منذ إعلان مصر مؤخراً رفع أسعار الفائدة، وترك عملتها للتحرك أمام الدولار، نهاية مارس/آذار الماضي، فقد الجنيه المصري أكثر من 18% من قيمته، ها هو يستعد الآن لموجة ثانية من الانخفاض. هبوط سعر صرف الجنيه الحالي هو الأكبر منذ "التخفيض المفاجئ" لقيمة العملة عام 2016.
يأتي التخفيض القادم، أو تعويم الجنيه، تماشياً مع رؤية المؤسسات المالية القائلة إن العملة المصرية مُقيمة بأكثر من ثمنها بنحو 10%، وفقاً لسعر الصرف الفعلي الحقيقي لها، ووفقاً لـ"بلومبرغ إيكونوميكس" يحتاج الجنيه إلى التراجع أمام الدولار لمساعدة الاقتصاد على التكيف وتقليص فجوة التمويل في مصر، وهو نفس ما يريده صندوق النقد الدولي من مصر، حيث يضع شرط المرونة في سعر صرف العملة كشرط أساسي لإقراض مصر.
خفض قيمة العملة لم يعد خياراً أمام الحكومة المصرية، وإنما فرضاً عليها، بسبب الموقف الضاغط للاقتصاد المصري، وهروب الاستثمارات الخارجية من مصر، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي، وارتفاع الدين الخارجي إلى مستويات غير مسبوقة، والتزامها بدفع مستحقات الديون وفوائدها، ومطالب صندوق النقد الدولي.
ما ضاعف من حدة أزمة الاقتصاد المصري الحالية التي لم يسبق لها مثيل هو أن الحكومة المصرية وجدت نفسها أمام واقع لم تحاول تغييره، إذ لا تمتلك القاهرة اقتصاداً قوياً يرتكز على التصنيع والتشغيل والاستثمار المباشر، وليس لديها صادرات تساعدها على رفع قيمة عملتها، وبالتالي أصبح اللجوء إلى خفض العملة أمراً محتوماً، سواء تم ذلك بشكل منظم وبوتيرة بطيئة أو بشكل قاس ومفاجئ.
على الأرجح، ستتبع الحكومة المصرية نهج التخفيض التدريجي للجنيه المصري، وهذا ما جاء في تصريح هشام عز العرب لوكالة "رويترز"، ليعبر عن السياسة النقدية التي ستتجنب الصدام المفاجئ، حيث قال عقب اختياره مستشاراً لمحافظ البنك المركزي: "أعتقد أن المحافظ الجديد سيذهب بشكل أسرع من حيث تعديل العملة، ليس تخفيضاً مفاجئاً، ولكن بوتيرة أسرع".
أيضاً، عبّرت وزيرة التخطيط ورئيسة صندوق مصر السيادي الدكتورة هالة السعيد عن هذا التوجه في المقابلة التي أجرتها لتلفزيون "بلومبرغ" مؤخراً، حيث قالت إن الحكومة المصرية تفضل الآن سعر صرف أكثر مرونة لدعم الاقتصاد، وأشارت إلى انفتاحها على إدارة أكثر مرونة للعملة.
مع بدء مصر تطبيق سعر الصرف المرن للعملة، يختلف المستثمرون والمحللون على قيمة الانخفاض اللازمة لحلحلة الوضع المتأزم، وترى "بلومبرغ إيكونوميكس" أن العملة تحتاج العملة إلى الانخفاض بنحو 23%، في حين قد يساعد تراجع الجنيه في تخفيف الضغط على الميزان التجاري في مصر، وجعل فجوة التمويل أكثر قابلية للإدارة، رغم أنه سيؤدي أيضاً إلى ارتفاع مستويات التضخم، المرتفعة بالفعل.
ومع الخفض المحتمل لسعر صرف الجنيه المصري وتعويمه أمام الدولار، نناقش الخيارات المتاحة أمام الحكومة المصرية لتحسين الاقتصاد والخروج من المأزق الحالي، وهل هناك إمكانية لأن تستفيد مصر من خفض قيمة عملتها؟
ما الذي يحدث بعد انخفاض قيمة العملة؟
تسعى العديد من الدول إلى تخفيض قيمة عملتها من أجل أن تتمتع بميزة تنافسية، لأن انخفاض قيمة العملة يحل مشكلة العجز في الميزان التجاري. والميزان التجاري يعني ببساطة قيمة الصادرات مقابل الواردات، وحدوث عجز في الميزان التجاري يعني أن قيمة الواردات أكبر من الصادرات، وبالتالي تلجأ بعض الدول لتخفيض قيمة عملتها، لأن ذلك سيرفع من قيمة صادرات الدولة في الخارج، ويجعل منتجها أرخص سعراً في الخارج، وبالتالي يكون أكثر تنافسية.
كما أن انخفاض قيمة العملة أمام باقي العملات سيرفع من تكلفة الواردات القادمة إلى الدولة، وهذا ما يدفع المستهلك المحلي إلى استبدال المنتجات المستوردة بالبدائل المحلية، وبالتالي سيرتفع الطلب عليها.
دول تتعمّد خفض قيمة عملتها
هناك العديد من الدول التي تتعمد خفض قيمة عملتها، بهدف زيادة تنافسية صادراتها، بما يخفض قيمة شرائها بالعملات الأجنبية الأخرى، وتدخل هذه الدول باستمرار في حرب عملات، وتنافس على من يقوم بخفض عملته بقيمة أكبر، ومن هذه الدول: اليابان، وفيتنام، وكولومبيا، والبرازيل، وبالطبع تأتي الصين في مقدمتهم.
ولا تترك الصين عملتها تتحرك في الأسواق بحرية، إذ تعمل الحكومة الصينية طوال الوقت على تقييد حركة عملتها ضد الدولار الأمريكي في الأسواق، بهدف تحسين قدراتها التنافسية، وفي أغسطس/آب 2019، خفضت الصين من قيمة عملتها أمام الدولار، ليصل إلى 7 يوان مقابل الدولار، وكان القرار الصيني يهدف إلى خفض قيمة المنتجات الصينية في الولايات المتحدة، كجزء من الحرب التجارية المتبادلة بينهما.
ونلاحظ أن سياسة خفض قيمة العملة تخدم أكثر الدول الصناعية الكبرى، التي تمتلك نسبة عالية من الصادرات، وفي حالة مصر فإنها قد لا تخدمها، لأن مصر تعتمد بشكل أساسي على الواردات، ولكن هل تستطيع مصر تغيير ذلك والعمل على رفع صادراتها وتقليل الواردات.
ارتفاع الصادرات المصرية
تُعاني مصر من عجز في الميزان التجاري، وانخفاض في الصادرات مقابل ارتفاع ضخم في الواردات، ولكن مؤخراً ومع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وتراجع ما لدى البنك المركزي المصري من احتياطات أجنبية، وازدياد فاتورة الواردات بفعل انخفاض الجنيه أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية، لجأت الحكومة المصرية إلى تحجيم وارداتها وإيقاف الاستيراد بشكل شبه كامل، حتى تقتصر وارداتها على السلع الأساسية من القمح والمحروقات.
وفي الوقت نفسه عملت الحكومة المصرية على رفع صادراتها إلى الخارج لتعويض تراجع الاحتياطي الأجنبي، وركزت على المنتجات البترولية، وقفزت قيمة صادرات مصر من الغاز الطبيعي والمسال بنسبة 98% خلال أول أربعة أشهر من العام الجاري، مقارنةً بنفس الفترة من العام الماضي، لتصل إلى 3.892 مليار دولار.
وتتوقع وكالة "بلومبرغ" أن تصدّر مصر 8.2 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال هذا العام، بسبب ارتفاع أسعاره الفورية في أوروبا، الأمر الذي حفّز الحكومة المصرية على زيادة إنتاج الغاز لدعم صادراتها.
وبسبب ارتفاع صادرات مصر البترولية، أشار بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في أغسطس/آب الماضي، إلى تراجع العجز في الميزان التجاري بنسبة 35.8% على أساس سنوي، وأوضح أن العجز انخفض ليبلغ 2.61 مليار دولار في مايو/أيار، بعدما كان بقيمة 4.06 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، وذلك بدعم زيادة الصادرات وتراجع الواردات.
وارتفع إجمالي الصادرات 18%، مسجلة 4.01 مليار دولار في مايو/أيار، مقابل 3.39 مليار دولار في الشهر نفسه قبل عام، وتراجع إجمالي الواردات في مصر بنسبة 11.1%، لتبلغ 6.62 مليار دولار مقابل 7.45 مليار دولار قبل عام.
كيف تستفيد مصر من تعويم الجنيه؟
بعد الانخفاض المحتمل لسعر صرف الجنيه المصري، أمام مصر الكثير من التحديات فيما يخص تقليل عجز الميزان التجاري، لأن فاتورة الواردات بالطبع سترتفع تكلفتها، وبالتالي فإن عليها تقليل اعتمادها على الواردات، بشرط ألا يتسبب ذلك في تعطيل القطاع الصناعي، الذي يعتمد جزء كبير منه على المواد الخام والآلات وقطع الغيار المستوردة، التي لا يتوفر لها بديل، وهو القطاع الأساسي التي تعتمد عليه الصادرات المصرية، والعمل على تنمية القطاع الصناعي لم يعد رفاهية بالنسبة للدولة، في ظل سعيها لزيادة الصادرات.
إذاً فبعد انخفاض العملة المصرية من الممكن أن نقول إن الخبر السيئ للمواطن المصري، أن التضخم بطبيعة الحال سيزداد بمستويات أعلى من المستويات الحالية، بالإضافة إلى الارتفاع المتوقع في أسعار السلع والمنتجات المستوردة، وربما يتطور الأمر إلى عدم توافرها في الأسواق.
أما الخبر الجيد، فإن صادرات مصر في الخارج ستشهد ارتفاعاً بعد أن تصبح أسعارها رخيصة وأكثر تنافسية في الأسواق العالمية، ومن المتوقع أن الأسواق المصرية بعد تخطي مرحلة الصدمة بسبب ارتفاع أسعار البضائع المستوردة ستشهد عملية تصحيح، يلجأ فيها المستهلكون إلى البحث عن بدائل محلية، وهو ما سيساعد على تنشيط الصناعة المحلية وتوفير فرص عمل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.