من المسؤول عن “السقوط الحر” للبنان واقتصاده؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/27 الساعة 10:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/27 الساعة 10:13 بتوقيت غرينتش
زعيم "حزب الله" حسن نصر الله - رويترز

تشخيص المرض والاعتراف به هو الخطوة الأولى للعلاج. قاعدة يتفق عليها الطبيب والمريض، ويصح أن تطبق بجوانب كثيرة أخرى في حياتنا كبشر بعيداً عن الطب.

قرابة التاسعة والنصف من مساء 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ضجت وسائل الإعلام المحلية وشبكات التواصل الاجتماعية في لبنان بخبر تحرك مجموعات معترضة في وسط بيروت على قرار وزير الاتصالات حينها محمد شقير، بإدخال تعرفة وقيمتها 6 سنتات على خدمة "الواتساب".

بدأت رقعة الاحتجاجات تتسع، وكرة الثلج تكبر لتشمل ضواحي بيروت الشرقية والجنوبية، على ما اعتبره المتظاهرون، ويتفق معهم الغالبية الساحقة من اللبنانيين، بأنه وضع لا يطاق من تردٍّ في المستوى المعيشي والحقوق الأساسية والدنيا لأي شعب في القرن الواحد والعشرين من كهرباء وماء وتراكم النفايات وغلاء الاتصالات، والأهم من ذلك ربما ندرة فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة.

بعدها بيوم واحد أغلقت المصارف والدوائر الرسمية والتعليمية لقرابة الأسبوع، مع امتداد رقعة الاحتجاجات وقطع الطرق الرئيسية في عموم البلاد. ترافق ذلك مع حالة هلع لدى المواطنين والتوجه بأعداد كبيرة إلى فروع المصارف والصرافات الآلية لسحب ما تيسر من الدولار الأمريكي، مع توارد الأخبار عن انهيار وشيك بقيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار والمثبت من المصرف المركزي والحكومات المتعاقبة منذ عام 1992 عند 1500 ليرة للدولار الواحد. استمر هذا الحال من قطع الطرق والاحتجاج العفوي، غير المنظم والغوغائي بكثير من الأحيان، مع تهافت متزايد على المصارف لمدة شهرين ونصف تقريباً، أي لنهاية عام 2019.

عندها بدأت المظاهرات تفرز طائفياً كالعادة اللبنانية، إزاء رفض جزء من المحتجين لشعار "كلن يعني كلن"، والذي يتهم كل الطبقة السياسية بالتسبب بالأزمة الاقتصادية المعيشية. أصبح واضحاً مع الوقت بأن الفريق الثلاثي الذي حكم لبنان منذ اتفاق الدوحة 2008، حزب الله وحركة أمل والتيار العوني، يقف ضد حراك 17 تشرين الذي اتهموه بأنه يستهدف "المقاومة" و"العهد" ويحملهما مسؤولية هذا التردي. بمقابل ذلك، فريق عريض من مناصري ما كان يعرف بـ14 آذار ومعهم مجموعة من الناقمين على الفريقين (8 آذار و14 آذار) مع الحراك والتصعيد بالشارع لكن دون تنظيم فعلي وهامش مناورة ضيق وعدم القدرة على المبادرة. فتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية، أي الثلاثي الذي شكل عصب قوى 14 آذار سابقاً، هم أيضاً جزء من الطبقة السياسية التي حكمت منذ 1990، مروراً بـ2005 (بحالة حزب القوات) إلى عام 2019. ترافق كل ما أسلف مع وضع مصارف لبنان بناءً على تعاميم المركزي قيوداً حادة على سحب الودائع، حتى أصبحت تصرف بالقطارة مطلع سنة 2020.

وصفت تلك الأحداث من بعض المتفائلين حينها بأنه بداية ثورة تطيح بالأخضر واليابس من الطبقة السياسية الفاسدة التي حكمت البلاد لثلاثة عقود. حتى الأقل تفاؤلاً اقتنعوا لفترة وحلموا بأننا سنصبح شعباً واحداً موحداً، ونزيل بعض الوضع الشاذ السائد، حتى لو لم يطح بالطبقة السياسية الموجودة ضمن توازنات محلية وخارجية، والتي، أي الطبقة السياسية، لا تزال تمتلك قاعدة شعبية كبيرة رغم كل ما حصل ويحصل. 

لكن الحقيقة الواحدة هنا هي أننا منذ ذلك الخريف منذ ثلاث سنوات، دخل لبنان بانهيار نقدي ومالي و"ارتطام اقتصادي" كبير، وصفه البنك الدولي بأنه أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية للدول والشعوب في تاريخها المحصى إلى يومنا.

ولكن ما الذي حصل بالضبط؟ وكيف تسارع الانهيار وتعاظم إلى هذا الحد الذي جعل الكثيرين يترحمون على أيام المشاكل الحياتية "المقبولة" قبل عام 2019، مقارنة بما وصل إليه الحال اليوم في نهاية عام 2022؟

والسؤال الأبرز: من بالضبط يتحمل وزر الأزمة وكيف تتوزع المسؤوليات فعلياً بين الأطراف الداخلية التي تحمِّل بعضها هذا الوزر، كي تتنصل أمام الداخل والخارج من عبء كبير ومساءلة حتى من القواعد الشعبية والجماهيرية التي ضاق الكثير منها ذرعاً؟

هيمنة حزب الله منذ اتفاق الدوحة 2008

في فبراير/شباط 2005 اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في قلب العاصمة بيروت بانفجار ضخم، وجهت أصابع الاتهام فيه إلى المنظومة الأمنية السورية – اللبنانية الحاكمة حينها. بعد الاغتيال تصارع العرب والغرب من جهة وسوريا وإيران من جهة أخرى على لبنان. حاول حزب الله وحركة أمل أبرز حلفاء المحور السوري الإيراني استيعاب الانتفاضة الشعبية، التي أدت بتقاطع مع القرار الدولي رقم 1559 إلى خروج الجيش السوري من لبنان.

استمر الصراع بين ما أصبح يعرف بفريق 14 آذار المقرب من الأنظمة العربية والغرب وفريق 8 آذار المقرب من سوريا وإيران. 

في مايو/أيار 2008 نزل حزب الله وحركة أمل وتشكيلات صغيرة أخرى مقربة من دمشق بسلاحها إلى الشارع، بتغطية ومباركة، رغم عدم المشاركة، من التيار العوني. والأخير هو الفريق المسيحي الذي نسج في عام 2006، أي قبل سنتين اتفاقية تفاهم مع حزب الله، ليتمكن الحزب من فك العزلة الطائفية التي كان يعيشها بعد اغتيال الحريري وانسحاب سوريا.

استمرت الاشتباكات بضعة أيام فقط، فالقوى المتنازعة لم تكن متكافئة بتاتاً، وهذا ما أثبتته الأحداث على الأرض. فالحزب الذي يقول زعيمه بأنه جندي في ولاية الفقيه الإيرانية، كان يملك قرابة مائة ألف صاروخ، إضافة إلى مضادات أرضية وجوية وخبرات وتراكمات عسكرية ولوجيستية من حربه مع إسرائيل، قبل أن يقرر حل الخلاف السياسي الداخلي بالميدان. والمعارك والحروب تحدث فقط عندما يستعصي الحل السياسي. 

بعد 2008 وانتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً توافقياً بين الفريقين بعد اتفاق الدوحة، سحب الحزب وحليفه في البيت الواحد نبيه بري والحليف المسيحي الجديد خصم الأمس ميشال عون البساط من جميع القوى السياسية تدريجياً. أضحى من المستحيل تأليف حكومة لا يكون فيها لهذا الثلاثي الكلمة الوازنة، رغم التناقض والعلاقة الفاترة بين بري وعون. لعب حزب الله ولا يزال دور "المايسترو" بين الطرفين وبين الخصوم وحلفائه حتى. 

بعد الانتخابات النيابية 2009 والتي فاز فيها فريق 14 آذار انسحب وليد جنبلاط الزعيم الدرزي من هذا الفريق، في موقف واضح من عدم رغبته بتكرار أحداث أيار 2008، وميله إلى مهادنة الحزب. بدأت هيمنة حزب الله وحلفائه مع بدء تصدع فريق 14 آذار.

عند بداية الربيع العربي والثورة السورية، تشتتت أنظار الخليج والعرب بالإضافة إلى أمريكا والغرب عن لبنان ووضع الملف اللبناني في الثلاجة. مع الوقت زاد نفوذ حزب الله وحلفائه، وبدا دوره يتمدد إلى سوريا حيث أرسل مقاتليه لحماية المقامات الدينية لمواجهة ما أسماه "الخطر التكفيري".

هنا وضعت الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية والإمارات حظراً على سفر رعاياها إلى لبنان في سنة 2012، وبدأت عمليات التدقيق والغربلة بملفات الكثير من اللبنانيين المقيمين منذ عقود في هذه الدول. تبين أن بعض هؤلاء كانوا على صلة بالحزب –يحولون له الأموال ويرصدون له الأهداف- وتوج هذا بقضية "خلية العبدلي" في الكويت سنة 2015. 

جف بعدها ينبوع السياحة الخليجية والتي شكلت العمود الفقري للسياحة في لبنان، وخف التحويل المالي من الخليج إلى لبنان جزئياً مع التشديد على بعض المقيمين وتصعيب تأشيرات المقيمين الجدد القادمين من لبنان.
تباعاً، توقف الدعم الخليجي المالي والذي تكون في الماضي من هبات وودائع في المصرف المركزي اللبناني ساهمت باستقرار الليرة اللبنانية في التسعينيات وبداية الألفية. كل ما سبق، ساهم منذ عام 2012 إلى عام 2019 باختلال كبير بنمو الاحتياطي الأجنبي وتدفق العملة الصعبة إلى لبنان من دول مجلس التعاون.

إضافة إلى ذلك، ولأسباب عسكرية وجيو سياسية، يحكم حزب الله سيطرته على المنفذين الأكبر في البلاد، أي مطار بيروت ومرفأ المدينة الذي دمر جزء كبير منه بالانفجار الهائل في أغسطس/آب 2020، إضافة إلى الكثير من المعابر البرية غير الرسمية والرسمية مع سوريا. هنا، لن نغوص في مسؤولية الحزب عن الانفجار في المرفأ، ولكن استماتة الأخير بالهجوم على تحقيق المرفأ، يؤكد الهيمنة على المنفذ البحري الأكبر للجمهورية.

تغطي هذه السيطرة تجارة كبيرة لا تدخل في حسابات الدولة اللبنانية الضريبية والجمركية. لن ندخل هنا في لعبة الأرقام لندرتها، ولكن يستطيع القارئ أن يستدرك مدى الهدر المالي والاقتصاد الموازي الذي ينشأ في مناطق معينة نتيجة وجود دولتين على مرفأ واحد ومطار واحد. وللمعلومة، فإن مطار بيروت الدولي هو المنفذ الجوي الوحيد في البلاد.

الأمر نفسه ينطبق على المعابر البرية، مع الفارق هنا باستخدامها لتهريب بضائع غير شرعية ومنها مخدر "الكبتاغون" الشهير الذي بات يشكل مصدر دخل أساسياً للحزب وللنظام السوري عبر تصديره إلى دول الخليج وأحياناً عبر طرق أخرى إلى أوروبا. بهذ استطاع الحليفين الالتفاف على العقوبات الغربية التي بدأت تشتد خصوصاً مع بدء سريان قانون قيصر في عام 2019. 

دور مصرف لبنان المركزي والمصارف

يعتبر المصرف المركزي في القانون اللبناني جهة حكومية مستقلة في ميزانيتها وعملها. يترأس المركزي اللبناني رياض سلامة، منذ أن عين بحكومة رفيق الحريري الأولى عام 1992، وجددت له الطبقة السياسية مجتمعة 4 مرات، آخرها سنة 2017.

كما هو معلوم، فإن الاقتصاد اللبناني خاصة بعد الحرب كان قائماً على جذب الأموال بالعملة الصعبة من الخارج عبر مغريات بمعدلات فائدة مرتفعة، وتثبيتاً كان ظرفياً ولكنه أصبح مطلقاً لسعر الصرف (الدولار الواحد كان يساوي 1500 ليرة لبنانية من 1992 إلى 2019). 

استمر هذا النموذج حتى اصطدم بالربيع العربي والحرب السورية في سنة 2011 مع تغير سلبي بالعلاقات  اللبنانية مع العرب وحتى الغرب بعد هيمنة المشروع الإيراني على السياسة اللبنانية. بدأ تراجع التدفقات، مع قصور كامل للدولة بسياستها الاقتصادية من حيث تنويع مصادر الإنتاج أو تخفيف الاستدانة من المصارف عبر مصرف لبنان المركزي. لم يحرر المركزي حينها سعر الصرف وأبقاه مثبتاً بشكل اصطناعي من 2012 إلى 2019، وهذا خطأ جسيم يتحمل مسؤوليته بالشراكة مع الحكومات المتعاقبة.

حاكم مصرف لبنان غرق بطموحات رئاسية، فأصبح همه الوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية يوماً ما بعد تربعه على حاكمية المصرف المركزي لعقود. لم يطلق رياض سلامة جرس الإنذار في عام 2012 عن خطورة الوضع النقدي، بل ظن أن المساعدات والهبات قادمة كالعادة على نسق مؤتمرات باريس 1 وباريس 2 لدعم لبنان. 

المصارف التجارية بدورها ككل تاجر طمعت بالربح الوفير والميزانيات المرعبة والمضخمة التي لا تشبه ميزانية أي شركة تجارية في لبنان. قامت المصارف بانكشاف ضخم على الدولة، فحوالي ثلثي التسليفات ذهبت للقطاع العام، والثلث المتبقي للقطاع الخاص.

من هنا، نستطيع القول إن المصرف المركزي والمصارف يتحملان جزءاً لا يستهان به مما وصلنا إليه، وإن كان فريق من الطبقة السياسية وتحديداً حزب الله والتيار الوطني الحر يريدان إلباس المصرف المركزي والمصارف قميص عثمان وتحويلها إلى كبش محرقة وحدها بما حصل.

الخلاصة

إن حجم المشكلة السياسية الاقتصادية الحالية في لبنان كبير ومعقد، لكن الحلول تبقى موجودة. لقد كتب الكثير، ويستطيع المرء أن يكتب المجلدات عن كيفية الخروج من الأزمة، ولكن لم يذكر الكثيرون مثلثاً رئيسياً يتكون من المسؤولية والحس الوطني ووجود رجال دولة. هذا مع الأسف لا يتوفر الآن، ولكن دوام الحال من المحال، وهذا حال الشعوب والأمم.

بالنهاية، الأزمات الاقتصادية لها مدة صلاحية وانتهاء، ويأتي حلها مهما تعاظمت. لكن يبقى المدخل والبعد السياسي أساسياً جداً، ويتمثل بالخروج من لعبة المحاور والاصطفافات الإقليمية، إضافة إلى وجود نية صافية داخلياً للحل، وذلك أولاً وأخيراً بالاعتراف بالمأزق بدل حالة النكران التي تعيشها الطبقة السياسية والمصرف المركزي والمصارف.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صلاح كمال
كاتب لبناني
تحميل المزيد