلعية والواردات الخدمية من سياحة ونقل وخدمات صحية وتعليمية وغيرها، ودفع أقساط الديون وفوائد استثمارات الأجانب بمصر ونحو ذلك من الأغراض المعتادة.
والنوع الثاني يتجه لشراء الدولار تحوطاً لعدم تواجده مستقبلاً لتمويل المشتريات من الخارج سواء للشركات أو للأفراد، أو شرائه للمضاربة عليه وتحقيق مكاسب من الفرق بين سعر الشراء وسعر البيع، والنوع الثالث لتمويل شراء السلع الممنوعة مثل المخدرات والسلاح والسلع المُهربة ونحو ذلك.
نشاط المضاربة بالدولار يزداد بالأزمات
وفي الأوقات العادية ومع توفير البنوك للدولار لمن يطلب شراءه، يستمر الطلب بالنوعين الأول والثالث، بينما يتضاءل نشاط النوع الثاني حيث لا توجد ضرورة للاحتفاظ بالدولار في ظل توفير البنوك له، واستقرار سعره بحيث لا يحقق الاحتفاظ به فروقاً جوهرية في تغير السعر، إلى جانب ارتفاع سعر الفائدة على الجنيه بشكل يفوق كثيراً سعر الفائدة على الدولار محلياً، مما يدفع البعض لتحويل ما لديهم من دولارات إلى الجنيه المصري للاستفادة بفارق سعر الفائدة.
إلا أن الصورة في وقت الأزمات تختلف تماماً، فالطلب المعتاد لا يجد ما يحتاجه من الدولارات، لتمويل الواردات وغيرها لدى البنوك، فيضطر للبحث عن الدولارات خارجها، مما يزيد النشاط بالسوق السوداء الذي يظل نشاطه بالأوقات العادية محصوراً في تمويل النوع الثالث من الطلب الخاص بتمويل الواردات غير المشروعة.
والنوع الثاني من الطلب الخاص بالتحوط ينشط أيضاً باحثاً عن الدولار، والطلب للمضاربة يزداد في ضوء تحقق أرباح فعلية من شراء وبيع الدولار، فمنذ مارس/آذار الماضي وحتى كتابة تلك السطور انخفض الجنيه المصري بنسبة 25% أمام الدولار الأمريكي، وهناك ترقب لخفض قادم مع اقتراب إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، وفي أوقات الأزمات يعرض أصحاب الأنشطة غير المشروعة أرقاماً أعلى للحصول على الدولار.
من هنا تجد السوق السوداء طلباً شاملاً من كل من الطلب المعتاد والطلب للاحتفاظ والاحتياط والمضاربة ومن الطلب لشراء السلع غير المشروعة، وعزز ذلك النقص الحاد بالعملات الأجنبية لدى الجهاز المصرفي، والذي عبرت عنه أرقام شهر أغسطس/آب الماضي ببلوغ العجز بين صافي الأصول والالتزامات بالعملات الأجنبية 20 مليار دولار، منها 8 مليارات دولار عجزاً بالبنك المركزي و12 مليار دولار عجزاً بالبنوك التجارية العاملة بمصر.
تفاقم المشكلة بالشهور الأخيرة
ونتوقع أن تكون حدة المشكلة لدى الجهاز المصرفي قد ازدادت خلال الشهور التالية، خاصة مع نقص تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال شهور مايو/أيار ويونيو/حزيران ويوليو/تموز، بدليل تجاه السلطات المصرية لاتخاذ عدد من الإجراءات المتسارعة، ومنها بيع الأصول الحكومية للصناديق السيادية الخليجية، ودعوة الدول الأجنبية المُقرضة لمصر لاستبدال ديونها لمصر باستثمارات، ووضع حد أقصى شهري منخفض للسحب النقدي من كروت الائتمان لدى المصريين خلال تواجدهم بالخارج، ورفع أسعار الفائدة على شهادات الادخار بالعملات الأجنبية بالبنوك إلى ما يقارب الضعف.
والاعلان عن إعفاء المصريين بالخارج من الرسوم الجمركية والضرائب على سياراتهم المستوردة من الخارج، مقابل وضع قيمة تلك الرسوم في حساب باسم وزارة المالية لمدة خمس سنوات، بدون فائدة ويتم استردادها بعدها بالجنيه المصري، والتجهيز لبيع مساكن حكومية للمصريين بالخارج بالدولار بأسعار مخفضة، وإعلان الشركة المصرية لنقل الكهرباء عن سدادها للمكون الأجنبي في مشروعاتها بالجنيه المصري وغير ذلك من الإجراءات.
ولهذا نتوقع استمرار السوق السوداء بالدولار إلى ما بعد الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وهو ما حدث بعد الحصول على قرض الصندوق عام 2016 بشهر نوفمبر/تشرين الثاني، حيث استمر العجز الدولاري بالبنوك التجارية حتى شهر أبريل/نيسان من العام التالي، وحاجة البنوك لبعض الوقت حتى تكون هناك أرصدة من الدولارات تلبي بها احتياجات الشركات من الدولار، حتى يستغنوا عن اللجوء للسوق السوداء.
مع الأخذ بالاعتبار أن مشكلة نقص الدولار لدى تلك البنوك التجارية التي تتعامل مع الشركات تكررت بعد ذلك أكثر من مرة، حيث ظهرت مرة أخرى بالشهور الخمسة الأخيرة من عام 2018 واستمرت حتى الربع الأول من عام 2019، وعادت خلال عام 2020 لمدة خمسة أشهر، ثم عاد العجز الدولاري لديها منذ شهر يوليو/تموز من العام الماضي وحتى الآن.
توقع إحجام الأموال الساخنة بالأجل القصير
وهو أمر يعزز الطلب على الاحتفاظ بالدولار مستقبلاً؛ تحوطاً لتكرار تلك الأزمات، خاصة أن الظروف الحالية تختلف كثيراً عما كانت عليه مع قرض الصندوق عام 2016، حيث الفائدة على العملات الأمريكية والأوربية والبريطانية والكندية والسويسرية حينذاك منخفضة بل سلبية ببعضها، مما دفع صناديق استثمار أجنبية لشراء أدوات الدين الحكومي المصري ذات الفائدة العالية- الأموال الساخنة- والتي ساهمت في سرعة تدفق الدولارات للجهاز المصرفي المصري.
بينما يصعب تكرار ذلك حالياً على الأجل القصير في ضوء ارتفاع الفائدة الأمريكية حاليا إلى 3.25%، والكندية 3.25% وبإنجلترا 2.25 % وبمنطقة اليورو 1.25%، مع توقع استمرار رفع الفائدة في معظمها خلال الشهور المقبلة، في ظل استمرار ارتفاع معدلات التضخم بها، وسعي البنوك المركزية بها لمواجه التضخم عبر رفع سعر الفائدة.
الأمر الثاني هو كبر قيمة المدفوعات المصرية المطلوبة حالياً بالمقارنة لما كانت عليه عام 2016، حيث أشارت بيانات البنك المركزي المصري الخاصة بميزان المدفوعات للعام المالي الأخير 2021/2022 لبلوغ قيمة المدفوعات 167 مليار دولار، بمتوسط شهري 13.9 مليار دولار، مقابل مدفوعات بلغت 91.5 مليار دولار بالعام المالي السابق للاتفاق مع الصندوق عام 2016 بمتوسط شهري 7.6 مليار دولار.
ويتضح ذلك مع قيمة الواردات السلعية بالعام المالي الأخير البالغة 87.3 مليار دولار، مقابل 57.4 مليار دولار بالعام المالي 2015/2016، بمتوسط شهري للواردات 7.275 مليار دولار مقابل 4.782 مليون دولار، مع توقعات بزيادة قيمة الواردات من العديد من السلع الأساسية خلال الشهور المقبلة، حيث عاد سعر النفط للصعود مؤخراً بعد خفض تحالف "أوبك+" الإنتاج بمعدل 2 مليون برميل يومياً.
وعودة سعر القمح الأمريكي الصلد للارتفاع بنسبة 9% بشهر سبتمبر/أيلول الماضي خلال شهر واحد، وكذلك ارتفاع أسعار الذرة، مع عدم اليقين بشأن موافقة روسيا على استمرار الممر الآمن لصادرات الحبوب الأوكرانية بعد انتهاء الاتفاق الحالي بنهاية العام، وسط اتهامات روسيا بأن الحبوب الأوكرانية لم تذهب للدول الفقيرة.
زيادة المدفوعات أكبر من زيادة المتحصلات
كذلك مع بلوغ الدين الخارجي بمنتصف العام الحالي 156 مليار دولار مقابل أقل من 56 مليار دولار منتصف عام 2016، وبالطبع ستزيد أرصدة الدين الخارجي مع قرض الصندوق المرتقب، وما يصاحبه من قروض من دول ومؤسسسات دولية وإقليمية أخرى، مما سيزيد من تكلفة الدين الخارجي المطلوبة من الأقساط والفوائد.
وكانت تكلفة الدين الخارجي من أقساط وفوائد قد بلغت خلال العام المالي 2015/2016 نحو 5.1 مليار دولار، بينما بلغت تكلفة الدين الخارجي خلال الربع الأول من العام الميلادي الحالي فقط 6.3 مليار دولار، أي أنها ستزيد عدة أضعاف عما كانت عليه.
بالطبع سيقول البعض إذا كانت المدفوعات للخارج زادت أو ستزيد، فإن المتحصلات المصرية من العُملات الأجنبية زادت وستزيد هي الأخرى، وهو أمر صحيح لكن زيادة المتحصلات لم تكن بالدرجة التي تحل بها المشكلات المزمنة المُسببة لنقص العملة، فإذا كانت الصادرات السلعية قد زادت خلال العام المالي الأخير، فإن الواردات السلعية قد زادت خلال نفس الفترة بقيمة أعلى، ولهذا زاد العجز التجاري عما كان عليه بالعام المالي السابق ليصل إلى 43 مليار دولار بالعام المالي الأخير.
ورغم زيادة المتحصلات من الصادرات الخدمية ومن تحويلات المصريين بالخارج خلال العام المالي الأخير، فقد استمر العجز بالحساب الجاري الذي يتضمن متحصلات ومدفوعات كل من التجارة السلعية والخدمية وفوائد الاستثمار والتحويلات، ليصل إلى 16.6 مليار دولار بالعام المالي الأخير.
وفيما يخص حصيلة الصادرات السلعية بالفترة المقبلة فإن توقعات صندوق النقد الدولي، التي نشرها مؤخراً حول توقع تراجع النمو العالمي بالعام المقبل إلى 2.7%، و إلى 0.5% بمنطقة اليورو و1% بالولايات المتحدة، وحدوث انكماش بألمانيا وإيطاليا والسويد، وتوقع انخفاض نمو التجارة بالعام المقبل إلى 2.5%، كل ذلك سيؤثر على الصادرات المصرية، وفيما يخص زيادة الصادرات المصرية من الغاز الطبيعي لأوروبا، فإن الشركات الأجنبية العاملة بمصر تحصل على نصف قيمة تلك الصادرات.
ورغم بلوغ العجز بالميزان الكلي للمدفوعات بالعام المالي الأخير 10.5 مليار دولار، والذي يعبر عن الفرق بين مجمل المتحصلات والمدفوعات للخارج، فإن الرقم لا يعبر عن حقيقة الفجوة الدولارية بمصر، حيث تتضمن المتحصلات القروض الخارجية، وهي القروض التي زادت بالعام المالي الأخير بنحو 18 مليار دولار، أي أن الفجوة الدولارية بإضافة القروض الخارجية إلى العجز الكلي تصل إلى 28 مليار دولار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.