"بحياتي ما وصلت لها المرحلة من اليأس، مع إني أكتر حدا بيمزح وبيضحك، ربي يسّر ولا تعسّر".
هذا ما كتبته سالي حافظ على صفحتها على الفيسبوك، عشية اقتحامها فرع مصرف لبناني في بيروت، في محاولة منها لاسترداد وديعتها المحتجزة اعتباطياً فيه منذ ما يقرب من ثلاث سنوات. وكانت حافظ قد أتبعت منشورها هذا بمنشور آخر، تلاه بعشر دقائق فقط، قائلة: "زاد حملك يا دنيا، ومش كل البشر أيوب".
في ملحمته "هنرياد"، يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: "غالباً ما ربح اليأس معارك"، وكيف لا يربح اليأس معركته في نفوس اللبنانيين بعد ثلاث سنوات من أسوأ نكبة اقتصادية ومالية ونقدية يمكن أن يعيشها شعب بأكمله، في حين أنّ مسؤوليه يكتفون بالمشاهدة؟
وقد شرحت حافظ أيضاً، التي يبدو أنها ناشطة في الحراك المدني (الثورة)، على صفحتها على الفيسبوك، أنّ كلفة علاج شقيقتها من السرطان هي ما دفعها للقيام باقتحام فرع المصرف لتحصيل وديعتها، سيما أنّ شقيقتها بحاجة لدفع تكاليف السفر لإكمال علاجها في الخارج.
سالي حافظ ليست أول من يقتحم مصرفاً لبنانياً لاسترداد ما تيسر من وديعته المحجوزة فيه اعتباطياً دون أي مسوغ قانوني، لاسيما أنّ حجز الوديعة هذا مخالف لقانون النقد والتسليف الساري المفعول، فقد سبقها بالتصرف عينه خلال الأشهر الماضية كل من حسن مغنية في صور (الجنوب)، وعبد اللّه الساعي في جب جنين (البقاع الغربي)، وبسام الشيخ في الحمرا (بيروت)، وقد تلاها بسويعات رامي شرف الدين في عالية (جبل لبنان).
ومن المرجح أن تستمر حالة الفوضى الأمنية هذه، المتمثلة في اقتحام فروع المصارف من قبل المودعين، لا بل أن تتفاقم ما دامت لم تتحمل الدولة والمصارف مسؤولياتهم في هذا الخصوص، وفي ظل استفحال الأزمة المعيشية مع هبوط سعر الليرة إلى مستويات قياسية بمقابل الدولار، ومستويات تضخم جنونية، ناهيك عن غياب الخدمات الأساسية التي من المفترض أن توفرها الدولة كالكهرباء والماء، والتي يتوجب عملياً على اللبنانيين أن يؤمنوها بأنفسهم.
قبل وقوع كارثة 2019
صحيح أنّ الدولة اللبنانية هي المسؤول الأول عن الكارثة الاقتصادية والمالية والنقدية الواقع فيها لبنان منذ خريف 2019، وذلك بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة للحكومات المتعاقبة، أقله منذ انتهاء الحرب الأهلية في 1990، ناهيك عن الهدر، والفساد، والزبائنية، والمحاصصة، والمحسوبيات في التعيينات في هيكل الدولة، والصرف على قطاعات غير منتجة، ما أوصل نسبة الدين العام المتراكم (حوالي 99 مليار دولار في نهاية 2021) إلى 360% من الناتج المحلّي الإجمالي (حتى نهاية السنة المالية 2021)، ولا مجال هنا للاستفاضة حول ذلك، بل نترك أمر ذلك لأصحاب الاختصاص من الاقتصاديين.
ولكن رغم ما تقدم، لا يمكن للمصارف أن ترفع المسؤولية كلياً عن كاهلها عبر التخفي خلف الادعاء بأن الدولة اللبنانية هي المسؤول الوحيد عن خسائر المودعين، وهذا ما دأبت عليه جمعية المصارف في بياناتها التي لا تخلو من الوقاحة ومن الاستفزاز لمشاعر المودعين.
فمسؤولية الدولة ومصرف لبنان، والتي هي، كما أسلفنا، مسؤولية مؤكدة، وفادحة، وهي المسؤولية الكبرى، لا تلغي مسؤولية المصارف، إذ تبقى المصارف شريكاً أساسياً بالانهيار الحاصل، إذ إنها بالأساس أساءت أمانة المودعين، وذلك بتمويلها من ودائعهم، والهدر والفساد في الدولة عبر الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان.
كما أنّ علاقة المودع مع المصرف، الذي أودع فيه العميل جَنَى حياته، والذي بدوره (أي المصرف) أساء الأمانة، لا سيما عبر تمويل المصرف للدولة (من خلال مصرف لبنان- البنك المركزي) وهو يعلم (أي المصرف) أنّ الدولة تصرف الأموال بشكل غير مسؤول ودون القدرة على سداد ديونها للمصارف الدائنة.
المودع لم يشارك لا من قريب ولا من بعيد في قرار تمويل الدولة من قبل المصرف، أي بكلام آخر، تتوقف الصلة السببية بالنسبة للمودع عند المصرف الذي أساء الأمانة، باتخاذه القرار الخطأ بتمويل الهدر والفساد والسرقات في الدولة عبر مصرف لبنان، ناهيك عن تهريب الأموال للخارج عبر هذه المصارف.
بعد وقوع كارثة 2019
وبالإضافة إلى مسؤوليتها النسبية -التي كما أسلفنا تبقى على أهميتها ثانوية، بالنسبة للدولة وللمصرف المركزي- عن الكارثة الواقع فيها لبنان، فإنّ المصارف لم تكن منصفة بحق الأغلبية الساحقة من المودعين بعد وقوع الكارثة، فقد عاملت أناساً من "كبار القوم" بـ"سَمنة"، فأعطتهم كامل وديعتهم، وحبة مسك، وقامت بالتحويلات المصرفية نحو الخارج لصالحهم، وعاملت أناساً من عامة الشعب بـ"زيت"، فحرمتهم من جنى عمرهم إلا بعض الفتات الذي يشحذونه على أبوابها كل شهر، وهذا غيض من فيض من الأمثلة حول تعاملات المصارف، ومحسوبياتها، واعتباطيتها، وتعسفها بحق المودعين.
أما الحل فمن المؤكد أنه ليس دونكيشوتية بعض القضاة، لا سيما المحسوبين على العهد، تجاه المصارف والمصرف المركزي، والتي في كثير من الأحيان لا تتعدى كونها مجرد استعراض شعبوي، وتصفية حسابات سياسية استنسابية، لا تغني ولا تسمن من جوع.
والحل طبعاً ليس باقتحام المصارف من قِبل المودعين، وإن كان أمراً يمكن تفهّمه إلى أبعد الحدود، ومن شأنه أن يُثلج صدور الأغلبية الساحقة من اللبنانيين إلى أبعد الحدود، لا سيما بعد ثلاث سنوات من الذل والظلم والإجحاف الذي يتعرض له المودعون على أبواب فروع هذه المصارف.
ولكن اقتحام المصارف ليس الحل، لأنّ المصارف يمكن أن تتذرع بذلك للتصعيد، والإغلاق الشامل، والتضييق أكثر على المودعين عبر إجراءات أكثر صرامة وخنقاً للمودع مما هي عليه الآن، ناهيك عن أنّ اقتحام المصارف وأخذ موظفيها كرهائن يعرض حياة مدنيين أبرياء (موظفي البنوك) للخطر، لاسميا أنّهم لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يُتخذ من قرارات مصرفية تعسفية، وأنه ليس كل مرة تسلم الجرة، كما يقول اللبنانيون.
الحل هو أولاً بأن تتحمل السلطة التنفيذية ومجلس النواب مسؤولياتهم، كل حسب اختصاصاته الدستورية، لإقرار قوانين جديدة تنظم عمل المصارف على ضوء الكارثة المالية الحالية، لاسيما إقرار قانون الكابيتال كونترول وغيره من القوانين التي هي أصلاً شروط وضعها صندوق النقد الدولي لتقديم العون للبنان.
وقد تأخّر كثيراً إقرار هذه القوانين، لأسباب شعبوية تتلخص بخوف السياسيين من تحمّل مسؤولياتهم في مجابهة اللبنانيين بالحقائق، وبإجراءات غير شعبية ولكنها ضرورية، ناهيك عن الضغوط التي تمارسها جمعية المصارف لمراعاة مصلحة المصارف أولاً، وليس مصلحة المودعين قدر المستطاع، عند وضع هذه القوانين.
ولكن هذا لا يعني إطلاقاً أنه يمكن المساواة بين الضحية (المودعين) والجلاد (المصارف)، عبر القول إنّ المصارف والمودعين ضحايا لتلكؤ المؤسسات الدستورية، لا سيما مجلس النواب، كلا المصارف ليست بريئة، الضحية الحقيقية هو المودع أولاً، وليس المصرف. المساواة أخلاقياً بين المصارف والمودعين هي إجحاف أخلاقي فادح بحق المودعين، وهو يفقد من يقوم به أي مصداقية.
فالظلم اللاحق بالمودعين لا يعود فقط لتلكؤ المؤسسات الدستورية في إقرار القوانين التي يجب أن تواكب حالة الانهيار، بل هو أيضاً من مسؤولية المصارف التي يمكن أن تتلكأ في تطبيق التشريعات التي يمكن أن يقرها مجلس النواب. وفي هذا السياق فإنّ تجربة قانون الدولار الطلابي لا تُبشر بالخير، إذ ضربت كثير من المصارف هذا التشريع الوحيد الذي أقره مجلس النواب حتى الآن لمواكبة الانهيار عرض الحائط، فهي إما تمتنع عن تطبيقه، وإما تقوم بتطبيقه بمحسوبية ومزاجية كبيرتين، حسب كل مودع، وحسب كل فرع من كل مصرف، وهذا دليل إضافي ساطع- لمن يريد أن يرى- على أنّ المسؤولية فيما يتعرض له المودعون من إجحاف لا تقع فقط على المؤسسات الدستورية المتلكئة، بل أيضاً على المصارف التي تتصرف كدولة ضمن الدولة.
لذلك، الحل لا بد أن يمر أيضاً بقضاء مستقل فعلياً، ونزيه فعلياً، يسهر على تطبيق تلك القوانين التي من المفترض على مجلس النواب إقرارها، وليس بعض قضاء البيانات والنوادي الشعبوية، ولا بعض قضاء الاستعراض والإضرابات.
وبشكل أعمّ فإنّ أي تغيير فعلي في لبنان لا بد من أن يمر عبر تحجيم سلطة المصارف المتفلتة من حكم القانون، وعبر إخضاعها فعلياً لسلطة القانون. فالمصارف الممثلة بجمعيتها غالباً ما تتصرف كدولة داخل الدولة. بمعنى آخر صحيح أنّ المصارف هي مؤسسات خاصة، ولكنها بالممارسة فوق أعلى المؤسسات الدستورية، أي فوق تلك المؤسسات التي تنبثق عنها القوانين، وفوق تلك المؤسسات التي يوكل الدستور إليها تطبيق القوانين.
في لبنان، تتصرف المصارف فعلياً ككيانات فوق القانون ومحتقرة للقانون، تدهس برجلها اليمنى قانون النقد والتسليف، في فرضها لـ"كابيتال كونترول" اعتباطي لا يرتكز إلى أي قانون، وبرجلها اليسرى مجموعة من القوانين الأخرى، ومنها قانون الدولار الطلابي، معرقلة أي خطة إنقاذية لا تنال إعجابها الكامل، أو أي تفاوض جدي مع صندوق النقد الدولي إذا لم يكن بالشروط التي ترضى عنها، ناهيك عن محاولة فرض مشاريع قوانين "الكابيتال كنترول" بصيغة تكون لمصلحتها وضد مصلحة المودعين.
والأهم من كل ذلك أنه لولا المصارف والهندسات المالية الخنفشارية لمصرف لبنان، لما كان القيّمون على الدولة اللبنانية استطاعوا تأمين الأموال لاستمرارية الحالة المسخ المتمثلة بالازدواحية الدولتية بين الدولة اللبنانية والدويلة، أي حزب اللّه. بمعنى آخر فإنّ المصارف موّلت لوقتٍ طويل من جيوب المودعين الشخصية، الدولةَ التي تسيطر عليها الدويلة (أي حزب اللّه) وتتحكم بقرارها.
وعليه، فمن منطلق سيادي لا يمكن حصر التغيير بالمطالبة فقط بحصر السلاح بيد الدولة، بل يجب أيضاً معالجة العصب المالي (أي النظام المصرفي الحالي) الذي أمّن طويلاً إمكانية استمرار هذه الازدواجية، وما زال.
بالمحصلة، إنّ إصلاح النظام المصرفي يجب أن يكون مطلباً سيادياً أساسياً، وذلك لسببين رئيسيين: وقف تمويل حالة الازدواجية الدولتية في لبنان، بالإضافة إلى ضرورة إخضاع المصارف لسلطة القانون الذي غالباً ما ترفسه حالياً برجلها.
ولكن ما دامت لا تتحمل السلطات الدستورية، أي رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب (تحديداً لجنة المال والموازنة) مسؤولياتها في وضع قوانين جديدة لمواكبة الانهيار، وللَجْم المصارف وتعسفها، وما دام القضاء انتقائياً وشعبوياً في كثير من ملاحقاته، فستبقى جمعية المصارف على وقاحتها وعلى تسلطها وتحكمها برقاب المودعين، ومن الصعب جداً، لا بل من شبه المستحيل، لوم المودعين والحالة هذه على ما يمكن أن يقوم به أيٌّ منهم لوقف حالة الظلم اللاحقة بهم منذ ثلاث سنوات، من جرّاء إجراءات المصارف وجمعيتها، إضافة إلى تلكؤ المؤسسات الدستورية، وعدم جدية جزء معتبر من القضاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.