منذ بدء الربيع العربي، دخلت المنطقة برمتها في حالة من الفوضى نتيجة المنظومة الأمنية الحاكمة في دول الشرق الأوسط القائمة على سياسة "الحديد والنار"، بدءاً من ليبيا وتونس، مروراً بمصر واليمن، وقبلها في العراق، وانتهاءً بسوريا، بالإضافة إلى أوكرانيا.
كل هذه الصراعات لم تكن وليدة اللحظة، ولم تكن حتى قضية عابرة، بل كنّا نسمع كثيراً عن مصطلحات ومخططات من قبيل "الشرق الأوسط الكبير" و"الفوضى الخلاقة" التي كان يرددها زعماء البيت الأبيض بين الفينة والأخرى، البعض كان يعتقد أن هذا النوع من الخطابات محض جزء من البروباغندا والدعايات الانتخابية لا أكثر، لكن في الحقيقة تبين أنه، ومنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، قررت واشنطن نقل المعركة إلى خارج حدودها خوفاً من ارتداداتها الإقليمية والدولية على أمنها القومي.
الاتحاد الأوروبي يحصد ما زرعه في السابق!
قد يقول قائل، إن الاتحاد الأوروبي ساهم بالتنسيق مع واشنطن في إشعال أزمات جديدة في الشرق الأوسط؛ لأنه يعاني اليوم من أزمات متعددة أبرزها الحاجة الملحة الى الأيدي العاملة الفتية، وبالتالي خلال العقدين المقبلين من المحتمل أن تتوقف المصانع عن العمل لأنه في نهاية المطاف تعتمد هذه القارة على الصناعة، سواء أكانت عسكرية أم مدنية، وبالتالي كل ما يحدث منذ 2011 كان مخططاً له بشكل مدروس ودقيق.
وهناك من يقول بأن واشنطن وموسكو تتبادلان الأدوار لوقف التطور الحاصل في أوروبا بعد تعاظم قوة ألمانيا الاقتصادية والصناعية وزيادة إنتاجها المحلي والاقتصادي بشكل عام، وتصاعد قوة فرنسا النووية، والخبرة البريطانية في الحروب.
وبالتالي هذا التصاعد في الصناعة والقوة العسكرية إن اجتمع تحت سقف اليورو -بحسب الاعتقاد الأمريكي- سيضعف النفوذ الأمريكي، ويدفع بواشنطن إلى فقدان السيطرة على قيادة العالم تدريجياً.
لذا من مصلحتهما أن يكون الاتحاد الأوروبي مفككاً وضعيفاً لتبقى أوروبا تحت قبضة الولايات المتحدة مهيمنة على قراراتها المصيرية.
موسكو هي الأخرى دخلت على الخط العالمي لاستغلال الضعف الأوروبي والتردد الأمريكي، بعد التدخل العسكري في سوريا لصالح النظام السوري، حيث قلبت موازين القوة على الأرض.
كل هذه التطورات والإجراءات شكّلت قناعة لدى صناع القرار بالبيت الأبيض، بأن تطور القارة الأوروبية نحو مزيد من التقدم والازدهار والتمدد الروسي في القوقاز والشرق الأوسط، كل ذلك سيعيق وسيفقد شرعية مخططاتهما في العالم، والحديث هنا عن محاولة وقف تمدد أطماع "بوتين" نحو الهجوم والسيطرة، ومحاولته فرض قواعد جديدة في المشهد الدولي.
الغزو الروسي لأوكرانيا دفع بواشنطن إلى أن تقرع أجراس الخطر، وحث حلفائها الأوروبيين على التحرك والتحضير للمواجهة المفتوحة، لأن لدى البيت الأبيض اعتقاداً سائداً بأن انتصار "بوتين" في أوكرانيا يعني أن دول الاتحاد الأوروبي ستكون الوجبة التالية له، والجميع يعلم أن سيد الكرملين في موقف لا يحسد عليه اليوم داخل جبهة أوكرانيا، وحديث بايدن الموجه له إبان عبور جيشه إلى الأراضي الأوكرانية عندما خاطبه قائلاً: "سيد بوتين، لا يحق لك تغيير الخرائط في العالم واللعب بالتوازنات الدولية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية".
وهنا، وبغض النظر عن الرابح والخاسر في هذه المعركة، تبقى حالة الفوضى ودفع الأوكرانيين إلى العمق الأوروبي هو بيت القصيد والتحدي الكبير أمام دول اتحاد القارة العجوز.
ماذا لو فتحت تركيا حدودها أمام اللاجئين للتوجه نحو أوروبا؟
لا شك أن الاتحاد الأوروبي وجد نفسه اليوم أمام أكبر أزمة تعصف به منذ الحرب العالمية الثانية، فتركيا وبحكم موقعها الجيوستراتيجي الذي يشكل حلقة وصل بين العالمين الشرقي والغربي، أصبحت هدفاً وملاذاً لتدفق ملايين اللاجئين الهاربين من الحروب والصراعات من كافة أصقاع العالم، وتحديداً من أفغانستان والعراق وسوريا باتجاه أوروبا.
نتحدث هنا عن تقديرات تشير إلى أن 10 ملايين مهاجر ولاجئ يطمحون اليوم في الوصول إلى القارة العجوز، وبالتالي الإجراءات التي تتخذها تركيا هنا وهناك على حدودها تحد من تدفقهم ولو نسبياً ووصولهم إلى أوروبا.
هنا تبدو مقولة "الاتحاد الأوروبي يحصد ما زرعه" دقيقة نوعاً ما، حيث كان بإمكان هذه القارة أن تتجنب هذه الكارثة من خلال المساهمة في إعادة الأمن والاستقرار في الدول التي تشهد الحروب والصراعات، لا أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مخططات واشنطن في الشرق الأوسط، فتدفع الثمن بمفردها.
إذ أصبحت المسألة تحت رحمة الرئيس التركي، والذي إن قرر فتح حدود بلاده أمام اللاجئين ليعبروا صوب أوروبا، ستعصف أزمات من كل الجهات بأوروبا.
ولأن المواطن الأوروبي لن يقبل بتاتاً أن يتم الاعتداء على رفاهيته ولقمة عيشه وفرص عمله، وبالتالي وصول ملايين اللاجئين إلى هذه الساحة ستفقده العديد من الامتيازات الممنوحة له من الدولة، سيشكل كل ذلك ردة فعل حتمية له، وربما يؤدي الى تساقط حكومة تلو الأخرى كما حدث مع حكومة "جونسون" في بريطانيا مؤخراً.
الخلاصة
الاتحاد الأوروبي يجد نفسه اليوم أمام تحديات جديدة، وكارثة لا يمكن الوقوف في وجهها، الحديث عن 10 ملايين لاجئ وجهتهم الأخيرة هي الاتحاد الأوروبي ليس بالأمر السهل، وصعود اليمين المتطرف في إيطاليا والمجر وفرنسا يؤزم الموقف أكثر.
حل هذا الموقف، لا يتم من خلال نصب الأسلاك الشائكة، وبناء السواتر على حدود اليونان وبلغاريا وإسبانيا، بل بالتحرك الفوري نحو الدول التي تشهد الحروب والصراعات والعمل على وقفها فوراً، والمساهمة الفعالة في إعادة الأمن والاستقرار إليها، والعمل على تحقيق طموحات الشعوب ولو بحدها الأدنى، ودعم المشاريع التنموية فيها من خلال المنظمات الدولية، والكف عن التلاعب بالمنظمات الإرهابية في الشرق الأوسط التي باتت تشكل العامل المساهم في خلق الفوضى وعدم الاستقرار.
بالمحصلة، من مصلحة واشنطن وموسكو أن تكون أوروبا ضعيفة ومفككة، وهذا لا جدال عليه، ومن مصلحة واشنطن أيضاً أن تتم الإطاحة بعملة "اليورو" على حلبة المنافسة مع الدولار، وفي حال فتحت تركيا حدودها على مصراعيها أمام ملايين اللاجئين، ستغرق أوروبا في أزمات جديدة حتماً ستؤدي الى سقوط مدوٍّ للحكومات الأوروبية واحدة تلو أخرى، وبالتالي تعود القارة الأوروبية إلى حقبة الأربعينيات من القرن الماضي، وحتى لو اتخذت إجراءات احترازية صارمة للحد من وصول اللاجئين إليها، فلن تحقق النتائج المرجوة منها وسيكون محكوماً عليها سلفاً بالفشل.
لذا بات مطلوباً اليوم من المجتمع الدولي العمل على حماية أولئك الذين يضطرون إلى الفرار من ديارهم بسبب الصراع والاضطهاد والقمع، والتدخل العاجل لإعادة الأمن والاستقرار إلى الدول المنكوبة، والتي أصبحت شبه مفلسة اقتصادياً نتيجة انزلاقها نحو حروب وصراعات داخلية، وخاصة سوريا وليبيا واليمن.
إن لم يتحرك الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه، فلن يبق مواطن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلا وسيحاول الوصول إلى هذه القارة، وبعدها لن يستطيع أحد إعادة عقارب الساعة إلى الخلف، وربما تخرج الأمور عن السيطرة، وليس مستبعداً أن تنزلق هذه القارة برمتها إلى حالة فوضى هي بغنى عنها، وبالتالي الحديث عن أزمة الطاقة في أوروبا أصبح أيضاً الشغل الشاغل للحكومات والمواطن الأوروبي على حد سواء، وتضاف إليها أزمة اللاجئين، تلكما الأزمتان اللتان باتتا تشكلان عامل رعب وقلق لدى الجميع.
والسؤال الذي بات يطرح نفسه بقوة: إلى متى وإلى أي مدى تستطيع الحكومات الأوروبية الصمود أمام أزمة الطاقة وموجة اللاجئين التي تعصف بها من كل حدب وصوب؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.