العلاقة بين الملوك وعزرائيل وثيقة؛ فالملك لا يصبح ملكاً إلا إذا قبض عزرائيل روح سلفه، بعض الملوك يموتون جسداً، وبعضهم يتآكل حياً، إذ تفلت البلاد من قبضته. لكن أمراً واحداً يمر به كافة الملوك كي يعتلوا العرش، فلكي تصبح ملكاً لابد أن تقتل ذاك الشخص حيّ الضمير بداخلك، وهذه ليست مأساة كاملة، على الأقل بالنسبة لعائلة التاج البريطاني، المتربعة على عرشٍ سُلّمه من الجماجم والجثث.
قبل 10 أيام، توفيت الملكة إليزابيث الثانية، أطول ملوك بريطانيا حكماً، عن عمر يناهز الـ96 عاماً بقلعة العائلة المالكة في أسكتلندا. وخلَفها نجلها الأمير تشارلز البالغ من العمر 73 عاماً، على كرسي العرش.
نالت وفاتها تعازي قادة العالم، ومن ضمنهم الرئيس جو بايدن، الذي قال إن الملكة مثلت "حقبة من الكرامة التي لا مثيل لها" في المملكة المتحدة!
بالنسبة لعلية القوم في بريطانيا ومحيطها الغربي، اتسم حكم الملكة إليزابيث الثانية، الذي استمر 70 عاماً، بالاستقرار والدبلوماسية. ففي عهد إليزابيث، بذلت العائلة المالكة جهداً لإبعاد نفسها عن سياسة البلاد والتاريخ الاستعماري الطويل للنظام الملكي، والحقيقة أنها أجبرت على إنهاء الاستعمار. ولكن بالنسبة لملايين الأشخاص العاديين، الذين قاسوا عواقب الاستعمار الوحشي للعائلة المالكة، ويتذوقون مرارة العنصرية داخل المملكة المتحدة وخارجها، فإن إرث الملكة سوف يعيش للأبد، في ذاكرتهم وكتبهم وأغانيهم، وفي حياتهم اليومية التي لا تزداد إلا سوءاً بعدما نهبت أوطانهم وتركزت الثروات في خزائن القصور الملكية.
بعيداً عن رصد جرائم الملكة وأسلافها، لفت انتباهي تلك الحالة من الحزن الشعبي، والكربلائيات الصحفية لموتها، كأن الحدث جلل غير متوقع!
بخلاف موكب تشييع الجثمان ومراسم الدفن الملكية والطقوس الأروسطية، كان هناك ما يشبه الطقس الاجتماعي، حيث تظاهر كثيرون بحب الملكة وراحوا يذرفون دموعاً لا يعلمون منبعها. دموع انهمرت على لندن من كافة أنحاء العالم، فبعد إعلان الحداد العام في جميع أنحاء المملكة لمدة 10 أيام، أعلنت عدة دولٍ الحداد العام على الملكة، مثل الإمارات والأردن والبرازيل والكويت وسلطنة عُمان. وقد ساد مواقع التواصل الاجتماعي موجة من الحزن على خبر وفاة الملكة إليزابيث، وتصدَّرت وسوم مثل: "#LondonBridge" و"#QueenElizabeth" و"#الملكة_إليزابيث" "تريند تويتر".
أنشودة النواح الرسمي والشعبي التي تعزفها السلطات لا ينبغي لها أن تنشز، فانبرت قوات الأمن البريطاني في اعتقال كل من عبّر عن فرحته في وفاة الملكة أو طالب بمحاسبة ماضيها الاستعماري وجرائمها، أو تجرأ ودغدغ عقول العامة بسؤال من نوعية "من انتخب هؤلاء؟" أو قال وسط الحشود "تسقط الإمبريالية"، أو كان أكثر جرأة وحمل "بيضاً" في أثناء عبور موكب جثمان الملكة بجانبه.
كما العادة، تحججت الشرطة البريطانية كغيرها في العالم، بأنها اعتقالات بهدف حفظ السلم العام. ولكن الغريب في المشهد أن تلك الاعتراضات لا تحمل في خلفيتها غضباً أو دعماً شعبياً يستدعي قلق الحكومة، فعلى سبيل المثال، أعلنت ثلاث نقابات عُمَّالية بريطانية تُمثِّل عمَّال البريد ومُوظَّفي النقل والسكك الحديدية، أنها ستُعلِّق إضراباتها المُقرَّرة؛ وذلك بعد وفاة الملكة، حيث كانت تلك النقابات تُخطِّط للقيام بإضراب ابتداءً من يوم 9 سبتمبر/أيلول الجاري؛ بسبب نزاع على الأجور في ظل ارتفاع مُعدَّلات التضخُّم بالبلاد. وهنا نتسأل: لماذا تحرص الحكومة المحافظة على قداسة هذا الطقس الاجتماعي بتلك الشدة؟
تعي أغلب الدول الأوروبية ضمنياً أهمية الطقس الاجتماعي الديني، ترى الحكومات الدين بمنظور وظيفي، فالدين عضو فاعل لإعادة إنتاج المجتمع وتعبئته، ولا فرصة أفضل من هذه لإعادة شحن بطاريات الوطنية. تزداد أهمية مثل هذه الطقوس في السياق الأوروبي الذي لم يعد الدين بمعناه التاريخي والأخلاقي كذلك، يحمل أي قيمة أو معنى للمجتمع المنغمس في نمط شديد الدناءة من الرأسمالية الجديدة. لذا، في ظل غياب الدور الحقيقي للمؤسسات الدينية، تحافظ الدولة على بعض الطقوس كآلية لإعادة إنتاج المجتمع السليم المدجن والحفاظ عليه من الانهيار.
بريطانيا ليست وحدها، ففي السياق نفسه، تحاول العديد من الدول الأوروبية استعارة القداسة من بعض ما قامت عليه، إن كانت بريطانيا تقدس عائلتها المالكة، ففرنسا تقدس علمانيتها وتعتد بها كقيم إنسانية كونية، وتذهب الدولة الفرنسية لتغليف ووضع تلك القداسة في شكل طقوس اجتماعية. فعلى غرار جلوس الملك على العرش في بريطانيا، توضع محاربة الإسلام والحد من نفوذ الكنيسة على قائمة أولويات المرشحين للرئاسة؛ حفاظاً على قداسة العلمانية الفرنسية.
تقدَّم تلك الطقوس والمبادئ المصنَّعة على أنها تقييم موضوعي منزه للعالم، ولكن تحت ذلك هي مجرد شكل آخر من إرادة القوة: الرغبة في الحفاظ على بقايا الكيان الاستعماري، حتى لو عنى ذلك السيطرة على الآخرين عن طريق الاستعباد والمكر. فبرغم التقدم والهيمنة ما زالت الشعوب البيضاء تحت تأثير التعبئة الإعلامية، وتسكر طرباً للبروباغندا الحكومية، وتخضع لسيطرة القوة. وفي غياب منظومة أخلاق مرتكزة على فلسفة قوية، وتحويل القداسة لطقوس فقط، لن يدوم شيء يعني أكثر مما نملك، كل شيء يعود إلى الشيء نفسه، كل شيء متساوٍ، كل شيء هو نفسه ومتكافئ: الصواب والخطأ، الخير والشر، وستستمر الفرائس في تمجيد الصياد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.