“الطالب.. طالب علم”.. هل لشباب مصر مقعد على طاولة الحوار الوطني؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/02 الساعة 10:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/02 الساعة 10:16 بتوقيت غرينتش

لم يعرف الشباب المصري في تاريخ مصر المعاصر عهداً من الخوف، مثل تلك الفترة، فالدولة تنظر إلى الشباب بنظرة ثأرية تحاول الانتقام وردّ الاعتبار لما حدث لها من زعزعة لكيانها السلطوي الاستبدادي في ثورة يناير 2011م.

ففي الجمهورية الجديدة لا تعرف متى يمكن أن تتعرّض للاعتقال، ربما كان من الواضح في البداية أن يُعتقل الشباب الذين يشاركون في تظاهرات واحتجاجات، ومحسوبون على أطراف معارضة للدولة، ولكن الآن، قد تتعرض للاعتقال لاصطحابك رواية 1984 في الجامعة، وقد تُعتقل لإخراج أغنية ساخرة، وقد تُعتقل، وتلك السمة الغالبة، بسبب منشورات على حسابك الشخصي على الفيسبوك. وقد تتعرض للاعتقال بسبب رفعك علم فلسطين في إحدى المباريات.  فالشباب المصري أصبح يعيش في حالة من التربّص، صانعة جواً من اليأس وغياب الوعي السياسي عمداً وخوفاً. 

ولكن، حين دعا الرئيس السيسي إلى الحوار الوطني، قد تأمل الكثيرون بأن تحدث انفراجة، ولكن السمة الغالبة على المناقشات والأطراف المدعوة حتى الآن يبدو أنها تتجاهل مشاكل جيل من شباب الجمهورية الجديدة، الذي تم تعقيمه سياسياً من خلال العديد من الوسائل في السنوات الماضية المنصرمة.  

نوفمبر 2013

يمكن الانطلاق من ذلك التاريخ لرصد مسببات المشكلة التي نتناولها في هذا المقال، ففي نوفمبر 2013 تم إصدار وتفعيل القانون 107 لسنة 2013 المعني بتنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية (قانون التظاهر) وهو القانون الذي يخالف الدستور الذي يكفل الحق في الفكر والرأي والتعبير في مادته 65 وحرية الإبداع الفني في المادة 67، ويحدد القانون استهداف كل تجمع لأفراد في كل مكان أو محل عام أو طريق يزيد عددهم على عشرة. ورغم أن ذلك القانون استهدف المجال العام بالشباب ودونهم من المصريين، فإن انعكاساته بالفعل على الشباب ودوائرهم التي يتمثلون فيها كانت أكبر، ما أنتج جيلاً من شباب مصر لا يعرف إلا الخوف.

"الطالب.. طالب علم"

حينما تولى الرئيس مبارك الحكم في ثمانينيات القرن الماضي، قد ورث دولة ذات حراك طلابي فعال وقوي وضاغط في العملية السياسية، وفي إطار سعيه للسيطرة خرج مبارك آنذاك بتصريح "الطالب..طالب علم وبس" ليؤكد على كفره بمشروعية السياسة داخل جدران الجامعات المصرية، رغم أن الجامعة المصرية منذ تأسيسها كانت رحاباً ثورياً مقدساً، إلى جانب كونها قبلة للعلم. ولكن، لم يستطع مبارك أن يحجّم دور طلاب الجامعات إلى حد خنقهم بشكل كامل، ولم تعرف الجامعات المصرية حالة من التحجيم والاحتواء مثلما عرفتها في عهد الجمهورية الجديدة. 

في دراسة مؤسسة حرية الفكر والتعبير عن اتحادات الطلبة وانتخاباتها خلال الفترة من 2011-2021 يمكننا أن نستنتج كيف تعرض مجال شبابي آخر للتعقيم السياسي بعد أن كان واعداً بالكثير من الآمال. 

لقد كانت الجامعات المصرية منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير قلباً للعديد من الأحداث التي دارت داخل وفي محيط أسوار الجامعات، أو من خلال طلابها الذين لعبوا دوراً في أحداث الثورة. 

ربما كانت اتحادات الطلاب ضعيفة التنظيم، ويغيب عنها الوعي الديمقراطي إلى حد ما، وهذا أمر طبيعي إذا كانت الثقافة الشعبية العامة لا تمتلك وعياً كافياً بالممارسة الديمقراطية، إلا أنها كان لها دائماً دور مهم في ترسيخ الممارسات الديمقراطية.

في أعقاب الثورة، كانت هناك العديد من النجاحات في مسائل متعلقة بالحرية الأكاديمية والحقوق الطلابية، ولكن سرعان ما أعقب ذلك ردة على تلك النجاحات، تساوقت مع سعي السلطة في أعقاب 30 يونيو إلى السيطرة على المجال العام والتعقيم السياسي للمجتمع ككل. 

حينما استكملت الدراسة في أعقاب ثورة يناير، كانت مطالب الطلاب على رأس العديد من المطالب الأخرى هي حل الاتحادات الطلابية القائمة باعتبارها "فلول" للنظام البائد، والمطالبة بإجراء انتخابات طلابية مبكرة، وقد استجاب المجلس الأعلى للجامعات برئاسة الدكتور أحمد جمال الدين إلى تلك المطالب، وحل جميع مجالس الاتحادات الطلابية بلجانها الفرعية، مع الأمر بإجراء انتخابات خلال 60 يوماً.

كانت الانتخابات التي أقيمت زاخرة بأحداث حينما يراها المرء حالياً في الجمهورية الجديدة تبدو له وكأنها لم تحدث من الأساس في مصر أبداً، فقد سُمح بالدعاية الانتخابية ومنع التدخلات الأمنية وعدم شطب أسماء المرشحين، رغم المشاركة الضئيلة لاعتراض بعض الطلاب على إجراء الانتخابات قبل وضع  لائحة طلابية جديدة تعبر عن الثورة. 

وقد شهدت تلك المرحلة محاولات اتحاد طلاب مصر إلى أن يعود للعمل من جديد بعد 27 عاماً من تعطيله، ولكن كانت محاولات كتابة مسودة أولية دائماً ما تبوء بالفشل، وكانت انعكاسات الحال تلك ليست ببعيدة عن الوضع السياسي العام الذي تمر به البلاد، والذي كان يشهد العديد من الانقسامات والتنافرات أيضاً في صنع القرار السياسي. 

وبطبيعة الحال، فإن الاخوان المسلمون كانوا الجماعة الأكثر تنظيماً آنذاك، فقد استطاعوا السيطرة على اتحاد طلاب مصر وكتابة لائحته، والتي كانت أفضل كثيراً من اللوائح السابقة التي فشلوا مع الطلاب في الإتفاق عليها، وكانت سمة تلك اللائحة أنها مكتوب بأيدي الطلاب أنفسهم ونقطة تحول فيما يتعلق بطريقة النظر إلى انتخابات الاتحادات الطلابية حيث مهّدت لبيئة تنافسية متعددة. 

وقد انعكست أحداث الشارع المصري على اتحاد الطلبة حتى وصلت إلى 30 يونيو 2013م، وفي تلك المرحلة استهدفت السلطة الجديدة الحركة الطلابية التي كانت موجودة والتي كانت من أكثر الفئات حراكاً ضدها. 

في ديسمبر 2013، حكمت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة بمنع التظاهر داخل الجامعات إلا بإذن رئيس الجامعة، بما لا يخل بأحكام القانون، وكان ذلك القانون هو بداية خنق الحياة السياسية داخل الجامعات المصرية. 

ودشن السيسي حكمه في  عام 2014 بتصريحاته أن الدولة لن تتهاون مع أي أعمال عنف داخل الجامعات.

لقد ظهر بطش السلطة جلياً في الاستهداف على يد قوات الأمن التي قمعت الاحتجاجات داخل العديد من الجامعات خاصة جامعة الأزهر، ومن لم يطله رصاص الشرطة، كان يتعرض للفصل، حيث قامت إدارات الجامعات نتيجة لتعديلات في قانون تنظيم الجامعات بفصل الآلاف من الطلاب بشكل نهائي أو مؤقت نتيجة لمشاركتهم في فعاليات سياسية داخل الجامعات. 

وقد قام مرصد طلاب حرية برصد مجموع الإنتهاكات في حق الطلبة في الجامعات في تلك الفترة، ونشرها في التقرير التالي

أما فيما يتعلق باتحاد الطلبة، فقد كانت الدولة أساساً في غنى عن أي قوى معارضة حينذاك، وحينما يتعلق الأمر باتحاد الطلاب فتكون المشكلة أسهل في علاجها، فعطلت الانتخابات الطلابية عامين واحد تلو الآخر دون أي سند قانوني، ثم عادت الممارسة الانتخابية بانتخابات مضمونة النتائج، وقد قام وزيرا التعليم العالي سيد عبد الخالق وأشرف الشيحي بتعديلات على اللائحة المالية والإدارية  للاتحادات بما يسمح بالتحكم في الانتخابات الطلابية، وأضافوا بعض الشروط الواجب توافرها في من يترشح لانتخابات الاتحادات الطلابية، والتي كان أهمها بالطبع: ألا ينتمي إلى جماعة إرهابية، والتي كان يرمز بها للطلاب ذوي الفكر الإسلامي. 

شهدت انتخابات العام 2015 انتهاكات من الوزارة التي قامت بشطب 2273 طالباً من كشوف الانتخابات، فحسمت الكثير من المقاعد بالتزكية، إلى جوار التضييق على الدعاية الانتخابية للمرشحين، ودعم بعض القوائم المحسوبة على الدولة. 

في وزارة خالد عبد الغفار المستمرة حتى اليوم، استعادت الدولة سيطرتها الكاملة على الاتحادات الطلابية، حيث أعلنت في أغسطس 2017 شروط الترشح في لائحة جديدة كارثية كان من ضمنها أن يكون الطالب مستجداً في فرقته، وذا نشاط طلابي موثق، بالإضافة إلى حسن سمعته وسيرته، وألا يكون قد وقع عليه جزاء تأديبي من قبل أو  تعرّض لعقوبة جنائية مخلة بالشرف والأمانة، وبالطبع يكون غير منتمٍ لأي جماعة أو كيان يخالف القانون، وهي الشروط التي كانت شديدة الغموض والتأويلية والرخاوة، ولكنها سهلة التطويع واللعب بها خلال إرادة إقصاء أي طالب غير مرغوب ولا يتبنى خطاً يتساوق مع ما تراه الدولة. 

لقد صنعت الدولة في الانتخابات المتتابعة من بعد انتخابات العام 2017م طلابها المخلصين المعقمين سياسياً، والذين فاز أغلبهم بالتزكية في كثير من الأحيان بسبب استبعاد الكثير من الطلاب الذين عجزوا عن موافاة الشروط صعبة الإثبات من الأساس. وقد خفت النشاط السياسي داخل الجامعات منذ خمس سنوات ويزيد، كما أنه تم تقسيم الطلاب إلى فئات يسهل التحكم فيها وقراءة تصرفاتها. 

المساحات الآمنة

يدور الشباب المصري حالياً في فلك مصطلح المساحات الآمنة، فكل النقاشات التي تدور على ساحات السوشيال ميديا يومياً هي أشبه ما تكون بإفراغ لغضب وحنق سياسي في مواضيع أخرى غير أساسية أو مهمة، ولكنها مساحات آمنة للنقاش، يرضى عنها النظام ولا تعرض صاحبها على الأغلب إلى الخطر. 

من تلك المساحات الآمنة الجديدة، تظهر جماهير الكرة في مصر، فبعد أن كانت جماهير الكرة عشية ثورة يناير تحوي فئة شبابية منظمة تدعى روابط الألتراس، شاركت في الثورة وأعقابها، أصبحت المدرجات خاوية من الجماهير ، إلا من أعداد قليلة وغير منظمة، بل وطبقية في بعض الأحيان. 

في أعقاب 30 يونيو، تمسكت الدولة بغياب الوجود الجماهيري عن المدرجات، وظلت العلاقة المتوترة قائمة بين حركات الأولتراس والأجهزة الأمنية، حتى يتسنى لها وقت تقوم فيه بتشريع العديد من القوانين التي قلصت من الوجود لحركات الأولتراس في المجال العام، وصولاً إلى حلها بشكل كامل باعتبارها حركات إرهابية يحظرها القانون المصري. 

شهدت البيئة السياسية العديد من التحولات التشريعية التي قللت في التقليل من المشاركة الشبابية في المجال العام من خلال تجريم العمل الجمعي بأشكال متنوعة، وشهدت العديد من أحكام القضاء في حق الحركات الاجتماعية لتجريم نشاطها مثل الأولتراس و6 أبريل مثلاً، وكان أهم ما في الأمر إقرار قانون التظاهر.

لقد كانت خطورة الأولتراس على النظام تتمثل في أن الفكرة التنظيمية امتدت لظهور الأولتراس السياسي المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، وهو الذي شارك في الاحتجاجات التي أعقبت 30 يونيو. 

لقد استخدمت الدولة رؤساء الأندية الجماهيرية في مواجهة جماعات الأولتراس بأنفسهم، فنجد أن مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك، هو الذي قاضى أولتراس وايت نايتس، وتسبب في اعتبارهم جماعة محظورة، بالإضافة إلى حبس سيد مشاغب قائد الرابطة.

تحولت عملية التشجيع والانتماء في مصر بدورها إلى عملية مثيرة للخوف وافتقاد الشعور بالأمان الذاتي، فعلى الرغم من حذر الدولة لمجموعات الأولتراس ومنع الجماهير فإنها لم تكن تتوانى في اعتقال الكثير من الشباب اعتباطياً في المناسبات القليلة التي تسمح بها بدخول الجماهير، وأبرزها الأحداث التي شهدتها مباراة الزمالك وأهلي طرابلس 2017م. 

كانت الملاعب شرياناً حيوياً يلتقي فيه الرياضي بالمشاكل والهموم السياسية اليومية، وبمجرد القضاء عليها وتحويل التشجيع إلى دائرة بديلة لتفريغ الغضب السياسي عبر السوشيال ميديا، أصبح هناك جيل جديد من الشباب المتحمس لناديه أكثر من قضاياه السياسية اليومية، وبالرغم من أن الدولة تقوم بمحاولة إعادة الجماهير من جديد إلى المدرجات، فإنها أوكلت تلك المهمة لشركة تذكرتي، التي تقوم بعمل جمع إحصائي لبيانات كل مشجع يحصل على تذكرة لحضور المباراة، بالإضافة إلى تزويد كل الملاعب في مصر بكاميرات مراقبة ترصد كل ما يحدث داخل المدرجات، مع التشديد على منع دخول أدوات التشجيع، أي كل ما يمنع شعور التعزيز بالهوية الانتمائية التي كانت تميز روابط الألتراس، فأصبحت مباراة كرة القدم في مصر أشبه بالذهاب إلى السيرك أو متحف.

الحرب على الإرهاب التي طالت كل شيء

استمد النظام الحالي شرعيته من دعم الشعب له فيما أسماه بالحرب على الإرهاب، إلا أن تلك الحرب على الإرهاب، وتحت مسماها أيضًأ، أصبحت حرباً مع الفنون والمبدعين في مصر، فاستمر النظام في التضييق على المجال العام حتى أصبح شبه موصد، واحتكرت النقابات النشاط الفني بالضبطيات القضائية المتتابعة، وأصبحت ممارسة الفن في الشارع نوع من أنواع التظاهر ، وكانت من الظواهر الشبابية التي انتشرت بميادين مصر بعد ثورة يناير كالمهرجانات في الشوارع ورسوم الجرافيتي، أصبحت تشن الدولة عليها الحرب بشدة، وأصبحوا فنانو الشارع محتجزين ومهددين أو منفيين بالاختيار. 

ورغم أن الإنترنت كان هو متنفس الشباب للحرية، استطاعت الدولة أن تسيطر عليه، بتهمة الترويج لأخبار كاذبة والتحريض على إسقاط أجهزة الدولة، فأصبح حاله كحال ميدان التحرير، فسحة كبيرة، محاطة بالأمن والخوف من كل اتجاه. 

في دراسة أعدتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير تحت عنوان: "لماذا لن تستطيع الإبداع في مصر؟" نستطيع أن نقرأ العديد من الإجراءات التي تتبعها الدولة ما زالت تنتج جيلاً من الشباب الخائفين واليائسين. 

فلا شيء في مصر يمكنك أن تقوم به دون الحصول على تصريح، فتصوير فيلم سينمائي قصير، أو فيديو عادي إذا تم رصده ربما يعرضك للمسائلة القانونية والسجن، وقد قامت الدولة في عهد السيسي بإعطاء جهاز الرقابة على المطبوعات، والنقابات الفنية وجهاز المصنفات الفنية الكثير من السلطات الواسعة التي تستطيع بموجبها ملاحقة المبدعين الذين يقوموا بخلق أي شيء لا يتساوق مع الاتجاه الخاص بالدولة. 

إن تلك الضربات المتتابعة التي وجهتها الجهات التنفيذية إلى المجالات العامة التي كانت تحوي الشباب، قد استطاعت أن تخضع الشباب وتميت بداخل القطاع الأكبر منهم الوعي السياسي، وبالإضافة للظروف المعيشية الصعبة، أصبح الانشغال بالنجاة اليومية هو أكبر من أي شيء، ولكن، إذا كان الحوار الوطني يعد بوطن أفضل ومساحة من الديمقراطية أكبر، فهل للشباب ومشاكلهم كرسي على طاولة ذلك الحوار؟ 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى علي
كاتب مصري
مدون مصري، مهتم بالسينما والتاريخ والمجتمع، حاصل على بكالريوس كلية إعلام القاهرة.
تحميل المزيد