لك أن تحاول جاهداً الولوج لمعجمك اللغوي لتدرك المعنى العربي للكلمتين "ethics" و"morality"، ولمَ البحث وطول العناء ولدينا "Google"؟ تشعر بالكسل، لا عليك، أُعفيك مشقة البحث، وأقول لن تجد فرقاً يذكر، المعنى العربي لهما هو الأخلاق.
بأحسن الأحوال ستجد أن كلمة "Morality" تعني الفضيلة، بينما "Ethics" تعني الأخلاق.
وعليك أن تقبل تسطيح المعلومة "الجوجلية" -نسبة لموقع Google- أي أفرغها من قالبها الفلسفي، ولك أيها القارئ الكريم أن تدرك عمق المسألة ومرادي من ذكر تفاصيلها، فاسمح لي بأن أجوب بك فيما يجول بخاطري.
ما هي الأخلاق السياسية؟
أقول، إن المنظومة الأخلاقية الغربية فرَّقت بين المعنيين، فخلقت منهما نظامين منفصلين تماماً ومتكاملين إلى حدٍ ما، أما الأخلاق (Ethics) فهي قواعد السلوك المعمول بها في تجمع بشري معين (أسرة، مجتمع، شركة، منظمة، مشفى، جامعة…)، وهي مستمدة من جهة خارجية، قد تكون ديناً، تعليمات إدارية وتنظيمية، إرشادات، ولوائح سلوكية، تُجيبك تلك المنظومة حول كيفية التصرف في كل المواقف حتى الضبابية منها. على الضفة المقابلة، هنالك الفضيلة (Morality)، وهي المبادئ الناظمة للفرد، والتي تحدد مقدار أخلاقية الفعل وفقاً للمرجعية التي يعتنقها الفرد على الصعيد الشخصي.
بناءً على ما سبق، وما يسعى كاتب السطور لتبيانه، هو تعريف الغربيين للأخلاق السياسية، إن الفلاسفة الغربيين وعلى رأسهم نيكولا ميكيافيلي قد أرجعوا حُكمهم على أخلاقية الفعل السياسي بمقدار النفعية التي يحوزها ذلك الفعل، بمعنى أن القرار السياسي وما يتبعه من أفعال مردها مصلحة الدولة بالمقام الأول، وهنا تكمن قمة الفضيلة ومنتهى الأخلاق ومبتغى الحكمة، وما وُجدت الدولة الحديثة إلا لتحقيق مصالح مواطنيها، إن المنقصة -ضمن معاييرنا الشخصية والقيمية- تغدو مثلبةً للدولة إن أدت مقصدها.
شكّلت العلاقة بين السياسي والأخلاقي معضلة لدى الإسلاميين خاصةً؛ نظراً لتبنيهم مشاريع تولي أهمية كبرى للأبعاد الدينية والأخلاقية، وقد شكل قرار حماس إعادة العلاقات مع نظام الأسد مثالاً على الفعل السياسي الإشكالي؛ بالنظر إلى مرجعيتها وموقع الاعتبارات الأخلاقية في ممارستها السياسية، فما مدى أخلاقية القرار؟ وما مدى المنفعة -إن وجدت- من تبعية ذلك القرار؟ هل مغانم القرار السياسي تفوق مغارمه؟ هل هذا القرار السياسي سيادي أم كان إملاءً؟ ما التكييف الشرعي لهذا القرار؟
الفعل السياسي العربي الإسلامي
بعد تشكل الدولة القطرية الحديثة بعيد اتفاقية "سايكس-بيكو"، لم تتواجد ما أُسميها الأحزاب السياسية ذاتية الفكر، فمنها القومي كالبعث والوفد اقتداءً بالدولة القومية في أوروبا، الأحزاب الشيوعية امتداداً لنصر البلاشفة وتصديراً لثورة البروليتاريا في الاتحاد السوفييتي، ومنهم من رأى تداعي الأمم على حاضرة الخلافة "إسطنبول" وانهيارها فأراد اجترارها من جديد وإقامة دولة الإسلام، فلا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله، ويا للمفارقة!! إذ إنه بعد قرن من اندفاع الإسلاميين نحو ميدان السياسة لم يستتب لهم الأمر في أي من البلدان.
إن الفعل السياسي العربي الإسلامي كما العلماني والقومي واليساري يفتقر إلى التنظير الأخلاقي الواقعي المستمد من عصارة ما جادت به ألباب الفقه والسياسية والقانون من كل العصور والاتجاهات الفكرية، إن الإسلاميين على وجه الخصوص مطالبون بالقياس والمقاربة لإنتاج ذاتهم الفكرية المتوافقة مع مرجعيتهم الإسلامية، والتي تلائم مجتمعات ما بعد الحداثة. إلى ذلك، فحصافة الرأي وحسن التدبير وترجيح المصالح المرجوة هو ما يجب أن يسبق الفعل والقرار السياسي.
عودة على قرار حماس بإعادة العلاقات مع النظام السوري، ففي حالة التعذر (أو الضرورة)، وما تقتضيه إكراهات الواقع وانسداد الأفق السياسي حيث تنعدم جميع الخيارات ولا يبقى إلا ارتكاب المفسدة المحدودة لأجل تحصيل المصلحة الراجحة، فهنا تُغتَفر تلك المفسدة التي جلبت المصلحة الراجحة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب.
أي إن حكم ارتكاب المفسدة هنا يأخذ درجة المصلحة الراجحة المطلوبة، والمثال المشهور لهذه الحالة هو أكل الميتة لمن اضطر إليها؛ بحيث لو لم يفعل لهلك. فمفسدة أكل الميتة هنا مُغتَفرة في مقابل تحصيل مصلحة حفظ الحياة التي هي قيمة أعلى من الامتثال للنهي عن أكل الميتة، ولقد كان الإمام ابن تيمية سباقاً إلى مناقشة مسألة إذا كان لا يتأتى فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب، وقد عدّ ذلك أصلاً يُبنى عليه "جواز العدول -أحياناً- عن بعض سنة الخلفاء، كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة"، ولكنها مقيدة لصاحب القرار، ويُشترط إثبات تحققها بالفعل وضبط آلياتها وقياسها وليس مجرد التخمين أو التقدير الحزبي أو الحركي، بل وإعادة تقييمها بشكل مستمر لضمان تحقق المصلحة المرجوة.
حاول كاتب السطور إجابة جانب من الأسئلة التي طرحها والمتعلقة بأخلاقية ومشروعية الفعل والقرار السياسي، أما المصالح المرجوة فلم تعبر عنها الحركة ولم يشفِ بيانها المقتضب غليل كوادرها ومؤيديها الرافضين للقرار، والذي أنزل الحركة ميدان "الميكيافليين" ممن لا يؤتمن عهدهم ولا تحفظ ذمتهم، وأحسبُ أن مرد الصمت هو أن دافع القرار أمني بامتياز، وهو ما يثير المزيد من الشكوك حول استقلالية القرار السياسي، ويضفي المزيد من الصمت وتسريب الأخبار دون تأكيدها أو نفيها حفيظة السوريين ممن جادوا بدمائهم في سبيل ثورتهم المجيدة، ولتحرير بلادهم من طغيان الأسد وزمرته، فيقول قائلهم إن المقاومة الفلسطينية خانت السوريين.
مقارنة غير منصفة
إن مقارنة حركة سياسية محاصرة بدول مكتملة الأركان ليس من الإنصاف في شيء، إن المنطق القويم يقتضي أن تؤازر الأمة الشعب الفلسطيني، فهو القابع تحت نير الاحتلال الأطول، ويشكل صمودهم -أي الشعب الفلسطيني- رأس حربة للأمة في صد التوسع نحو احتلال المزيد من الأرض العربية، إن أقصى ما يملكه الشعب الفلسطيني يكمن في عدالة قضيته ونبل أهدافه ومساعيه، فلا يُرتجى منه شيء من الدعم والتأييد المادي وحتى المعنوي، فمغارمه لا تحتمل وهو -أي الشعب الفلسطيني- يعاني الأمرين ولا حول له ولا قوة.
إن إخضاع المقاومة الفلسطينية لمعايير أشقائنا السوريين لهو قمة الجور، فهم أعلم الناس بأن إكراهات الواقع تلزم السياسي لا الشعب المؤيد لهم ولثوراتهم المجيدة، ولا يُقال بأن هذه بتلك، أي إن منطق إعادة العلاقات مع النظام السوري لا يفارق منطق الأنظمة المطبعة، لا فهذه السوأة التي لا تعيب إلا من يجادل بها.
أختم مقالي بالقول بأن الواقعية السياسية تلزم السياسي بقرارات مؤلمة على صعيده الشخصي والقيمي والأخلاقي، لكنها واجبة في سبيل اختراق المأزم السياسي، وأقول أيضاً إن السياسي الناجح هو الذي يوسع دائرة الممكن، ومن ثم فالفعل السياسي الذي لا يتحرك إلا في إطار الضرورة دليلٌ على فشل سياسي أو على طلب ما هو متعذر لم يُكلَّف بطلبه أصلاً. والسياسي الناجح يَضيق لديه هامش الاضطرار؛ لأن الاضطرار هو انعدام الخيارات، والمُلجَأ إلى فعل معين لا يدخل في مسمى السياسة التي هي فعل الأصلح بين الخيارات المختلفة، ولا أبرح حتى أُنهي بآية في كتاب الله أُحبها: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً) [النساء: 123].
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.